• اخر تحديث : 2024-05-15 19:58
news-details
مقالات مترجمة

إن المواجهة العسكرية الحالية بين روسيا وأوكرانيا ليست صراعاً عرقياً بطبيعة الحال. فالأوكرانيون والروس الإثنيون يقاتلون اليوم على جانبي خط المواجهة. وعلى عكس الاعتقاد السائد في موسكو، فإن القومية الراديكالية ليست القوة الدافعة الوحيدة، أو حتى الرئيسية، وراء المقاومة الأوكرانية العنيدة.

علاوة على ذلك، لا يمكن اعتبار هذه المواجهة صراعاً دينياً، كما هو الحال في العديد من النزاعات في الشرق الأوسط. إذ لطالما كانت كل من روسيا وأوكرانيا دولتين علمانيتين، ويجب عدم المبالغة في تقدير أهمية النهضة الدينية المستمرة في كلا البلدين. كما إنها ليست نزاعاً حدودياً تقليدياً، على الرغم من أن الملفات الحدودية التي لم يتم حلها تبقى عقبة رئيسية أمام أي تسوية سلمية بين موسكو وكييف.

في نهاية المطاف، يكمن في قلب الصراع الحالي عدم توافق الأساليب المختلفة تماماً لتنظيم الحياة الاجتماعية والسياسية داخل البلدين، اللذين شكلا معاً في يوم من الأيام جوهر الفضاء السوفياتي.

فاختيار الكوادر الإدارية وتنظيم دعاية الدولة، والتعبئة السياسية للسكان والتخطيط للعمليات العسكرية، وكذلك التفاعل مع الأصدقاء والتواصل مع المعارضين.. في كل هذه المجالات وفي العديد من المجالات الأخرى، يذهب النموذجان المتنافسان إلى ما بعد الاتحاد السوفياتي نحو خيار ما يمكن وصفه باختبار الانهيار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي Crash test (اختبار الطوارئ أو اختبار الاصطدام)، الذي يمكن أن تكون لنتائجه تداعيات طويلة المدى تتجاوز حدود روسيا وأوكرانيا.

يحلو للعديد من الخبراء الروس القول بأن المساعدات العسكرية الغربية الضخمة وغيرها من المساعدات هي السبب الوحيد لعدم انهيار أوكرانيا واستسلامها حتى الآن. لكن هذا المنطق لا يفسر كثيراً مسألة مصادر التحفيز للمجتمع الأوكراني. لنأخذ على سبيل المثال أفغانستان، حيث فشل كل الدعم العسكري الهائل طويل الأمد وغيره من الولايات المتحدة وشركائها في وقف تقدم طالبان، ومنع السقوط السريع لنظام الرئيس أشرف غني في كابول.

بالطبع، ليس من الصحيح تماماً المقارنة بين أوكرانيا وأفغانستان، لكن الحقائق السياسية، في رأينا، أكثر من واضحة: ففي حين أن الأفغان في عام 2021 لم يكونوا متحمسين للقتال الجاد من أجل بلدهم ومن أجل قيمهم، كان هناك عدد كبير جداً من الأوكرانيين يمتلكون هذا الدافع في عام 2022.

يمكن تقديم ثلاثة سيناريوهات على الأقل لكيفية انتهاء العملية العسكرية الخاصة لروسيا على أراضي أوكرانيا، وستكون لكل نتيجة عواقب جيوسياسية ضخمة.

إذا هُزمت موسكو بشكل حاسم في هذه المواجهة الملحمية، فسنرى على الأرجح إحياء لـ"أحادية القطب" في السياسة العالمية،على الرغم من معارضة بكين الوازنة لمثل هذا التطور. فالانتصار المقنّع لأوكرانيا سيجعل من الممكن أخيراً حسم الإشكالية التي كافح الغرب من أجلها من دون جدوى لأكثر من 30 عاماً، وهي "ترويض" و "تدجين" روسيا ما بعد الشيوعية.

كما أن حل هذه المشكلة، بدوره، سيسمح للغرب بزيادة الضغط بشكل حاد على الصين، التي في مثل هذه الحالة ستظل العقبة الجدية الوحيدة أمام فرض الهيمنة الليبرالية العالمية و"نهاية التاريخ" التي طال انتظارها.

أما إذا انتهى الصراع بحل وسط سياسي، وإن كان غير كامل ولكنه مقبول للطرفين بين موسكو وكييف، وكذلك بين روسيا والغرب، فسيتم تأجيل النتيجة النهائية للصراع بين نموذجي التنمية الروسي والأوكراني مرة أخرى، وستستمر المنافسة بين نموذجي التنظيم الاجتماعي بلا شك، ولكن بشكل أقل حدة. إذ يمكن أن تتبع التسوية البعيدة عن المثالية بين الغرب وروسيا تسوية أكثر أهمية وأكثر جوهرية بين الغرب والصين.

إذا كان نوع من الاتفاق بين القادة الغربيين وفلاديمير بوتين لا يزال ممكناً، فإن أي اتفاق لاحق سيتبعه مع شي جين بينغ سيشكّل امتداه المنطقي.

ومما لا شك فيه، أن الصفقة بين الصين والغرب تتطلب قدراً كبيراً من الوقت والطاقة والمرونة السياسية من جانب جميع الأطراف. لكن نتيجة هذه الصفقة ستغير العالم، بما في ذلك إصلاح النظام العالمي، مع إحراز تقدم كبير في نظام الأمم المتحدة، وتحديث القواعد القديمة للقانون الدولي العام، وإعادة هيكلة صندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية والمؤسسات الأخرى المتعددة الأطراف.

وإذا افترضنا أن الصراع في أوكرانيا في المستقبل المنظور لن ينتهي بأي اتفاقيات على الإطلاق، وسيستمر في الخوارزمية المألوفة كـ"التصعيد، استنزاف الأطراف، الهدن الهشة، تحشيد القوات، وجولات جديدة من التصعيد"، عندها قد يتحول إلى عامل مساعد للانهيار النهائي للنظام الدولي الحديث. كما أن المؤسسات الدولية والإقليمية غير الفعالة ستفقد دورها في السياسة العالمية، وسوف يتسارع سباق التسلح بشكل حاد، وسيبدأ رد فعل متسلسل لانتشار الأسلحة النووية، وستبدأ الصراعات الإقليمية في التكاثر، وسيزدهر الإرهاب الدولي.

إن من شأن هذه التغيرات أن تؤدي إلى عدم الاستقرار العام وحتى الفوضى في السنوات القادمة، وبعد ذلك بوقت طويل فقط، ومن خلال عدم الاستقرار والفوضى هذه، ستبدأ براعم النظام العالمي الجديد في الظهور.