نشرت مجلة فورين أفيرز الأمريكية في عدد مايو / يونيو 2022 مقالاً كتبه كينيث إم بولاك، وهو زميل أول في معهد المشروع الأمريكي (أمريكان إنتربرايز إنستيتيوت)، بعنوان: “الشرق الأوسط يمقت الفراغ”، حيث يتوقع الكاتب أنه سينشب صراع بين دول المنطقة على تحقيق التفوق العسكري وقيادة الشرق الأوسط في أعقاب خروج الولايات المتحدة من المنطقة، بهدف ملء الفراغ المترتب على ذلك.
قد يبدو الأمر ضرباً من الخيال، لكن ربما يصل الأمر إلى أن ينظر المراقبون قريباً إلى أواخر القرن العشرين على أنها كانت فترة استقرار نسبي في الشرق الأوسط. وعلى الرغم من عدم خلو تلك الفترة من الصراعات وحالات الفوضى، إلا أن العنف نادراً ما كان يؤدي إلى حدوث تغييرات دراماتيكية مفاجئة آنذاك. فلم يتم غزو أي دولة وإزالتها من الوجود كُلّية. وكان الحكام الدكتاتوريون يغدون ويراحون، لكن لم يحدث أن تغيرت معالم الحدود بين الدول أو حتى الأنظمة الحاكمة، إلا قليلاً. حيث توقفت معظم الدول الكبرى في المنطقة عن محاربة بعضها البعض بشكل مباشر اعتباراً من عام 1973؛ وفضّل البعض انتهاج أسلوب ‘الإرهاب والتمرد’ – استراتيجيات الضعفاء – على انتهاج الهجوم المباشر المرتبط بالحروب التقليدية. لقد استغرق الرئيس العراقي صدام حسين والزعيم الليبي معمر القذافي وقتاً أطول للتعلم واستيعاب الدروس. على أن صدام، في واقع الأمر، لم يكد يتعلم شيئاً على الإطلاق. لكن كليهما (صدام والقذافي) كانا في الحقيقة يمثلان الاستثناء الذي يثبت القاعدة.
كان أساس هذا الاستقرار النسبي هو وجود نوع من التوازن العسكري المتفاوت في الشرق الأوسط، والذي أثبت أنه عصي على التغيير. ربما كان هناك نوع من الفوضى في المستويات العليا، لكن أساسيات الأمن في منطقة الشرق الأوسط ظلّت صلبة كالصخر. فعلى أحد جوانب المشهد، كانت الولايات المتحدة آنذاك قوية للغاية، وقادرة على هزيمة أي خصم إذا أرادت تفعيل عناصر القوة التي لديها للقيام بذلك. ولم تكن إسرائيل بعيدة عن المشهد، حيث أعطتها كفاءتها العسكرية المذهلة التي اكتسبتها وإمكانية حصولها على الأسلحة الأمريكية بسهولة، قدرة، تكاد تكون مماثلة، على استخدام القوة على مدى واسع. وفي الجانب الآخر من المشهد، كانت الدول العربية تبدو عاجزة عن شن الحروب الحديثة بشكل فعّال، حتى لو كان ضد بعضها البعض. وكانت إيران وتركيا في موضع ما بين الطرفين، لكن حالتهما كانت أقرب إلى الأضعف منها إلى الأقوى.
وبالنظر إلى هذه التفاوتات في القوى، دأبت الولايات المتحدة وإسرائيل على استخدام القوة بانتظام ضد أعدائهما الخارجيين. ونظراً لأن كليهما كانا يدافعان بقوة عن بقاء حالة “الوضع الراهن”، فقد كانا يميلان إلى العمل على الحفاظ على النظام السائد آنذاك بدلاً من إعادة تشكيله. وهنا أيضاً، تبرز حقيقة أن الاستثناء يثبت القاعدة. حيث استخدمت إسرائيل القوة لمحاولة تغيير لبنان عام 1982 ودفعت ثمن ذلك من خلال ثمانية عشر عاماً من حرب العصابات التي لم تثمر شيئاً في نهاية
المطاف. وكذلك فعلت الولايات المتحدة الشيء نفسه في العراق عام 2003، وحصلت أيضاً على مصير مماثل لما طال إسرائيل في لبنان.
ونتيجة لذلك، فلم تشهد منطقة الشرق الأوسط حرباً تقليدية كبرى بين الدول منذ أكثر من 30 عاماً. والاستثناء الجزئي الوحيد كان حرب لبنان عام 2006، حيث شنت إسرائيل الحرب على حزب الله، الكيان الحاكم الفعلي للبنان. ومع ذلك، فقد كان هذا أيضاً بمثابة الاستثناءً الذي يثبت القاعدة. فلا أحد يريد الحرب. وكلاهما تعثر فيها وأصيب الجميع بصدمة شديدة جراء النتائج التي حصدوها من الحرب لدرجة أنهم لم يحاولوا تكرار أخطائهم منذ ذلك الحين.
كل ذلك بدأ يتغير فيما بعد. ففي السنوات الأخيرة، بدأت الشرنقة الصلبة للتوازن العسكري في الشرق الأوسط في الانهيار، وعلى إثر ذلك بدا وكأنه قد أصابت المنطقة لعنة “فوريوس”[1]، أو آلهة الانتقام، ولكن في القرن الحادي والعشرين، والتي تهدد بإعادة تشكيل المشهد في المنطقة. ومع ظهور تقنيات عسكرية ومدنية جديدة، وبينما تفكر الولايات المتحدة في بخفض انخراطها في الشؤون الداخلية للمنطقة، تجد دول الشرق الأوسط بشكل متزايد صعوبة في تحديد من له اليد العليا الاستراتيجية في المنطقة. فمن خلال إقناع الحكومات بأنها قد تنتصر بفضل أسلحة جديدة غير مجربة، فإن بزوغ عصر حرب المعلومات يهدد بتمزيق القوانين الجيوسياسية التي حكمت الشرق الأوسط لما يقرب من نصف قرن.
موجة المستقبل
تتغير طبيعة الحرب باستمرار. حيث تبحث البشرية بشغف وبلا نهاية عن طرق جديدة لقتل نفسها بنفسها، إذ لا توجد حرب مثل سابقاتها. لكن في بعض الأحيان، يمكن أن تكون تلك التغييرات عميقة. وعادةً ما تكون التغييرات أكبر في أعقاب التحولات الاقتصادية واسعة النطاق، لأن أهم التغييرات التكنولوجية العسكرية تنبع إلى حد كبير من التطورات التكنولوجية غير العسكرية. فالسكك الحديدية، والتلغراف، وااللاسلكي، والطائرات، ومحركات الاحتراق الداخلي، وأسرار الذرة – كل ذلك تم السعي له في البداية لأغراض مدنية. ولكن بمجرد اكتشافها أو اختراعها، تم تطبيقها بسرعة في صناعة الحروب، وكانت التغييرات التي أحدثتها هذه الاكتشافات تحويلية جذرية.
وكما أعادت الثورة الصناعية تشكيل طرق القتال تماماً في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فإن ثورة المعلومات تفعل نفس الشيء اليوم. ومثلما استغرقت الجيوش في جميع أنحاء العالم ما يقرب من قرن من الزمان لفهم الشكل الأخير للحرب في العصر الصناعي – من حيث كيفية خوضها بشكل صحيح، وبالتالي كيفية التنبؤ بشكل دقيق بالقدرات العسكرية النسبية – كذلك فإن الجيوش تحاول فعل نفس الأمر اليوم أيضاً، من اكتشاف كيفية خوض الحروب في عصر المعلومات. فهناك تقنيات جديدة ناشئة، لكن لا أحد يعرف حتى الآن أي منها ستكون له الهيمنة في الحرب وأيها سيثبت الواقع أن دوره سيكون هامشياً.
وغالباً ما تتبع التغييرات التكنولوجية العميقة في ميكانيزم الحروب مساراً مشابهاً عبر ثلاث مراحل، تماماً كما استخلصت أنا والخبير العسكري جاي ميشو. فالتكنولوجيا الجديدة عادة ما تكون بدايتها على أنها أكثر من مجرد استحداث معين. خُذ على سبيل المثال أول طائرة جرى استخدامها في الحرب العالمية الأولى. حيث كانت الطائرات في بدايتها بالأساس عبارة عن آليات غريبة وركيكة يتم قيادتها جواً لأغراض الاستطلاع. ولكن بعد ذلك بدأ الطيارون في إدخال الأسلحة إليها لاستخدامها في إطلاق النار على الطيارين الأعداء، وسرعان ما استُخدمت في إلقاء القنابل على قوات العدو. وعلى الرغم من أنه لم يكن لأي من هذه التطورات تأثير حاسم على نتيجة القتال على الأرض، إلا أن الكثيرين بدؤوا يرون مدى تلك الإمكانات.
حيث تؤدي تلك الإمكانات إلى المرحلة التي تليها، عندما يُنظر إلى التكنولوجيا العسكرية الجديدة غالباً على أنها الحل السحري للمشكلة ما قائمة. فمع انطلاق الحرب العالمية الأولى، على سبيل المثال، بدأت القوة الجوية تنبئ بطرق جديدة لتوجيه ضربات مباشرة إلى وطن العدو وقاعدته الصناعية وسكانه وحتى حكومته. وبعد الحرب، أخذ الجنرال الإيطالي والمُنظِّر العسكري جوليو دوهيت هذا المفهوم إلى نهايته المنطقية، وحتى إن لم تكن عملية. حيث اقترح أن القوة الجوية يمكن أن تتخطى بالكامل المذابح التي تنتج عن الحرب البرية، مما يتيح انتصارات سريعة وحاسمة بأقل قدر من إراقة الدماء – على الأقل للجانب الذي يمتلك أكبر وأفضل قوة جوية.
وفي نهاية المطاف، أثبتت بعض التقنيات الجديدة أنها ذات قيمة كبيرة لدرجة أنها تؤدي إلى تطوير مجالات المجابهة والاشتباك الخاصة بها، تماماً مثل الأعمال العسكرية التقليدية المخصصة للقيام بذلك. حيث وصلت الطائرات والغواصات والمركبات المميكنة إلى تلك المرحلة الثالثة خلال العصر الصناعي. فاحتاجت الدول إلى قوات جوية قوية تكرَّس جهودها لشن عمليات جوية مستمرة، وحتى في حال ارتباطها بقوات برية أو بحرية. وأصبحت الحرب الجوية مجالها الخاص في الاشتباك والمجابهة، ولكنها أيضاً داومت على التفاعل بشكل روتيني مع الحرب البرية والبحرية، وجمع المعلومات الاستخبارية، والقدرات اللوجستية، وقوة الإنتاج، والقيادة والسيطرة. ويمكن أن تتحول ميزة القوة الجوية إلى مزايا في جوانب أخرى من الحرب – على أن الجوانب الأخرى للقتال يمكن أن تهدد أيضاً قدرة الجيش على متابعة العمليات الجوية. فبحلول الأيام الأولى من الحرب العالمية الثانية، كانت القوة الجوية في نفس الوقت حاسمة في حد ذاتها وإن كانت تؤدي إلى عمليات في جميع المجالات الأخرى.
لا يعرف أحد حالياً ما هي ابتكارات ثورة المعلومات التي قد توسع نطاق جميع المراحل الثلاث وتؤدي إلى تطوير مجالات حربية حاسمة جديدة. ويبدو أن التكنولوجيا الإلكترونية هي المرشح الأكثر ترجيحاً لتحقيق ذلك، على الرغم من الفوائد المحدودة التي جنتها روسيا منها خلال المراحل الأولى من غزوها لأوكرانيا مؤخراً. فمن السهل تخيل حرب معلومات ناضجة تنطوي على معركة مستمرة بين المحاربين السيبرانيين وهم يسعون إلى تحطيم نظرائهم وحماية أنفسهم، ويتنافسون على الهيمنة في الفضاء الإلكتروني. وفي الوقت نفسه، سيتطلع المقاتلون السيبرانيون إلى مهاجمة القوات الحركية للعدو، واللوجستيات، والإنتاج، والنقل، والقيادة والسيطرة. ومن المحتمل أيضاً أن يكونوا عرضة للهجوم من قبل الوحدات الحركية المعادية. وبالإضافة إلى ذلك، فتماماً كما فعلت الحرب الجوية، قد تجعل الحرب الإلكترونية بعض الجوانب القديمة من الصراع أقل فعالية أو حتى تجعلها قد عفا عليها الزمن. وتماماً كما أنهت القوة الجوية في نهاية الأمر عصر المحاربين العظماء الذين سادوا على مدى آلاف السنين، كذلك فقد تقلل الأسلحة الإلكترونية من جدوى أسلحة أو تكتيكات أخرى أو تخرجها من الخدمة. وكما هو الحال مع الحرب الجوية، فكل ذلك سيحدث بشكل متزامن ومستمر وسيتفاعل مع جميع عناصر القوة العسكرية الأخرى. وعلى الرغم من أن هذا يبدو سيناريو محتملاً للحرب السيبرانية، إلا أنه ما زال من السابق لأوانه الجزم به.
لم يكن ظهور الحرب الإلكترونية هو التغيير التكنولوجي الوحيد الذي يهدد بإحداث ثورة في عالم الحروب. ففي العصر الصناعي، كان الصراع يعرف بـ ‘المنصات الميكانيكية’: الدبابات والسفن الحربية والطائرات وما إلى ذلك. ولا يزال هذا المفهوم قائما. وعندما يريد المحللون تقييم القوة العسكرية لدولة ما أو لتقدير ثِقل طرفين في الحرب، فإنهم يحسبون على الفور تلك ‘المنصات الميكانيكية’ التي بحوزة كل منهما: كم عدد الدبابات التي لديهم؟ ومن أي نوع؟، وكم عدد الطائرات؟، وكم عدد كل نوع من أنواع السفن لديهم؟ وكما قال عالم السياسة باري بوزين ذات مرة خلال إحدى المحاضرات قبل عقود، أنه بعد الثورة الصناعية، تحولت الجيوش من إمداد الرجال بالسلاح (تسليح الرجال) إلى إمداد السلاح بالرجال (بغرض التشغيل). لذلك كان الواقع أن أصبحت الأسلحة أكثر أهمية من الرجال.
لكن كان من الصعب خلال العصر الصناعي استخدام تلك ‘المنصات’، وكان من الصعب دمجها في العمليات المشتركة، وكان من الصعب إصلاحها وصيانتها، وكان من الصعب حتى إنتاجها. لقد كان يتحتم على الأفراد أن يكونوا شديدي البراعة في استخدام آلات الحرب والتكتيكات المعقدة التي ظهرت من أجل تحقيق الحد الأقصى من التأثير في استخدام هذه الأسلحة. وقد أدت الصعوبات في استخدام مثل هذه الآليات وتنفيذ العمليات العسكرية بشكل أمثل إلى تباينات كبيرة في فعالية مختلف القوات المسلحة. فبعض الجيوش – مثل ألمانيا في أوائل القرن العشرين والولايات المتحدة وإسرائيل في النصف الأخير من القرن العشرين – كانت رائعة في ذلك. ولكن لم تستطع الكثير من الجيوش الأخرى استيعاب تلك الأمور بشكلها صحيح: وكان أقلها في ذلك جيوش الدول العربية، وذلك لأسباب سياسية واقتصادية وثقافية متنوعة. ومع نهاية تلك الحقبة، فهمت معظم الأطراف هذه الاختلافات جيداً.
وتضع الذخائر الجديدة، اليوم، أهمية تلك ‘المنصات’ نفسها على المحَكّ بشكل متزايد. فخلال العصر الصناعي، قامت معظم الآلات الحربية بنثر المقذوفات الخاملة – الرصاص والقنابل والشظايا – وهي أكثر تلك الأسلحة بلاهة. وحتى الطوربيدات والصواريخ فقد كانت بالكاد موجَّهة في معظم تلك الفترة. فقد أولت هذه التكنولوجيا غير المتطورة استخدام المنصات نفسها أولوية أكبر من مدى إحداث التأثير الناتج عن استخدامها، حيث كانت تلك المنصات هي التي تناور وتتعاون وتستهدف؛ أي تقوم في الواقع بأداء 99% من العمل. ومع مرور الوقت، أصبحت الذخائر الذكية – وبشكل متزايد، تلك الذخائر الذكية التي تعتمد على آليات الذكاء الاصطناعي – أصبحت تقوم بكل ذلك بنفسها. ويمتلك العالم الآن ذخائر ذكية منذ ما يقرب من خمسة عقود، والتي أصبحت بشكل متزايد هي الآلات المهيمنة في أي ساحة من ساحات المعارك.
وتُعتبر الطائرة المقاتلة (F-35) من الجيل الخامس هي أحد الأمثلة على هذا الاتجاه، حيث تُعَدُّ من أشرس المقاتلات، وفوق ذلك، فهي بمثابة نظام متحرك لتوصيل وتوجيه الذخائر. وعلى الرغم من أن مقاتلة (F-35) لا تُشبه واحدة من مقاتلات العصر الصناعي التي كانت تُصمم بالأساس من أجل المناورة المعقدة وإطلاق الذخائر الفتاكة، إلا أن ذخائر الطائرة تستطيع أن تصل إلى الهدف المحدد بمجرد أن يضعها نظام الطائرة في النطاق الصحيح. إذ تحتوي طائرة (F-35) على مجموعة من أجهزة الاستشعار المتطورة وأنظمة الاتصالات القادرة على الارتباط بمجموعة معقدة من أجهزة الاستشعار (وأجهزة إطلاق النار) الأخرى، بالإضافة على حيازتها لقدرات هائلة على التخفي والحرب الإلكترونية اللازمة لاختراق الدفاعات الجوية.
وتمثل مجموعة قدرات المقاتلة (F-35) موجة أخرى من الحروب المستقبلية، بما في ذلك: أجهزة استشعار رائعة مرتبطة بذخائر بعيدة المدى بنفس القدر من الروعة يتم تشغيلها من خلال برامج رائعة لإدارة المعركة، وكلها مدعومة بالذكاء الاصطناعي. وفي مثل هذا العالم، لن تقوم تلك المنصات الميكانيكية سوى القليل جداً من العمل. حيث ستقوم الذخائر بكل المناورات والإجهاز، مسترشدة بمعلومات مباشرة من أجهزة الاستشعار وتوجيهها في نهاية المطاف بواسطة برامج إدارة المعركة القادرة على تتبع معلومات أكثر بكثير مما يستطيعها أي إنسان. معاً، وقد تتمكن هذه الأدوات معاً في القريب بتحديد الأهداف والتهديدات على الفور، وتخصيص الأسلحة المناسبة لتدميرها، وإطلاق الأسلحة بشكل متعدد وعلى نحو متكرر.
حروب الطائرات المسَيّرة
وبالرغم من أن مقاتِلة (F-35) والأسلحة المعقدة المماثلة لها باهظة الثمن، فبعض دول الشرق الأوسط لديها ما يكفي من الثروة لدفع ثمنها، وهي أيضاً ملتزمة بما يكفي للدفاع عن نفسها، وهي في نفس الوقت على علاقات ودية مع الولايات المتحدة تكفي للحصول عليها وامتلاكها. والطائرات التي تمتلكها إسرائيل من طراز (F-35) تعمل حالياً بالفعل. وبعدها سوف تحصل الإمارات العربية المتحدة هذه المقاتِلة، ومن المحتمل أن تحصل عليها السعودية كذلك في نهاية المطاف. ومع ذلك، فإن احتمالية حصول دول مثل مصر والعراق والأردن عليها أقل من ذلك بكثير. ولكن، مع ذلك، فإن تلك الدول الأقل ثراءً وذات العلاقات الجيدة مع الولايات المتحدة لا يزال بإمكانها الحصول على طائرات مُسيَّرة.
وتَبرز الطائرات بدون طيار بسرعة كمكون حيوي هام في حرب عصر المعلومات. فكثير منها رخيص الثمن: تشبه إلى حد ما ألعاب الأطفال المحسّنة والتي تنشر الموت بطرق خبيثة. ولأنها غير مأهولة، فإن تلك الطائرات المُسيّرة تجذب الدول التي تنأى عن التضحية بمواطنيها في أتون الحرب. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الطائرات المُسيّرة تُعَد هي نفسها ذخيرة حرب المعلومات في
نهاية المطاف. حيث يمتلك العديد منها نطاقاً كبيراً للعمل، وأجهزة استشعار مدمجة، وقدرات اختلاسية، والقدرة على تنفيذ ضربات دقيقة. ويمكن للعديد من الطائرات بدون طيار الرخيصة التهرب من رصدها عن طريق تقنيات باهظة الثمن، بما في ذلك رادارات الإنذار المبكر والدفاع الجوي التقليدية. كما يصعب تدميرها بأسلحة دفاع جوي باهظة التكلفة، وهي دقيقة بما يكفي لإلحاق أضرار مؤلمة بالأهداف المعرضة للخطر.
وعلى الرغم من أن الطائرات المُسيّرة ليست قادرة على فعل كل شيء، إلا أن هناك إمكانات هائلة لتحسين قدراتها الذاتية لتتناسب مع الإجراءات المضادة المستقبلية وربما حتى تفوقها بمراحل. وتعمل العديد من الدول على استخدام طائرات مُسيّرة يمكنها تجنب الاكتشاف بسهولة، وكذلك استخدام أسراب المُسيّرات المصممة للتغلب على الدفاعات، وأسراب المُسيّرات الصغيرة التي يمكنها القيام بالأمرين معاً. وتعمل الدول أيضاً جاهدة للتغلب على أحد نقاط الضعف الرئيسية للطائرات بدون طيار، وهي حاجتها إلى شكل من أشكال التوجيه من مُشَغّل على الأرض. فيمكن لأنظمة القيادة والتحكم المتطورة والطائرات المُسيّرة ذاتية الأداء الموجَّهة بالذكاء الاصطناعي أن تقضي على هذه الإشكالية، وإن كان يصاحب ذلك خطر خطأ الخوارزميات التي قد تسبب الخراب بشكل غير مقصود. وقد تُقيد المخاوف من مثل تلك الأضرار الجانبية الدول الملتزمة بالأخلاقيات العامة، أو إحدى سُلطات الوضع الراهن التي تتطلع إلى تجنب التصعيد بشكل غير مقصود. لكن قد تكون مثل تلك المخاوف بلا معنى بالنسبة للجماعات الإرهابية العدمية أو لدولة منخرطة في صراع وجودي أو تلك التي تقاتل من أجل تحقيق مكاسب مهمّة.
ومنذ 75 عاماً، ظلت منطقة الشرق الأوسط أكبر مختبر للأسلحة في العالم. فقد اختبر جميع صانعي الأسلحة الكبار أحدث آلات القتل في حروب المنطقة، بما في ذلك السوفييت في مصر، والأمريكيين في العراق، ومؤخراً الروس في سوريا. والطائرات بدون طيار لا تختلف عن ذلك في شيء؛ فهي تسيطر بشكل متزايد على حروب الشرق الأوسط – بل وحتى تقلب التوازن العسكري في المنطقة، سواء تلك المسيّرات منخفضة السعر بشكل صادم إلى تلك المسيّرات باهظة الثمن التي يتم استخدامها في المنطقة.
فتركيا، على سبيل المثال، استعادت اليوم الكثير من مجدها العثماني. بعد أن اكتشف الأتراك الطائرات المُسيّرة. فبينما يرى بعض الخبراء أن القوات التركية لم تتمكن في سنوات مضت من دحر المتمردين الأكراد أو مقاتلي الدولة الإسلامية (داعش) بشكل كامل، برغم الفخر الذي كانت تُبديه أنقرة لبراعة جيشها، إلا أن كفتها قد رجحت مؤخراً، بل وبدأت تستعيد مجدها السابق، بسبب تلك المُسيّرات. ففي عام 2020، حاصر الجنرال الليبي المنشق خليفة حفتر طرابلس، عاصمة ليبيا، وبدا الأمر حينئذٍ بأن المسألة كانت مجرد مسألة وقت قبل أن يستولي حفتر على المدينة. وبعد ذلك، نشرت أنقرة جيشاً من المستشارين والطائرات المُسيّرة التي مكّنت الحكومة المركزية الليبية من تدمير قواته وإجباره على الدخول في مفاوضات سياسية. وفي نفس العام، شنّ النظام السوري هجوماً كبيراً على معقل المعارضة في مدينة إدلب، مستخدماً قوة مدرعة أعيد بناؤها بمساعدة إيرانية وروسية. وهناك أيضاً، انقض سرب من الطائرات المسيّرة التركية على طوابير المعدات والقوات السورية أثناء تحركها شمالاً – مدمرة تلك المعدات القديمة المتهالكة. ومؤخراً، في وقت لاحق من عام 2020، مكّن أسطول آخر من الطائرات بدون طيار التركية دولة أذربيجان من هزيمة القوات البرية الأرمينية في أحدث جولة من القتال على إقليم ناجورنو كاراباخ الذي كانت تسيطر عليه أرمينيا.
وليس الأتراك وحدهم من يستفيدون من الطائرات بدون طيار. لقد احتضنتها إيران أيضاً، وقدمتها – جنباً إلى جنب مع المستشارين والتدريب والتوجيه – لمختلف حلفائها ووكلائها في جميع أنحاء الشرق الأوسط. ففي سبتمبر 2019، قصفت إيران مركز ضخم لتكرير النفط السعودي الضخم في أبقيق بنحو عشرين طائرة مسيّرة وثلاثة صواريخ كروز. واستطاعت الطائرات بدون طيار الإفلات من الدفاعات الجوية واسعة النطاق حول الموقع، وتمكنت من إيقاف ما يقرب من نصف إنتاج النفط السعودي لعدة أسابيع.
ومنذ ذلك الحين، قام حلفاء إيران ووكلاؤها بضرب القوات الأمريكية في العراق وسوريا بطائرات مُسيّرة وشنّوا حملة جوية مستمرة ضد المملكة العربية السعودية، نفذها نيابة عنهم الحوثيون من اليمن في أغلب الأحيان (ولكن ليس بشكل كامل). وقد كانت تلك الهجمات فعّالة بشكل ملحوظ من حيث النتائج التي أوصلت إليها. ولكي نتمكن من فهم أسباب موافقة السعوديين على مضض على الدخول في
محادثات مباشرة مع الإيرانيين في بغداد في مايو 2021، بعد سنوات من المماطلة الدبلوماسية، فإن علينا أن نتذكر أنه في أبريل 2021، تعرّضت المملكة لهجوم بطائرات مُسيّرة وصواريخ باليستية وصواريخ كروز أطلقها الحوثيون ووكلاء آخرين عن إيران لـ 84 مرة. وجدير بالذكر أيضاً أن السعوديين وافقوا على المحادثات فقط بعد أن حاولوا في بداية الأمر شراء طائرات مسيّرة تركية ولكنهم فشلوا في إتمام ذلك. واعتباراً من يناير وفبراير 2022، تعرّضت الإمارات أيضاً لهجمات دورية من طائرات مسيّرة وصواريخ، أطلقها ميليشيات الحوثيين في اليمن وميليشيات الحشد الشعبي في العراق، وهي مجموعات مسلحة مرتبطة فقط بالاعتماد المتبادل على إيران.
وقبل عشرين عاماً، كانت إيران وكذلك تركيا أقل من أن تستخدما القوة ضد جيرانهما. حيث كان يمكنهم بالكاد محاربة المعارضين بالداخل من البلوش والأكراد. ولكن اليوم، تبرز الدولتان قوتهما عبر الشرق الأوسط بشكل كبير. فقد أخمدت تركيا الحرب الأهلية في ليبيا وسوريا. وقد تكون إيران قد شنّت أول حملة جوية فعالة حقاً في تاريخها ضد السعودية، مما أجبر الرياض على الجلوس إلى طاولة المفاوضات التي لم تكن تفكر في اللجوء لها أبداً. وقد واجه الإماراتيون أيضاً نفس الموقف؛ ولذلك فهم لا يقدّمون فحسب تنازلات استباقية للإيرانيين، على المدى القصير؛ بل إنهم يبذلون أيضاً كل ما في وسعهم لبناء جيش من الطائرات المُسيّرة الخاص بهم، على المدى الطويل.
خروج أمريكا
ليست التغييرات في التكنولوجيا العسكرية هي العامل الوحيد الذي يساهم في إعادة تشكيل التوازن العسكري في منطقة الشرق الأوسط. فعلى مدى ما يقارب الخمسة قرون، كانت القوة الخارجية العظمى دائماً بمثابة القوة المهيمنة في المنطقة والضامن النهائي للأمن بها. فقد غزا الأتراك العثمانيون جزءاً كبيراً من منطقة الشرق الأوسط في منتصف القرن السادس عشر وحكموه لما يقارب الأربعمائة عام. وعندما أفل نجم العثمانيين في الحرب العالمية الأولى، تولّى البريطانيون زمام الأمور ولعبوا تقريباً نفس الدور على مدار الخمسين عاماً التالية، حتى تخلوا عن التزاماتهم الإمبراطورية شرق السويس في عام 1968. وفي النهاية، تولت الولايات المتحدة المسؤولية وتحملت العبء، على مضض، على مدى نصف القرن التالي.
وبدءاً من عهد الرئيس الأمريكي باراك أوباما، بدأت الولايات المتحدة في التنصل من هذا الدور، وفك ارتباطها بالمنطقة بشكل مطرد حتى مع إصرار إدارته على التأكيد على أنها لم تفعل شيئاً من هذا القبيل. وفي عهد الرئيس دونالد ترامب، أصبح خروج الولايات المتحدة من المنطقة أكثر وضوحاً وأكثر خزياً كذلك، حيث تخلت واشنطن عن بعض الحلفاء الإقليميين وحرّضت على آخرين – حيث غالباً ما كانت تتقلب من موقف إلى آخر بشكل عشوائي. ومن جانبه، يواصل فريق الرئيس جو بايدن إبلاغ أصدقاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط أن الرئيس الأمريكي لا يريد المزيد من الانسلاخ عن المنطقة، بل إنه يرغب في إعادة الانخراط فيها في بعض النواحي. ومع ذلك، فإن آلاف المطالب الأخرى التي تحتاج إلى وقت وطاقة وموارد واشنطن تجعل كل ذلك الخطاب موضع نقاش. فقد يرغب بايدن في الانخراط من جديد، لكنه لديه فقط القليل من القدرة على القيام بذلك.
لقد خلق الخروج الأمريكي من الشرق الأوسط فراغاً أمنياً في المنطقة. ولذلك، فإن أكثر القوى عنفاً وعدوانية وإخلالاً تسارع الآن لملء ذلك الفراغ – بقيادة إيران وحلفائها. فمن أدنى مستوياتها في عامي 2010 و 2015، بعد زيادة القوات الأمريكية في العراق والانهيار الوشيك لحليفهم السوري، قامت طهران ومجموعة وكلائها – نظام الأسد في سوريا، والحوثيين في اليمن، وحزب الله في لبنان، والجهاد الإسلامي وحماس الفلسطينيتان في قطاع غزة، ومجموعات من القتلة من المليشيات الشيعية القادمة من أفغانستان والعراق وباكستان وسوريا – بإعادة بناء أنفسهم من خلال استغلال الحروب الأهلية التي اندلعت في المنطقة ومهاراتهم المكتسبة في الحروب غير التقليدية. وجاءت هذه الإستراتيجية مباشرة من أفكار الجنرال الإيراني قاسم سليماني – من حيث إرسال الميليشيات بدلاً من العسكريين النظاميين – وقد وسّعت تلك التحركات النفوذ الإيراني في جميع أنحاء العراق ولبنان وسوريا واليمن.
وقد أثار النفوذ الإيراني الذي ازدهر في المنطقة والتراجع غير اللائق للولايات المتحدة منها ذعر حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة. ودفع ذلك البعض إلى التجمع معاً بطرق لم يكن أبداً تصورها من قبل. فعلى سبيل المثال، انضمت البحرين والمغرب والسودان والإمارات إلى مصر والأردن في دفن الأحقاد مع إسرائيل من خلال التوقيع على اتفاقيات أبراهام معها. ويبدو أنه من المرجح أن تحذو السعودية حذوهم في ذلك، وإن لم يُتوقع أن يتم ذلك قبل وفاة الملك سلمان. حيث أتاح العداء السابق بين هذه الدول وإسرائيل قد أفسحت المجال لتقدير عملي لقوة تل أبيب العسكرية واستعدادها لاستخدامها ضد إيران. واحتفى الكثيرون بهذه الصداقة الجديدة باعتبارها تؤذن بنهاية الصراع العربي- الإسرائيلي. وحتى لو وضعنا جانباً حالة البؤس التي يعيشها الفلسطينيون والتي لم يتم حلها حتى الآن، فإن مثل هذه النظرة تتجاهل حقيقة أن هذا تحالف حربي لا يزال في طور التكوين، وأن هدفه النهائي هو القتال وليس تحقيق السلم. وفي نفس الوقت، تجمعت قطر وتركيا ونصف ليبيا معاً، قد يُعزيه البعض إلى تعاطفهم مع جماعة الإخوان المسلمين.
وفي أعقاب غياب الولايات المتحدة الطويل، تتنازع دول المنطقة في كثير من الأحيان، ويتوقع معظمهم أن يصبح ذلك هو الوضع الطبيعي الجديد. فالسعوديون والإماراتيون، على سبيل المثال، قاموا في عام 2015 بالتدخل في الحرب الأهلية الدائرة في اليمن لمنع توسع النفوذ الإيراني. وعلى الرغم من أن تدخلهم تسبب في وقوع التهديد ذاته الذي سعوا إلى استبعاده والتخلص منه، إلا أنهم اتخذوا هذا الإجراء بشكل صريح لأن الولايات المتحدة لم تفعل شيئاً حيال مكاسب إيران الإقليمية ولم تقوما بذلك إلا بعد مطالبة إدارة أوباما مراراً وتكراراً بالتصرف بدلاً منها حيال الأمر. وقد قصفت إسرائيل أهدافاً إيرانية في سوريا مئات المرات على مدار العقد الماضي وركزت اهتمامها مؤخراً على الميليشيات المتحالفة مع إيران في العراق. وتخوض كل من إيران وإسرائيل حرباً سيبرانية تصاعدت مؤخراً لتشمل الهجمات سيبرانية إيرانية على المستشفيات الإسرائيلية وهجمات إسرائيلية على محطات الغاز الإيرانية. في تلك الأثناء، تواجه القوات التركية في ليبيا وكلاء عن الروس والإماراتيين، وفي سوريا تواجه النظام السوري والقوات الإيرانية.
وحتى الإرهاب، والذي يُعتبر الشغل الشاغل لواشنطن منذ فترة طويلة في الشرق الأوسط، فقد أصبح تدريجياً مشكلة ثانوية أيضاً. وذلك لأن الإرهاب هو استراتيجية الضعفاء، وأن التحولات في الحروب بالمنطقة سمح للدول التي كانت ضعيفة في السابق بالانخراط في المزيد من العمليات العسكرية التقليدية. وهذا تطور مقلق لكل من الولايات المتحدة والشرق الأوسط معاً.
وبالتالي، فإنه يبدو أن انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة سيطلق العنان لصراع يمكن التنبؤ به بسهولة بين دول الشرق الأوسط حول من سيأخذ مكان الولايات المتحدة ويكون على رأس المنطقة. والبعض على استعداد للقتال بشدة وبدأب للفوز بهذا التاج، والبعض الآخر على استعداد للقتال بنفس القدر من القوة لمنع شخص آخر – أو بالأحرى لمنع أي شخص – من السعي وراء ذلك. وحتى لو فشل الجميع، فإن العملية ستكون دموية ومزعزعة للاستقرار بالمنطقة. وقد يطال أثرها أيضاً المناطق المجاورة، إن لم تحرقها نهائياً.
ضباب الحرب
إن ظهور الطور الجديد من التكنولوجيا وتراجع القوة المهيمنة هما بمثابة مزيج قابل للاشتعال، وبالتالي يؤدي إلى إشعال المنطقة. فمن المعروف أن الحروب تكون أكثر شيوعاً عندما لا يستطيع الناس تقييم التوازن العسكري بدقة. ولم يكن هذا واضحاً في أي مكان قط أكثر من وضوحه في منطقة الشرق الأوسط منذ الحرب العالمية الثانية. وعلى مدى 25 عاماً، من 1948 إلى 1973، كانت الدول العربية تعتقد أنها أقوى مما كانت عليه في الواقع. ولكن خوض خمس حروب مع إسرائيل خلصهم تماماً من هذا الاعتقاد. وفيما بعد ذلك، لم تحاول أي منهم تحدي إسرائيل بشكل مباشر مرة أخرى. ففي الواقع، كانت الهزائم التي منيت بها معظم الدول العربية ‘ساحقة’ – وكانت التداعيات السياسية لها ‘شديدة التهديد’ – لدرجة أنها توقفت تماماً، أو إلى حد كبير، عن محاولة استخدام القوة العسكرية التقليدية كأداة للسياسة الخارجية.
وتقدم الحرب العراقية-الإيرانية مثالاً آخر على هذه الدينامية. فخلال الصراع، طوّر الإيرانيون قدرات سمحت لهم بالفوز بسلسلة من المعارك ضد العراق في الفترة ما بين عامي 1981 و 1982. لكن طهران أساءت فهم حدود هذه القدرات وحاولت على مدى ست سنوات أخرى غزو العراق نفسه، لكن هُزمت من قبل الجيش العراقي الذي تم إصلاحه إلى حد ما على الأرض ومن القوة البحرية الأمريكية في البحر. وقد علم ذلك الإيرانيين مدى ضعفهم حقاً. ثم تحولت إيران إلى المناورات التي قللت من احتمالية إثارة رد عسكري أمريكي تقليدي. وعلى الرغم من أن البلاد لم تتخلَّ أبداً عن طموح المرشد الأعلى لها، آية الله روح الله الخميني، بالسيطرة على المنطقة، إلا أنها تخلت عن فكرة أنها تستطيع فعل ذلك بالقوة العسكرية التقليدية. وبدلاً من ذلك، تحولت إلى التخريب وحرب العصابات والإرهاب وغيرها من وسائل الهجوم غير المباشرة وغير التقليدية.
وفي العراق، كان صدام حسين من جانبه هو الاستثناء الذي أثبت القاعدة. فقد هاجم صدام الكويت في عام 1990 على الرغم من أنه كان يعتقد أن الولايات المتحدة قد تقاتل نيابة عنها (عن الكويت). ولكن، وكما اتضح من المحادثات المسجلة والوثائق التي تم جمعها بعد سقوط بغداد عام 2003، كان صدّام زعيما موهوماً للغاية دأب على تشويه الواقع بشكل منتظم ليناسب مخططاته. وقد حذّره أعضاء من دائرته المقربة من محاربة الولايات المتحدة، لكنه رفض تحذيراتهم لأنه كان يعتقد أن الجيش العراقي أقوى من الجيش الأمريكي. لقد تطلب الأمر من زعيم موهوم مثل صدام أن يعتقد أن دولة عربية يمكن أن تهزم الولايات المتحدة. لم يكن هناك أي شخص آخر بهذه الدرجة من الغباء.
وفي العقد الماضي، بدأ كل هذا اليقين الإستراتيجي في الانهيار. إنه ينهار جزئياً لأنه ليس من الواضح ‘مَنْ’ أو ‘ما’ الذي ستدافع الولايات المتحدة بالفعل عنه في منطقة الشرق الأوسط. فإذا لم ترد الولايات المتحدة عسكرياً على الهجوم الإيراني الصارخ على ‘أبقيق’ (بالسعودية)، القلب النابض لإنتاج النفط في الخليج، وبالتالي الاقتصاد العالمي، فما الذي سترد عليه عسكرياً إذن؟ هذا هو عدم اليقين الجديد الرئيسي في إطار الوضع الاستراتيجي بالشرق الأوسط.
كما أن اليقين في التوازن العسكري القديم في الشرق الأوسط آخذ أيضاً في الانهيار بسبب التحولات في التكنولوجيا العسكرية. ومع ترسيخ أدوات الحرب الجديدة، ستكون بعض الدول حتماً أكثر قدرة على استخدامها من غيرها. وفي الوقت الحالي، حققت إيران وتركيا على الأقل من دول الشرق الأوسط، أقصى استفادة من هذه التغييرات – لاستعادة النفوذ العسكري الذي كانتا قد فقدته منذ قرون. لكن المحللين، وكذلك القادة، لا يعرفون ببساطة أي الدول سينتهي بها المطاف بالفوز وأيها سيخسر، ذلك لأن هذه التغييرات الجذرية تعيد توزيع القوة عبر الشرق الأوسط كله. فلم يكن من الواضح، على سبيل المثال، أن دولة السويد ستصبح قوة عسكرية في القرن السابع عشر أو دولة بروسيا في القرن الثامن عشر، أو أن كلتا القوتين ستتراجعان بشكل كبير بعد ذلك.
وبالإضافة إلى ذلك، فإنه في أوائل القرن العشرين، كان يبدو أن المملكة المتحدة ستكون الفائز الأكبر في التحول العسكري الذي أحدثته الثورة الصناعية. حيث كانت قد قادت تلك الثورة وكانت مسؤولة عن معظم ابتكاراتها التحويلية الكبرى. كما أنها اخترعت العديد من أدوات الحرب الرئيسية في ذلك العصر، بما في ذلك: المحرك البخاري، والغواصة، والدبابة، والسفينة الحربية الكبيرة، والقاطرة، والمدفع الرشاش، وحاملة الطائرات، والرادار، والسونار، والمحرك النفاث، وهذا فقط على سبيل المثال لا الحصر. ومع ذلك، فقد تراجعت المملكة المتحدة من القوة العسكرية الأقوى في فترة ما قبل الثورة الصناعية إلى قوة متوسطة خلال العصر الصناعي. وكان تراجعها نتيجة عدم القدرة على استخدام هذه الأسلحة بشكل فعّال بقدر ما كان نتيجة التدهور الاقتصادي المطلق الذي تعرضت له.
والمغزى من هذه القصة هو أن المراقبين من الخارج قد لا يعرفون ببساطة الدول (أو الجهات الفاعلة غير الحكومية) التي ستُثبت أنها الأكثر قدرة على شن الحرب في القرن الحادي والعشرين. وحتى يرى المحللون والقادة العسكريون وقادة الدول المراجعة والتدقيق الخاص بالمعركة، فربما لن يعرفوا ذلك. إن التدريبات وقت السلم، والمناورات، والتمارين العسكرية، وحتى العقيدة العسكرية والتعليم يمكنها أن تكشف الكثير فقط (ولكنها لا تقدم معلومات قطعية). ودون أن تقاتل الدول، فإنه من المستحيل معرفة أيها كانت استعداداتها في مرحلة ما قبل الحرب هي الأكثر فاعلية، وأي منها كان يفهم بشكل أفضل ما الذي جعلته التقنيات الجديدة ممكناً. ومن المهم دائماً أن نتذكر أنه في مايو 1940، كان كل مجتمع الخبراء العسكريين العالميين تقريباً يعتقدون أن فرنسا لديها جيش أفضل من ألمانيا، وأنها قد تعلمت دروس الحرب العالمية الأولى بشكل أفضل. ولكن التدقيق أثناء المعركة فقط هو الذي كشف أن العكس كان هو الصحيح.
ومن المرجح أن يكون هذا الدرس أكثر أهمية اليوم. ففي العصر الصناعي، كان بإمكان المخططين إحصاء الدبابات والطائرات والسفن الحربية لكل جانب – بغض النظر عن مدى صعوبة محاولة الحكومات إخفائها. ولكن يكاد يكون من المستحيل قياس قدرات الجيوش لشن حرب ما في عصر المعلومات. وكما أشارت المحللة العسكرية راشيل كرامر، فإن التعتيم يُعتبر شرطاً لا غنى عنه للحرب الإلكترونية، مما يجعل من المستحيل تقريباً معرفة القوة الحقيقية لأي من الجانبين حتى يفوز أحدهما ويخسر الآخر. وفي الفضاء الإلكتروني، إذا علمت الدولة أن خصمها قد وجد ثغرة أمنية، فإنها تسعى على الفور لسد الثغرة، وبذلك تختفي ميزة الخصم. فالشفافية في ذلك هي الموت، والتخفي هو كل ما يهم. وكل ذلك يجعل من الصعب معرفة من هو الضعيف ومن القوي وما هو مقدار ذلك.
عدم اليقين
وخلال الفترة من عام 1948 إلى عام 1973، لم تكن الدول العربية قد فهمت بعد مدى ضعفها، ولم يكن الإسرائيليون قد عرفوا أيضاً مكامن قوتهم الحقيقية. وطّوّر الإيرانيون بعض القدرات الجديدة غير المتوقعة خلال السنوات الأولى للحرب الإيرانية- العراقية والتي أخافت جيرانهم (وكذلك الولايات المتحدة)، ولكنهم بعد ذلك بالغوا في تقدير مدى قدرة قواتهم بالفعل. ومن البداية حتى النهاية، كان صدام يبالغ في تقدير القدرات العسكرية العراقية. وفي كل حالة، أدى سوء الفهم هذا إلى نشوء صراعات أكثر، وأسوأ، وأطول أيضاً. وعلى النقيض من ذلك، فإنه مع الحرص والتركيز على التوازن العسكري الحقيقي في المنطقة، تَراجَع عدد الحروب في الشرق الأوسط وتضاءلت شدتها. وكما حذر الأثينيون ذات مرة أهل ميلوس، فإن ‘الأقوياء يفعلون ما يحلو لهم’، أما الضعفاء فهم الذين يعانون. وسواء كانت تلك معادلة عادلة أم لا، إلا أنها طريقة فعالة للحفاظ على السلام.
واليوم، هناك أسئلة أكثر بكثير من الإجابات المتوفرة حول الحرب. إن غياب حالة اليقين سيعطي الفرصة لأولئك الذين يأملون في استخدام ‘العنف’ لتغيير ظروفهم. وقد يُقنع الضعفاء بأنهم أقوياء وقد يُضعف الأقوياء بطرق قد تستدعي تحديات غير متوقعة.
وكلما زاد ضباب الحرب على المنطقة، زاد احتمال تعرض تلك المنطقة لأهوال الحرب. إن الفهم الواضح للتوازن العسكري في الشرق الأوسط الذي كان يوماً ما أساس استقراره النسبي ينهار الآن أمام رياح التغيير التكنولوجي والاستراتيجي الجديد. ولذا يجب على الجميع الاستعداد لإعصار الصراع المستقبلي في منطقة لا تحتاج إلى المزيد من الصراع.