قال سفير روسيا لدى الولايات المتحدة أناتولي أنطونوف في مقال كتبه في "المجلس الروسي للشؤون الدولية" إنّ ما يحدث اليوم يشير إلى أن جذور الصراع الحالي ليست في أوكرانيا، والحديث يدور عن تراجع نموذج النظام العالمي المتمركز حول أميركا. وفي ما يلي نص المقال المنقول إلى العربية:
وصلت الأوضاع المتوترة في أوكرانيا إلى أقصى حد، وبدأ مزيد من البلدان الدخول في دورة الأحداث في أوروبا الشرقية، كما بدأت العواقب السلبية لأزمة الأمن في أوروبا تتمدد بسرعة في جميع أنحاء العالم، في مظاهر متعددة.
ويشير الطابع العالمي لما يحدث إلى أن جذور الصراع الحالي ليست في أوكرانيا. الحديث يدور عن تراجع نموذج النظام العالمي المتمركز حول أميركا، أو بالأحرى، انهيار محاولات الولايات المتحدة المحافظة على دور المهيمن، وتعيين نفسها "نجماً مرشداً" لجميع الدول.
وتعود نُذُر الأزمة إلى إهمال الولايات المتحدة وحلفائها للمصالح القومية لروسيا، وكان قِصَر نظر هذا النهج واضحاً منذ البداية.
ومع ذلك، فإن النخب المحلية، التي ابتهجت بانهيار الاتحاد السوفياتي، أقنعت نفسها بأنها انتصرت في الحرب الباردة. وتحدث بعض المفكرين حتى عن "نهاية التاريخ"، التي من المفترض أن تتوج بالديمقراطية الليبرالية. وأعقبت هذا التصور الخاطئ سلسلة من الحسابات الخاطئة الخطيرة من جانب الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة، والتي يتلخص جوهرها في تجاهل بلدنا كعامل مشكّل للنظام العالمي.
نعم، ضعفت روسيا في أوائل التسعينيات، عندما وجدت نفسها على مفترق طرق. لقد حدث هذا فعلاً في التاريخ، لكن في كل مرة خرجت الدولة أقوى، والأمة أكثر توحداً.
ويكفي النظر إلى خريطة العالم، ليتضح أن من المستحيل عدم ملاحظة بلدنا.
ومع ذلك، قرّرت سلطات الولايات المتحدة أن تتحدى ما هو واضح، وشرعت في فرض مُثُل "ديمقراطية" علينا، على نحو عدواني، والتي غالباً ما تكون غريبة عن الروس. بدأوا التدخل في الشؤون الداخلية لروسيا، وخلق تهديدات للأمن القومي، والاقتراب أكثر فأكثر من حدودنا.
لوقت طويل، شرحنا لزملائنا عدم جواز مثل هذه الأفعال، ورفضنا الحاسم لها. لم يستمعوا إلينا، وحاولوا تجاهلنا كمن يقول: مكانك في الصف الخلفي. كل شيء له حدود، والقشة الأخيرة كانت رفض واشنطن وبروكسل مراعاة الهواجس الروسية بشأن الضمانات الأمنية.
كما أن قِصَر نظر الأميركيين يبدو جلياً في الظروف الحالية. فبسبب الرغبة في إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا، تعمل النخب المحلية على تصعيد التوترات، وضخ الأسلحة في نظام كييف. أليس مفهوماً أن هذا الطريق سيؤدي إلى مواجهة عسكرية مباشرة بين أكبر القوى النووية، محفوفة بعواقب لا يمكن التنبؤ بها؟
علاوة على ذلك، ستفشل خطط خنق بلادنا من خلال العقوبات. كما أن التطبيق الطائش للقيود لن يؤدي إلّا إلى تفاقم الأوضاع في الاقتصاد الأميركي. بمعنى آخر، يتضح أنه، في حالة الهيجان المعادية لروسيا، فإن واشنطن مستعدة لإطلاق النار على قدمها والرقص في الوقت نفسه. إن ذلك لشيء سخيف.
علاوة على ذلك، لن تؤثّر تصرفات الأميركيين، في أي حال من الأحوال، في تصميم القوات المسلحة الروسية على الوفاء بالمهمّات المحددة خلال العملية العسكرية الخاصة من أجل حماية سكان دونباس، وكذلك القضاء على النزعات النازية في أوكرانيا ونزع السلاح منها.
لقد حان الوقت لتقبل فكرة استحالة بناء نظام عالمي تتّبع فيه كل الدول تعليمات واشنطن، وأن تكون القيم الغربية فيه فوق القانون. إن العالم يتحول نحو تعدُّد المراكز، وتتزايد أهمية دول آسيا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية وأفريقيا. الآن، أكثر من أي وقت مضى، أصبح مهماً الدور المركزي للأمم المتحدة وجهازها الرئيس، والمتمثل بمجلس الأمن، في ضمان الأمن المتكافئ وغير القابل للتجزئة للمجتمع العالمي، وهذا هو بالضبط ما تسعى إليه روسيا.
كما يجب على الولايات المتحدة أن تتوقف عن أوهامها بشأن "هزيمة" بلدنا. هنا، يجب أن نفهم أن لا بديل عن العلاقات البراغماتية بروسيا. نحن قوة عظمى لدينا مسؤولية خاصة عن السلام في كوكب الأرض، ويعتمد الاستقرار الاستراتيجي علينا. ومن دون جهود منسَّقة بين كِلتا الدولتين، من المستحيل حل مشاكل الإرهاب، وانتشار أسلحة الدمار الشامل، وتغير المناخ، ومكافحة الأوبئة والأمن الغذائي. نحن محكومون بالتفاعل.
أمّا بالنسبة إلى أوكرانيا نفسها، فإن تطور الأوضاع مع هذا البلد هو "الاختبار الحقيقي"، الذي سيُظهر استعداد الدول الغربية لمراعاة المخاوف الروسية.
سيعتمد مزيد من التقدم، في طريق تحقيق الاستقرار في الأمن الأوروبي، على نتيجة عملية تسوية الأزمة في أوكرانيا.
اليوم، في الواقع، نتحدث عما إذا كان في إمكاننا معاً بناء شكل متعدد الأقطاب من النظام العالمي على أساس المساواة ومراعاة مصالح جميع الدول، بغضّ النظر عن قوتها وإمكاناتها. المواجهة ليست في مصلحة أحد، والجميع في حاجة إلى الاستقرار. ويتضح هذا، بصورة خاصة، في الاضطرابات الحالية، عندما أدى الخلل في سلاسل التوريد إلى أزمة غذاء وفوضى في أسواق الطاقة، وهذا مجرد مثال واحد.
ويجب التذكير بأن أحداً لم يسحب من طاولة المفاوضات مسوّدة الاتفاقات الروسية بشأن الضمانات الأمنية. ومن البديهي أنه، بعد الانتهاء من العملية العسكرية الخاصة، سيكون من الضروري تكييف محتواها مع الواقع.