الزوبعة التي ثارت حول حزب "يوجد مستقبل" قبل نحو أسبوعين، حينما أعلن الشخص الثاني في الحزب النائب عوفر شيلح عزمه التنافس على رئاسة الحزب مقابل مؤسسه يائير لبيد، سرعان مع هدأت؛ إلا أن الأخير أعلن أن انتخابات داخلية في الحزب ليست واردة حاليا، ما يؤكد أنه "المالك وصاحب القرار في حزبه"؛ لكن القضية تبقى أبعد من هذا المشهد، فهذا الحزب لا يطرح البديل المقنع لقيادة بنيامين نتنياهو في الشارع الإسرائيلي، لا بل إنه يتساوق مع سياسات نتنياهو اليمينية الاستيطانية المتطرفة.
فقبل أسبوعين، أعلن النائب البارز في كتلة "يوجد مستقبل" عوفر شيلح، عزمه التنافس على رئاسة الحزب، ما فاجأ الكثير من الأوساط، في حين أن أوساطا أخرى لم تستبعد أن يكون كل المشهد عبارة عن مسرحية متفقاً عليها بين شيلح ولبيد، لإخراج الحزب من زاويا الظل، إلى الحيّز الإعلامي والسياسي، ليطرح الحزب نفسه بديلا لحكم نتنياهو. غير أن لبيد سارع إلى وضع حد لكل هذا المشهد، بإعلانه أنه لن تكون انتخابات داخلية في "يوجد مستقبل"، بزعم أن هذا سيقود إلى حالة قلاقل في داخل الحزب، رغم أنه لا توجد للحزب، بعد ثماني سنوات على إنشائه، قواعد وهيئات تنظيمية واسعة، وكل قراراته يتخذها لبيد، منها ما يكون بعد مشاورات في دوائر يقيمها لنفسه، بحسب الموضوع المطروح.
في كل استطلاعات الرأي، رغم أنه لا يمكن اعتمادها حاليا، وفي عدد ليس قليل منها خلل واضح في نتائجها، على ضوء الحالة القائمة في الشارع الإسرائيلي، إلا أنها تشير إلى أن "يوجد مستقبل" قد يعود إلى قوته التي حققها في العام 2013، حينما خاض الانتخابات لأول مرّة وحصل على 19 مقعدا، خسر منها ثمانية مقاعد في الانتخابات التالية التي جرت بعد 26 شهرا، في مطلع ربيع العام 2015.
وكما هو معروف فإن "يوجد مستقبل" خاض الانتخابات البرلمانية الأخيرة، في العامين الماضي والجاري، بتحالف ثلاثي مع حزب "تلم"، برئاسة وزير الدفاع السابق موشيه يعلون، الذي ما زال حليفا لحزب "يوجد مستقبل"، وحزب "مناعة لإسرائيل"، برئاسة بيني غانتس، الذي شق التحالف بعد انتخابات آذار الماضي. وفي الانتخابات الثلاثة تراوحت قوة التحالف الذي أطلق عليه اسم "أزرق أبيض"، بما بين 32 إلى 35 مقعدا.
وكل استطلاعات الرأي العام الصادرة على مدى أكثر من شهرين، تمنح قائمة "يوجد مستقبل"، دون ذكر للحزب الحليف "تلم"، ما بين 18 إلى 21 مقعدا، في حين تمنح ذات الاستطلاعات للقائمة التي يرأسها بيني غانتس، واتخذت لنفسها اسم "أزرق أبيض" من 8 إلى 11 مقعدا، ولكن مجموع المقاعد التي تحصل عليها القائمتان في كل واحد من الاستطلاعات، بالكاد تصل إلى 30 مقعدا، أي بخسارة 3 مقاعد، ليس واضحا عنوانها الجديد حتى الآن.
والاستنتاج الحاصل، رغم كل ما تشهده إسرائيل من عاصفة، على ضوء شكل إدارة الأزمتين الصحية والاقتصادية، أنه لا يوجد بديل لحكم بنيامين نتنياهو، والجمهور الإسرائيلي لا يرى في حزب "يوجد مستقبل" عنوانا حقيقيا لهذه المعارضة، فهو لا يطرح أي برنامج سياسي متميز عن السياسات التي يطرحها نتنياهو مع معسكره اليميني الاستيطاني. وهذا ليس جديدا، بل ظهر بقوة بعد وصول "يوجد مستقبل" لأول مرّة إلى الكنيست بعد انتخابات 2013. ففي حملة الانتخابات تلك، تم الزج بالحزب الجديد الناشئ حينها، في خانة "الوسط"، وحتى هناك من سارع للقول إنه حزب "يسار- وسط"، الأمر الذي استفز لبيد، وأعلن أن حزبه ليس يساريا. وانضمامه لحكومة نتنياهو بعد تلك الانتخابات، وانخراطه في سياسات اليمين الاستيطاني التي يقودها نتنياهو، وضعا الحزب في خانته الصحيحة، خانة اليمين. وهذا الأمر تعزز أكثر في الولاية البرلمانية الـ 20، من 2015 إلى 2019. فقد كان حزب "يوجد مستقبل" حزب معارضة على مدار سنوات الولاية البرلمانية الأربع، ولكنه في المقابل ساهم بشكل قوي في سن القوانين العنصرية والداعمة للاحتلال والاستيطان.
فمثلا القانون القائم الذي يتسبب بأزمة مالية شديدة للسلطة الفلسطينية، الذي يحتجز أموال الضرائب الفلسطينية، هو قانون تبلور في حزب "يوجد مستقبل"، وبقي على اسمه صاحبه، النائب إليعازر شطيرن، وهو يتباهى بذلك. كذلك فإن الحزب طرح مشاريع قوانين وحشية، مثل طرد عائلات المقاتلين الفلسطينيين في القدس إلى الضفة، ومحاصرة عائلات المقاتلين في الضفة، في بلداتها، دون السماح لها بمغادرتها.
ورغم أن "يوجد مستقبل" يجلس اليوم في صفوف المعارضة، وبعد أن نجح بنيامين نتنياهو في تفتيت تحالفه السابق "أزرق أبيض"، فإنه غائب كليا عن طرح البديل، لا سياسيا، ولا اقتصاديا، ولا حتى فيما يتعلق بإدارة أزمة كورونا.
وانشقاق التحالف السابق لـ"أزرق أبيض" وحده، أفقد ثقة الجمهور المعارض لنتنياهو وسياساته بوجود بديل حقيقي للحكم، وهذا الانشقاق يُعد واحدا من إنجازات هذا الأخير الحزبية، وأظهر أن من يواجهونه أضعف من يتولوا قيادة الحكم.
والتساوق مع سياسات اليمين الاستيطاني ظهر أيضا في كل الحملات الانتخابية الثلاث، ومنها الأخيرة، التي تخللها الإعلان عما تسمى "صفقة القرن"، ونجاح نتنياهو في جر تحالف "أزرق أبيض" للإعلان عن موقف مؤيد لفرض ما تسمى "السيادة الإسرائيلية" على المستوطنات ومناطق شاسعة في الضفة المحتلة، مع تركيز خاص على منطقة غور الأردن، التي تشكل نسبة 30% من مساحة الضفة.
في الأيام الأخيرة، انضم حزب "يوجد مستقبل" إلى جوقة الترحيب الإسرائيلي باتفاقيتي التطبيع مع الإمارات والبحرين، رغم انتشار الكثير من مقالات لصنّاع الرأي الإسرائيليين، الذين أكدوا أن هذه الاتفاقيات لن تلغي القضية الأساس، القضية الفلسطينية، وكانت توجيه انتقادات لعدم صدور أصوات بديلة لطروحات نتنياهو.
ويقول المحلل السياسي تسفي برئيل، المختص بالشؤون العربية، في مقال له في صحيفة "هآرتس"، إن من ينتقدون اتفاقات السلام الجديدة، ويقولون بأنها تضر باحتمالية السلام مع الفلسطينيين، يمكنهم الهدوء. فاحتمالية السلام هذه لم تكن كبيرة حتى قبل ذلك. وقد ضعفت أكثر فأكثر لأن اليسار والوسط لم ينجحا في تشكيل حكومة. بالعكس، البعض منهم تم جذبهم إلى حكومة نتنياهو وحتى أيدوا عملية الضم. ومحمد بن زايد وحمد بن عيسى ليسا مذنبين في ذلك.
وتابع برئيل: "لكن ليس كل شيء ضائع. المشكلة الفلسطينية والاحتلال والمستوطنات بقيت في مكانها ولم تذهب إلى أي مكان. وهي ستواصل تشكيل صورة دولة اسرائيل وتغذية العنصرية وتطوير عنفها وتشويه ثقافتها. وبدلا من انتقاد الاتفاقات مع الدول العربية، يجب على اليسار والوسط صياغة موقفهما من جديد بالنسبة للنزاع، وأن يعرضا برنامجا سياسيا شجاعا يقنع الجمهور، وأن يستعدا بشكل جيد للانتخابات".
بطبيعة الحال في الكنيست كتل معارضة أخرى لسياسات اليمين الاستيطاني، مثل القائمة المشتركة، التي قوتها الأساس والأعظم بين الفلسطينيين في إسرائيل، وكتلة ميرتس التي لم تعد في حسابات الائتلافات الحكومية منذ العام 2001.
مظاهرات استنفدت نفسها
المسألة ليست فقط في الكنيست، بل أيضا ميدانيا لا توجد معارضة إسرائيلية جدية لسياسات اليمين الاستيطاني. فمنذ قرابة ثلاثة أشهر تجري مظاهرات أسبوعية، بشكل خاص قبالة المقر الرسمي لرؤساء الوزراء الإسرائيليين، في شارع بلفور في القدس الغربية، حيث يقيم حاليا بنيامين نتنياهو.
وتستقطب هذه المظاهرات آلافا عدة، كما تجري في نهايات الأسابيع تظاهرات عند مفارق طرق مركزية، ومنها قبالة البيت الخاص لعائلة نتنياهو في مدينة قيسارية. ولكن بعد كل هذه الفترة، بات واضحا أن هذه المظاهرات التي يشارك فيها خليط سياسي، وآخر اجتماعي، لم تستنهض الشارع الإسرائيلي، ولم تحوّل المظاهرات إلى حالة جماهيرية واسعة، قادرة على زعزعة مكانة نتنياهو.
وهذا الأمر من الممكن استنتاجه في تراجع هجوم نتنياهو شخصيا ونجله، والحلقة السياسية الأقرب له، على هذه المظاهرات، التي تضربها الشرطة والأذرع الأمنية بقوة، وتقريبا في كل مظاهرة تقع اعتقالات. كما تعرضت المظاهرات في أحيان كثيرة لاعتداءات من عصابات إرهابية من اليمين الاستيطاني، وعصابة "لافاميليا" العنصرية المتطرفة، التي عادة ما ترتكب اعتداءات جماعية على الفلسطينيين في القدس المحتلة.
وبالإمكان القول إن انحسار هذه المظاهرات وعدم تمددها يعود إلى عدة أسباب، وقد يكون العامل الصحي له دور في هذا، ولكن ليس الدور الأساس، لأنه لو وجدت الجاهزية لكنا شهدنا نشاطات احتجاج بأشكال مختلفة، وفي مناطق أخرى، مع أخذ كل الاحتياطات الصحية. فهذه المظاهرات اندلعت بداية، من خلال مجموعات متضررة اقتصاديا، مثل أصحاب الأعمال الحرّة، أو المستقلين، الذين انهارت مداخيلهم ومصالحهم الاقتصادية، من دون أن يتلقوا التعويض الكافي. ثم بدأت تنضم إليهم مجموعات كهذه أو تلك، وبضمنها مجموعات سياسية، ولكن بغياب واضح لأحزاب معارضة حاليا، مثل "يوجد مستقبل"، أو ظهور واضح لحزب ميرتس، باستثناء مشاركة محدودة للجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة ونواب من القائمة المشتركة، ولكن ليس بالوزن الذي يجرف آلافا لمظاهرات كتلك.
بعض الكتّاب السياسيين، أو ناشطين في هذه المظاهرات، سألوا عن مشاركة العرب فيها، وهي من حيث المبدأ مشاركة لها مكان، ولكن هذه المظاهرات تجري في منطقة بعيدة عن مناطق العرب الكبرى، كما أن الغالبية الساحقة من الشعارات التي ترفع فيها لا تحاكي بالضرورة الاهتمامات الأولى للعرب. ولكن حتى لو شارك العرب بجماهيرية كبيرة، فإن هذا لن يغير الوضع القائم من حيث الشارع الإسرائيلي.
وفي هذا المجال تجدر الإشارة، واستنادا إلى تجارب سابقة، إلى أن كثرة الانتقادات لعدم مشاركة العرب بحجم جماهيري كبير، هو تمهيد لجعل العرب سببا في عدم استنهاض حركة الاحتجاجات ضد نتنياهو، وهذا أمر خارج أي منطق.
إن الحالة الإسرائيلية بشكل عام تطغى عليها الضبابية حول مستقبل الحكومة، ومستقبل الولاية البرلمانية، وفي خضم كل هذا تغوص إسرائيل أكثر فأكثر في الأزمة الصحية، وسط تهديد من رأس هرم الحكم بزيادة قيود الحركة العامة للجم انتشار فيروس كورونا، الذي حتى الآن يظهر وكأنه خرج عن السيطرة.
في المقابل يبتعد نتنياهو عن الساحة الداخلية، في سعي لتحقيق أوراق سياسية بيده، على شاكلة اتفاقيات التطبيع، التي تقول واشنطن إن دولا أخرى ستنضم لها، دون أن يحقق هذا قفزة لحزب الليكود في استطلاعات الرأي العام. وهناك من يضع فرضية وكأن إسرائيل تنتظر انتخابات الرئاسة الأميركية، التي ستجري بعد نحو 6 أسابيع، فبقاء دونالد ترامب على رأس هرم الحكم الأميركي سيعني أساساً دعما أكبر لنتنياهو ونهجه.