• اخر تحديث : 2024-11-22 10:05
news-details
قراءات

صراع باشاغا – الدبيبة: دوافع الجدل حول آلية توزيع عوائد النفط في ليبيا


شهدت الأزمة الليبية خلال الأشهر الماضية جملة من المتغيرات التي زادت من تفاقم الأوضاع وتعقيدها، فعلى الرغم من استمرار مساعي احتواء هذه الأزمة، فإن الصراع على السلطة لا يزال يسيطر على المشهد ويقف عائقاً أمام الانتقال لمرحلة التسوية والتهدئة، حيث بات كل طرف يعمل على تحقيق أكبر قدر من المكاسب من دون رغبة حقيقية في تقديم أي تنازلات. وفي سبيل تحقيق تلك المكاسب، وظفت الأطراف عدداً من الأدوات لضمان الهيمنة وامتلاك زمام الأمور. ويُعد اللجوء إلى النفط وتوظيفه في تلك المعادلة، أحد المتغيرات التي طرأت على الأزمة الليبية، وبالرغم من أن اللجوء لهذه الورقة ليس بالجديد، فإن التطورات التي يشهدها العالم على خلفية اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية قد أضفت بُعداً مختلفاً على أزمة النفط في ليبيا.

اعتبارات مُصاحبة:

أُصيب قطاع النفط الليبي بهزة عنيفة تصاعدت حدتها تدريجياً في منتصف أبريل 2022، وذلك على خلفية إغلاق آبار النفط وتعطيل الإنتاج، ووقف التصدير من الحقول الرئيسية في البلاد. وقد كان إعلان المؤسسة الوطنية للنفط حالة القوة القاهرة في عدد من الموانئ والحقول، مقدمة لموجة من الصدمات ذات التأثير الشديد داخل ليبيا وخارجها. ولا شك أن هذه الأزمة ارتبطت بجملة من الاعتبارات التي يمكن تحديدها فيما يلي:

1. تعثر الانتقال السياسي: عكست أزمة إغلاق الحقول النفطية في أبريل الماضي إدراك الأطراف المتصارعة في ليبيا لأهمية تطويع هذه الأداة لخدمة الأهداف السياسية، ما يعبر عن حجم التداخل والتشابك التي تشهدها المسارات الليبية المختلفة، حيث قام عدد من المكونات الليبية في جنوب وشرق البلاد بفرض حصار على الحقول النفطية، ومنع الإنتاج والتصدير، والإعلان عن استمرار حالة الإغلاق إلى أن يقوم رئيس حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها، عبدالحميد الدبيبة، بالخروج من المعادلة السياسية وتسليم السلطة لرئيس الوزراء الجديد المُنتخب من مجلس النواب "البرلمان"، فتحي باشاغا. وعليه يمكننا فهم أزمة القطاع النفطي في ضوء صعوبة استكمال المسار السياسي وانتقال السلطة، ما أدى إلى تسليح النفط واستخدامه كأداة للضغط من أجل وضع قيود على مسارات حركة الدبيبة.

2. منع استفادة حكومة الدبيبة من عائدات النفط: تمثلت الشرارة التي قادت إلى إشعال فتيل الأزمة النفطية في قيام المؤسسة الوطنية للنفط، يوم 14 أبريل الماضي، بتحويل نحو 6 مليارات دولار إلى مصرف ليبيا المركزي، وهو ما يتعارض مع ما أقره مجلس النواب الليبي، في مطلع مارس الماضي، بضرورة الاحتفاظ بعائدات النفط في حسابات المصرف الليبي الخارجي وعدم تحويلها إلى حسابات المصرف المركزي. واستهدف مجلس النواب من وراء ذلك الإجراء قطع التمويل عن الحكومة المنتهية ولايتها، ووضع حد لسياسة الإنفاق التي يبتعها الدبيبة. لذا جاءت أزمة النفط في ظل المساعي لفك هذا الارتباط، والحيلولة دون توظيف عائدات النفط في دعم السلطة الموازية وحكومة الدبيبة.

3. وقف تمويل الميليشيات: يشير عدد من المصادر إلى أن الحصار النفطي وإغلاق الحقول كان مدفوعاً برغبة المحتجين في وقف التمويل الحربي وعدم توظيف عائدات النفط في دعم ميليشيات غرب ليبيا، حيث عمد الدبيبة، وفقاً لتلك الرؤية، إلى تسخير جزء من الأموال لتعزيز قدرات تلك الميليشيات بهدف الإبقاء على فاعلية دورها كحائط صد تجاه أية محاولات لإقصائه من المشهد السياسي. وهذا ما يمكن الوقوف عليه من خلال قيام حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها، خلال الفترات الماضية، بتخصيص 132 مليون دينار ليبي لــ "جهاز دعم الاستقرار"، ونحو 100 مليون دينار للميليشيا المعروفة بــ "العمليات المشتركة". ولعل تصدي هذه الميليشيات لمحاولة فتحي باشاغا دخوله العاصمة طرابلس، في 17 مايو 2022، خير دليل على حدود الرهان الذي يضعه الدبيبة على تلك العناصر، خاصة بعدما نجحت في منع باشاغا ووزراء حكومته الجديدة من ممارسة مهامهم من العاصمة الليبية، الأمر الذي عزز ظاهرياً من قوة الدبيبة، بغض النظر عن الموقف العام في الداخل الليبي الرافض لاستمراره في السلطة.

تداعيات مختلفة:

تسببت أزمة النفط وإعلان حالة القوة القاهرة في عدد من الموانئ وحقول النفط الليبية، في جملة من التداعيات على الصعيدين الداخلي والخارجي، وهو ما يمكن الإشارة إليه فيما يلي:

1. نزيف اقتصادي حاد: يُعتبر النفط المحرك الأساسي للاقتصاد الليبي، وتستحوذ صادراته على غالبية إيرادات الدولة، وما يزيد على 90% من إجمالي عائدات التصدير، وبالتالي بات انتعاش الاقتصاد الليبي أو تأزمه مرتبطاً بشكل مباشر بوضع النفط في البلاد. وعليه فقد أثّرت أزمة إغلاق الحقول النفطية على الوضع الاقتصادي في ليبيا، إذ قاد تراجع الإنتاج لأكثر من 50% إلى خسائر كبيرة في القطاع بلغت نحو 60 مليون دولار يومياً، حيث أصبحت الدولة قادرة على إنتاج ما يقرب من 600 ألف برميل يومياً من أصل 1.3 مليون برميل. وهذا التراجع تسبب في فرض قيود على صادرات النفط، ما قلص شحنات التصدير إلى أدنى مستوياتها منذ أكتوبر 2020، في الوقت الذي يشهد فيه سوق النفط العالمي ارتفاعاً غير مسبوق في الأسعار بسبب الحرب الروسية – الأوكرانية؛ الأمر الذي يمثل فرصة واعدة يمكن استغلالها من الجانب الليبي لتعظيم المكاسب وتحقيق مزيد من الأرباح وبما ينعكس بشكل مباشر على تحسن الأوضاع المعيشية في البلاد.

2. حضور أمريكي مُكثف في أزمة النفط الليبية: أعربت الولايات المتحدة الأمريكية عن قلقها إزاء الإغلاق النفطي في ليبيا، ما دفعها إلى الانغماس في الأزمة بصورة مباشرة، ومحاولة بحث آليات لتقريب وجهات النظر بين أطرافها لتجاوزها. ويتماشى هذا الموقف مع مُجمل التحركات الأمريكية منذ اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية تجاه دول "أوبك"، والتي تستهدف زيادة إنتاج الدول المُصدرة للنفط، بهدف خفض الأسعار عالمياً والعمل على إيجاد مصادر بديلة عن النفط الروسي، خاصة أن ليبيا تمتلك أحد أكبر احتياطات النفط في أفريقيا. من ناحية أخرى، تشير تقديرات متباينة إلى أن الجهود الأمريكية المكثفة في تلك الأزمة ناجمة عن تخوفها من إمكانية قيام موسكو باستغلال علاقاتها مع الشرق الليبي ولعب "دور المُفسد" لأية تسويات والعمل على زعزعة الاستقرار وإطالة أمد الأزمة؛ وذلك لممارسة مزيد من الضغط على أسواق النفط العالمية، ومن ثم إجهاض مخطط واشنطن الرامي لفرض حظر على النفط الروسي.

3. محاولة الأطراف الليبية تحقيق مكاسب سياسية: سعت حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها برئاسة الدبيبة، لتأمين مكسب سياسي وذلك بالإعلان عن تشكيل لجنة من المعنيين تستهدف صياغة خطة لتطوير قطاع النفط، وزيادة الإنتاج لنحو 1.4 مليون برميل يومياً. بيد أن مساعي الدبيبة يمكن أن تصطدم بعدد من الاعتبارات التي قد تحول دون استثمار هذه الأزمة بشكل مناسب؛ ومن بينها أن أغلب حقول النفط تقع في المنطقة الجنوبية والشرقية والتي تطالب بالإطاحة بحكومة الوحدة المنتهية ولايتها ونقل السلطة للحكومة الجديدة، وهو ما يمكن أن يصب في صالح باشاغا بشكل مباشر من خلال حرص المجتمع الدولي على الدفع تجاه حل أزمة الحكومة الموازية خوفاً من تكرار إغلاق حقول النفط نتيجة الاعتراض على استمرار الدبيبة في السلطة.

كما عملت حكومة باشاغا والبرلمان الليبي على استغلال أزمة غلق حقول النفط في تحقيق مكاسب سياسية، من خلال التأكيد على دورهما في حل هذه الأزمة وكسب ثقة الأطراف الدولية، إذ أعلن باشاغا، في 11 مايو 2022، إعادة فتح الحقول والموانئ النفطية، بعد أكثر من 3 أسابيع على إغلاقها. كما أكد "تكتل الهلال النفطي" موافقته على رفع الحصار المفروض على الحقول النفطية، استجابةً لتعليمات رئيس البرلمان، المستشار عقيلة صالح. وأعقب ذلك، إعلان صالح، يوم 14 مايو 2022، تجميد إيرادات النفط في مصرف ليبيا الخارجي حتى يتم وضع ضمانات وآلية لاستفادة كل الليبيين من هذا الدخل بما يحقق العدالة والمساواة للجميع.

مساران للأزمة:

طرحت أزمة عائدات النفط الليبية وارتداداتها على الداخل والخارج، عدداً من المسارات الرامية لحل هذه الأزمة وتجنب تأثيراتها السلبية. ومن بين هذه المسارات المطروحة، بحث سُبل توزيع إيرادات النفط، ففي خضم الأزمة الأخيرة، أكد رئيس مجلس النواب الليبي، المستشار عقيلة صالح، في لقاء مع السفير الأمريكي في ليبيا، ريتشارد دونالد، يوم 8 مايو 2022، على فتح حقول النفط شريطة وضع آلية لتوزيع عائدات النفط بشكل عادل بين الأقاليم الليبية الثلاثة. وفي ظل هذا الطرح، قد تتشكل المعادلة خلال الفترات القادمة، كالتالي:

المسار الأول (التوافق بشأن توزيع العائدات النفطية): ينطلق من فرضية النجاح في الاتفاق على صيغة تضمن توزيع الإيرادات النفطية بصورة تحقق منفعة للجميع. ويرتكز هذا المسار على عدد من الاعتبارات؛ أولها: رغبة الولايات المتحدة في دفعه، والحيلولة دون تكرار إغلاق الحقول والموانئ النفطية مرة أخرى. وثانياً: الرهان على التطور الإيجابي الذي بدا من خلال اجتماعات القاهرة بشأن التوافق على القاعدة الدستورية، وهو ما يمثل خطوة نحو استكمال بناء المؤسسات، الأمر الذي يؤدي في نهاية المطاف لبناء الثقة ومن ثم خلق مزيد من مساحات التوافق التي قد تنعكس على مجمل القضايا في ليبيا، وفي مقدمتها توزيع عائدات النفط.

ومع ذلك، يواجه هذا الطرح جملة من التحديات؛ من بينها تحديد الجهة المنوط بها الإشراف على آلية توزيع عائدات النفط بشكل عادل، وهل ستُخول هذه المهمة للأطراف الداخلية والمؤسسات الوطنية المتناحرة؟ أم ستتم وفقاً لإشراف من القوى الإقليمية والدولية المؤثرة؟ ويضاف إلى ذلك، صعوبة إقناع حكومة الدبيبة المنتهية ولايتها بهذا المسار؛ نظراً لأنها ترى أن السيطرة على عائدات النفط تضمن لها البقاء وتعزز من حضورها في المشهد السياسي، ما قد يجعلها لا تلتزم بأي ترتيبات يتم الاتفاق عليها.

المسار الثاني (تجميد الصراع من دون حله): يفترض أن بحث آلية توزيع إيرادات وعائدات النفط يمكن أن تؤدي إلى تسكين الصراع على المدى القريب، وتجاوز الأزمة بشكل مؤقت، قبل أن تعود مرة أخرى للاشتعال. ويستند هذا المسار للتجربة التاريخية في ليبيا، إذ إن إغلاق حقول النفط وتوظيفها في الأزمة الليبية يمكن أن يتكرر في ظل استمرار الانقسام المؤسسي والصراع الدائر بين الفرقاء الليبيين. ولعل حالة الإغلاق التي بدأت في مطلع يناير 2020 واستمرت لنحو ثمانية أشهر تؤكد صعوبة تحقيق هذا الهدف، خاصة أن توزيع الإيرادات النفطية بشكل عادل كان مطروحاً وقتها لتجاوز الحصار والإغلاق النفطي. وهذا يعني أن الحديث عن تلك الآلية قد لا يخرج عن كونه محاولة لتجاوز الأزمة الحالية، ومنع تفاقمها، دون التوصل لحل شامل يضمن استدامة الإنتاج وعدالة توزيع العائدات.

في الأخير، تظل الأزمة الليبية بالغة التعقيد، ويبقى البحث عن باب للخروج الآمن منها مرهوناً بحجم التعاطي مع القضايا العالقة بصورة مكتملة، فلا يمكن أن يتم الحديث عن توزيع عائدات النفط من دون حلحلة الخلافات السياسية وتحييد التدخلات الخارجية. كما أن توظيف النفط وتسليحه قد لا يكون الفصل الأخير في مسار تأزم المشهد الليبي، طالما استمرت أزمة عدم الثقة وغياب التوافق بين المكونات الليبية ذاتها.