• اخر تحديث : 2024-05-10 13:04
news-details
مقالات مترجمة

توطيد وحدة العالم الغربي: الإمكانات والحدود


ربما تكون القرارات الأخيرة المتسرعة لهلسنكي وستوكهولم، بشأن الانضمام إلى حلف الناتو، أوضح مثال على الاتجاه الناشئ نحو توطيد وحدة الغرب. ومع ذلك، تم تقديم كثير من الأدلة الأخرى على الوحدة المكتشفة حديثاً للدول الغربية بعد 24 شباط/فبراير 2022.

مثال على ذلك، التنسيق السريع  في نطاق العقوبات غير المسبوقة ضد موسكو، وكذلك الموافقة السريعة على تقديم الدعم غير المسبوق كذلك لأوكرانيا، عسكرياً واقتصادياً، فضلاً عن الهجوم المنسق ضد روسيا في المنظمات الدولية الرائدة، من مجلس الأمن، التابع للأمم المتحدة، ومنظمة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ، إلى مجلس أوروبا ومجلس القطب الشمالي، بالإضافة إلى الضغط المشترك على دول الجنوب العالمي، من البرازيل إلى الهند، والتي لم تتّخذ بعدُ قراراً نهائياً بشأن "القضية الأوكرانية".

كما أن العملية الخاصة الروسية، التي شكلت حافزاً قوياً لعمليات الجذب داخل الغرب، لا يمكن اعتبارها المصدر الرئيس، ناهيك بالوحيد، لذلك. فلنتذكرْ، على الأقل، الأحداث المهمة التي حدثت في العام الماضي، كإنشاء تحالف AUKUS العسكري – السياسي بمشاركة الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، والارتقاء إلى مستوى مؤسساتي أعلى من حوار QUAD الأمني الرباعي الأسترالي الهندي الأميركي ​​الياباني، وعقد واشنطن "قمة الديمقراطية"، ناهيك بتكثيف الجهود الموحّدة بالأشكال التقليدية للتفاعل بين القوى الغربية الرائدة، كقمم الناتو واجتماعات قادة الدول الصناعية السبع الكبرى.

إذا أخذنا الأشهر الأولى من عام 2020 نقطةَ انطلاق، عندما أيقظ وباء الفيروس التاجي، الذي ضرب العالم بصورة غير متوقَّعة، أكثرَ ردود الفعل للأنانية الوطنية في الغرب، الأمر الذي دعا حتى إلى التشكيك في وجود قيم مشتركة، فيجب أن ندرك أن الكثير تغيَّر في غضون عامين. كان الغرب قادراً على تعلم الدروس الصحيحة من الصعوبات التي واجهها مؤخراً، وحشد سريعاً، ووضع جانباً خلافات العقود الأخيرة، وتقدم كجبهة موحدة ضد الخصوم والمنافسين المشتركين.

أدّت إدارة جوزيف بايدن، الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة، شخصياً، دوراً رئيساً في ذلك. وتحدث مرشح الحزب الديمقراطي مراراً وتكراراً عن مهمة "إعادة توحيد الغرب"، باعتبارها إحدى الأولويات الرئيسة لسياسته الخارجية المستقبلية. في الوقت نفسه، وعد بأن تأخذ الإدراة الأميركية الجديدة في الاعتبار مواقف حلفاء الولايات المتحدة ومصالحها وأولوياتها، إلى أقصى حد ممكن.

بطبيعة الحال، لم تفِ الإدارة الديمقراطية دائماً بهذا الوعد. فعلى سبيل المثال، اتُّخِذَ قرار سحب القوات الأميركية على عجل من أفغانستان في نهاية صيف عام 2021 من دون مشاورات مسبّقة مع الحلفاء، الأمر الذي تسبب بحالة استياء وتململ بين هؤلاء.

بهذا المعنى، كانت العملية الخاصة لموسكو هدية لواشنطن طال انتظارها، ولا تقدَّر بثمن لها. وقدّمت هذه العملية فرصة في معالجة، ليس فقط المهمّات الفورية، بل أيضاً صيغ التوحيد الجديد للغرب. وليس هناك شك في أن البيت الأبيض سيحاول الاستفادة القصوى من هدية القدر هذه.

أولاً، وقبل كل شيء، يعمل الغرب على تعزيز الوحدة العسكرية - السياسية والعسكرية – الفنية، سواء في إطار العمل المعاد إحياؤه، أو إعطاء زخم جديد لمزيد من التطوير لحلف الناتو، أو للأشكال الأخرى المتعددة الأطراف، وكذلك في إطار الاتفاقيات الثنائية بين الولايات المتحدة وشركائها الرئيسيين. وتشكل الميزانيات والنفقات العسكرية للدول الأعضاء في الناتو بالفعل أكثر من نصف الإنفاق الدفاعي على مستوى العالم، وستزداد هذه الحصة في المستقبل القريب فقط.

ربما سيحتفل المجمع الصناعي العسكري الأميركي بالنصر على منافسيه الأجانب، وسيتم تعزيز المواقف المهيمنة للولايات المتحدة في أسواق السلاح العالمية بصورة كبيرة، وسيتعين تأجيل أفكار "الاستقلال الاستراتيجي" للاتحاد الأوروبي عن الناتو إلى ظروف أفضل.

في المدى القصير، ستُبذَل جهود نشطة لحل، أو التخفيف، على نحو كبير، من التناقضات التجارية والاقتصادية داخل الغرب، وبصورة أساسية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ففي تشرين الأول/أكتوبر الماضي، على سبيل المثال، رفعت إدارة بايدن بعض رسوم الاستيراد التي فرضها دونالد ترامب على الصلب والألمنيوم الأوروبيَّين. ويمكن أن نفترض أن التزامن الذي طال انتظاره لضوابط التصدير فيما يتعلق بالبلدان الثالثة سيحدث قريباً. ومن الممكن وضع حد للصراع اللامتناهي تقريباً بين بوينغ وإيرباص، فضلاً عن النزاعات التجارية البارزة الأخرى، والتي تقوّض الوحدة عبر الأطلسي.

كما سيتم تحويل أولويات التعاون بين الدول الغربية بصورة متزايدة إلى البحث والتطوير. وسنرى تشكيل اتحادات ضخمة في المجالات الرئيسة لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والذكاء الاصطناعي والفضاء والتكنولوجيا الحيوية. بطبيعة الحال، لن يُسمح لروسيا بعد الآن بالدخول في أي من هذه المجالات، وسيُشَن صراع لا هوادة فيه ضد الصين في كل هذه المجالات.

وسيبذل الغرب محاولات لتطوير موقف مشترك بشأن القضايا الرئيسة للتنمية العالمية (تغير المناخ، وانتقال الطاقة، وحوكمة الإنترنت ومعايير الرقمنة العالمية، والأمن الغذائي، والوقاية من الأوبئة الجديدة، والهجرة عبر الحدود والقضايا الجنسانية والعرقية). ومن الممكن أن يؤدي الاتحاد الأوروبي، وليس الولايات المتحدة ، الدور القيادي في عدد من مشاكل التنمية العالمية. في أيّ حال، فإن الساسة وصنّاع القرار والخبراء الغربيين سيفرضون بإصرار أجندتهم في كل هذه المجالات على سائر العالم.

إذا استمرت عملية الاندماج الغربي الناشئة في الأعوام المقبلة، فإنها ستؤجّل حتماً، لفترة طويلة، احتمال تشكيل عالم متعدد الأقطاب.

وبدلاً من عالم متعدد الأقطاب، يُقترح إعادة إنشاء نظام دولي قائم على تفاعل جوهر العالم (الغرب) ومحيط العالم (غير الغربي). في الوقت نفسه، وكما حدث في بداية القرن، من المفترض أن مثل هذا التقسيم لن يؤدي إلى تشكيل عالم تقليدي ثنائي القطب، لأن المحيط العالمي لن يكون قادراً على الاتحاد ضد الغرب، ولن يرغب في ذلك. على العكس من ذلك، سيتعين على الدول الكبيرة غير الغربية (الصين والهند والبرازيل وإندونيسيا ونيجيريا وما إلى ذلك) التنافس، بعضها مع بعض، بطريقة أو بأخرى، من أجل الحصول على أفضل الظروف لدخولها لاحقاً لقلب العالم.

وفي صورة "العالم الأحادي القطب المتجدد" هذا، ستعود روسيا إلى المواقف التي كانت تتخذها قبل 30 عاماً، فور انهيار الاتحاد السوفياتي. لكن موقفها سيكون أكثر صعوبة، لأن موسكو في المستقبل المنظور لن تحصل على "ثقة" من الغرب، كما كانت عليه الحال في العقد الأخير من القرن الماضي. وبناءً عليه، فإن الضغط على موسكو سيكون أقوى، وستكون المكافآت السياسية والاقتصادية المحتملة لـ "السلوك الجيد" من الجانب الروسي أكثر تواضعاً وتأجيلاً.

ما مدى واقعية مثل هذا السيناريو لمستقبل النظام الدولي؟ يبدو أن العملية الحالية للتوحيد الغربي لها حدودها. أولاً، فإن المصالح الاقتصادية للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والبلدان المتقدمة في شرق آسيا لا تلتقي في كل شيء. على سبيل المثال، من غير المرجَّح أن تجد مشكلة الصادرات الزراعية الأميركية إلى أوروبا أيّ حل نهائي، وكذلك مشكلة تصدير السيارات الأوروبية وقطع غيارها إلى أميركا. كما سيستمر تنافس الدولار واليورو في الأسواق المالية العالمية، ومن المرجح أن تشتد هذه المنافسة مع تقوية المراكز الدولية للعملات الأخرى.

كما أن من المشكوك فيه حدوث نوع من تزامن الدورات السياسية في بلدان غربية. فإذا استمر هجوم قوى اليسار في شمال أوروبا، ثم في الولايات المتحدة، في انتخابات التجديد النصفي المقبلة في تشرين الثاني/نوفمبر، فمن المرجح أن يكون النصر إلى جانب اليمين. ويمكن القول إن الاختلافات بين النماذج الأنغلوسكسونية والأوروبية، بشأن التنمية الاجتماعية والاقتصادية، لم يتم محوها، بل أصبحت أكثر إلحاحاً.

كما أن التناقضات السياسية داخل الغرب لم تختفِ أيضاً. إن الاتحاد على خلفية أزمة أمنية حادة ضد الخصم المعتاد في مواجهة موسكو غير المهمة اقتصادياً هو شيء، أمّا الاستعداد لخوض صراع طويل الأمد مع القوة الاقتصادية العظمى التي تمثلها الصين فهو شيء آخر تماماً. كما لا توجد وحدة كاملة داخل الغرب بخصوص المسائل الاستراتيجية تجاه الهند، ناهيك بالمواقف لحل الأزمات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. من الصعب أن نتخيل أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي سيكونان قادرين على تحقيق وحدة في وجهات النظر بشأن مشاكل توسيع المساعدة الاقتصادية إلى جنوبيّ الكرة الأرضية من شماليّها.

كما أن السعي الغربي نحو التوحد يمكن أن يتراجع بسبب تطورات متعددة، كفوز سياسي شبيه بترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية في خريف عام 2024، أو بسبب صعود زعيم يميني يميني، مثل مارين لوبان، إلى السلطة في إحدى الدول الأوروبية الكبرى. كما قد يصبح النزاع الأميركي الصيني بشأن تايوان، أو تفاقم الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، سبباً في فك الارتباط الاستراتيجي مرة أخرى.

في أي حال، لن يحدث تغيير في الاتجاهات في المستقبل القريب. تحتاج موسكو إلى الاستعداد لمواجهة طويلة مع الغرب، الذي يمتلك قدرات وإرادة سياسية كافية لمواجهة أي محاولات معارضة في صفوفه. وهذا يعني أن أي اتفاقيات، حتى الأكثر محدودية، في "الجبهة الغربية"، يجب أن يتم تنسيقها مع واشنطن، كما كانت الحال خلال "اللحظة الأحادية القطب" قبل ربع قرن.