• اخر تحديث : 2024-11-15 12:27
news-details
أبحاث

التوازنات العسكرية ومسارات الحرب الروسية الأوكرانية


ملخص

تشكل الحرب الروسيةـالأوكرانية امتحاناً حقيقياً لقدرة الجيوش على تحقيق انتصارات ساحقة في الميدان، حيث إن مواجهة روسيا للغرب ليس لها وجها واحدا من الصدام، وإنما تشكل الحرب واجهة لحروب عديدة لا تقاد بالآلة العسكرية فقط وإنما أيضا باستخدامات مختلفة لحروب من نوع آخر لا تحسم عادة في الميدان، وفق منظور رابح-خاسر، وإنما تقاد بعقول وإستراتيجيات منظمة تستخدم الآلة الاقتصادية والإعلامية والدعاية وغيرها من أدوات المواجهة.

تسعى الورقة إلى دراسة التوازنات العسكرية في ظل الحرب الروسية-الأوكرانية، ومعرفة إستراتيجيات الجيوش للدول الغربية وروسيا الاتحادية، وانعكاسات الصراع العسكري على قواعد النظام الدولي وبنيته الأساسية والوقوف على المخاطر المحدقة بالعالم، في ظل استمرار هذه الحرب، التي جاءت في مرحلة الإنهاك الاقتصادي بعد جائحة كورونا. ومحاولة بيان تضارب السرديات والإستراتيجيات العسكرية بين الفواعل الدولية والإقليمية، مما يجعل من إطالة أمد الصراع العسكري وعدم الرغبة في وقف إطلاق النار، سبباً للمزيد من تعقيد البنية التفاوضية لدى الأطراف المتصارعة وصعوبة الوصول إلى تسوية سياسية ترضي جميع الأطراف المتدخلة في ظل تنافر وتضارب المصالح بين القوى أطراف النزاع.

مقدمة

لا شك أن الحرب الروسية الأوكرانية، تقودها العديد من الدوافع والخلفيات التي يمكن إجمالها في تراكمات أنتجتها طبيعة النسق الدولي والنظام العالمي الذي أعقب الحرب الباردة، ونهاية نظام القطبية الثنائية التي كانت تقوم على أساس الصراع بين الغرب والشرق وقدرة الولايات المتحدة الأمريكية على فرض مفردات الهيمنة على العالم بعد تقزيم الاتحاد السوفييتي والتمكن من إرجاعه إلى حدود جغرافية لما يعرف بروسيا الاتحادية، بعد انفراط عقد المعسكر الشرقي.

تعود أصول القضية الأوكرانية المعاصرة إلى العام 1991 مع تفكُّك الاتحاد السوفيتي، وحصول أوكرانيا على استقلالها في نفس العام. وفي العام 1994، جرى توقيع “مذكرة بودابست” التي تعهَّدت بموجبها روسيا الاتحادية باحترام حدود أوكرانيا في مقابل تخلِّي كييف عن ترسانتها النووية الموروثة عن الاتحاد السوفيتي لصالح روسيا. لكن سرعان ما فرضت الحسابات الجيوبوليتيكية نفسها على شرق أوروبا، مع اتجاه حلف الناتو للتمدد شرقاً. فانضمَّت جمهوريات التشيك والمجر وبولندا للحلف، عام 1999. وبين عامي 2004 و2009، انضمت 9 دول من شرق أوروبا، بعضها من الجمهوريات السوفيتية السابقة (بلغاريا، إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا، رومانيا، سلوفاكيا، سلوفينيا، ألبانيا، كرواتيا)، ثم لحقت بها بعد ذلك كل من الجبل الأسود ومقدونيا الشمالية. وأصبح إجمالي عدد الدول التي انضمت للحلف بين 1999 و2020 نحو 14 دولة، تشكِّل نحو نصف الدول الأعضاء في الحلف الذي تأسس عام 1949.

ولم يعد متبقياً من الدول العازلة بين روسيا والناتو سوى بيلاروسيا وأوكرانيا، وترى روسيا أن انضمام هاتين الدولتين إلى الناتو يعني حصارها داخل حدودها، وتصاعدت مخاوفها مع مخرجات قمة الناتو التي عُقدت في العاصمة الرومانية، بوخارست، عام 2008، عندما رحَّب الحلف بتطلع أوكرانيا وجورجيا لنيْل عضويته، وهو ما كان، من وجهة النظر الروسية، بمنزلة إعلان لحرب ممتدة بين روسيا والغرب. فبدأت روسيا سلسلة من المواجهات العسكرية لمنع هاتين الجمهوريتين من الانضمام للحلف، وكانت البداية بالحرب الروسية-الجورجية، عام 2008، وقيام روسيا بضم إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، ثم الحرب الروسية-الأوكرانية، عام 2014، ثم قيام روسيا بإعلان ضم شبه جزيرة القرم الأوكرانية.

يزداد التوتر الحاصل بين روسيا والغرب يوما بعد يوم على خلفية الحرب الدائرة في أوكرانيا، إذ لم يعد سرّاً أن الحرب في الحقيقة تدور بين الطرف الروسي والغربي، وتحديداً أميركا، وفقاً لما يتم من دعم علني سياسي وعسكري مباشر، لكن الأطراف العظمى تحاول الابتعاد عن المواجهة العسكرية المباشرة قدر الإمكان لتفادي حصول حرب عالمية ثالثة، كما صرح بذلك الرئيس الأميركي جو بايدن قبل الغزو، عندما قال إن الأمر سيكون بمثابة حرب عالمية إذا بدأ الأميركيون والروس بتبادل إطلاق النار.

وتشير الأحداث إلى أن الطرف الغربي يصبّ الزيت على النار بزيادة الدعم العسكري لأوكرانيا بل وجعله أكثر نوعية ودِقّة، لكن الطرف الروسي لا يزال يتحكم بنفسه ويضبط تحركاته، وهذا ليس ضعفاً أو عدم قدرة على حسم الأمور والسيطرة على أوكرانيا كما يظن البعض، وإنما هو تكتيك يهدف لتحقيق الأهداف بأقل الخسائر، حيث إن روسيا ليست مستعجلة في عمليتها العسكرية كما صرّح بذلك أكثر من سياسي وعسكري روسي.

تشكل هذه الحرب امتحانا حقيقيا لقدرة الجيوش على تحقيق انتصارات ساحقة في الميدان، حيث إن مواجهة روسيا للغرب ليس لها وجها واحدا من الصدام وإنما تشكل الحرب واجهة لحروب عديدة لا تقاد بالآلة العسكرية فقط وإنما أيضا باستخدامات مختلفة لحروب من نوع أخر لا تحسم عادة في الميدان وفق منظور رابح-خاسر وإنما تقاد بعقول وإستراتيجيات منظمة تستخدم الآلة الاقتصادية والإعلامية والدعاية وغيرها من أدوات المواجهة.

نحاول في هذه الورقة دراسة التوازنات العسكرية في ظل الحرب الروسية-الأوكرانية، ومعرفة إستراتيجيات الجيوش للدول الغربية وروسيا الاتحادية، وانعكاسات الصراع العسكري على قواعد النظام الدولي وبنيته الأساسية وماهي المخاطر المحدقة بالعالم في ظل استمرار هذه الحرب التي جاءت في مرحلة الإنهاك الاقتصادي بعد جائحة كورونا. كما تحاول الورقة الوقوف على أهمية الفواعل الدولية والإقليمية في الحرب، كالولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو والدول الأوروبية الخارجة عن الاتحاد الأوروبي.

الحرب الروسية الأوكرانية: حرب بالوكالة

لم يتوقع أحد أن روسيا قد تقدم على مهاجمة أوكرانيا، على اعتبار تشعب موضوع المواجهة العسكرية وتداعياته المعقدة إقليميا ودوليا وجيوسياسيا، وخاصة أن أوروبا تحولت مجددا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية إلى جغرافيا صدامية تتصارع فيها قوتين روسيا وأوكرانيا، بعد أن ظلت أوروبا بعيدا عن الصراعات المسلحة لفترة طويلة من الزمن.

 لكن في حقيقة الأمر، هي مواجهة مباشرة بين الغرب وروسيا بكل ما تحمله المواجهة العسكرية من معنى، ولا يمكن أن نتصور أن إستراتيجية الأمن الروسي لم تضع نصب أعينها أن بهذا التدخل العسكري سيظل الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية مكتوف الأيدي، كما أن أوكرانيا أيضا وضعت في اعتبارها أن الغرب سوف يقدم المساعدة اللازمة وخاصة حلف الناتو والقوى الكبرى.

لكن المعادلة العسكرية ليست بهذه البديهية، والدليل أن فرضية الحرب الخاطفة الروسية لم تفرض نفسها، كما أن الدعم العسكري واللوجستيكي الغربي لم يستطع إيقاف الحرب ودفع روسيا للتوقف عن ضرب أهدافها وخاصة في الشرق الأوكراني والمناطق الحيوية كماريوبول وخيرسوف. مما يضعنا أمام فرضيات وسيناريوهات متعددة لأشكال إنهاء الصراع العسكري ومواجهة الإستراتيجيات العسكرية الدولية في زمن لم يعد بالإمكان الحسم ميدانيا في أية حرب ولو كانت بين قوة نظامية وقوة غير نظامية، ناهيك عن حرب تدور رحاها بين جيوش نظامية مدربة ومزودة بتكتيكات وإستراتيجيات الاحتواء والتوسع والدفاع مع استمرار الإمدادات من أطراف خارجية وبناء تحالفات قوية وراهنيه تحدد مسارات الحرب وتداعياتها الاقتصادية والإعلامية.

أولا: الخسائر المحتملة لحرب ممتدة

منذ بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا يوم 24 فبراير/شباط 2022، وحتى 15 يونيو/ حزيران 2022، تسبب في أكثر من 46 ألف قتيل، و13 ألف جريح، وتدمير أكثر من 2200 مبنى، وخسائر في الممتلكات تزيد عن 600 مليار دولار، إضافة إلى نزوح وتهجير حوالي 14 مليون لاجئ أوكراني، أي حوالي ثلث السكان البالغ عددهم حوالي 44 مليون نسمة قبل الحرب. يتابع العالم، بكثافة شديدة، تفاصيل الحرب اليومية في وسائل الإعلام، بطريقة حجبت رؤية الحرب الحقيقية التي بدأت في أوكرانيا، حرب الولايات المتحدة للسيطرة والتفوق، حرب لم تبدأ لتنتهي في بضعة أشهر أو سنة أو سنتين، بل ستستمر لعدة سنوات حتى تحقق الولايات المتحدة أهدافها. فهل ستتمكن من تحقيقها؟ أم ستنفلت الأمور، وتتجاوز حساباتها، لينزلق العالم إلى هاوية سحيقة وماهي محددات الإستراتيجية العسكرية الروسية؟

تسببت الحرب الروسية على أوكرانيا في خسائر في المعدات أكبر بكثير من الخسائر البشرية في صفوف القوات المدافعة. بالمقابل لا تتمتع أوكرانيا بإمكانية امتصاص الاستنزاف الذي كانت موسكو على استعداد لقبوله في الصراع.

يبدو أن روسيا تركز في حربها على أوكرانيا، على تحقيق أهداف إقليمية أضيق لاستعادة الزخم في حرب فشلت حتى الآن في تحقيق أهدافها. وقد تقتصر نوايا موسكو العسكرية على المدى القريب على احتلال جميع مناطق دونيتسك ولوهانسك في شرق أوكرانيا، وتأمين ممر بري يربط شبه جزيرة القرم بالأراضي الروسية. في هذا السياق، تتمتع مدينة ماريوبول الواقعة في أقصى جنوب شرق أوكرانيا بأهمية إستراتيجية لتأمين هذا الربط.

وبالمقابل، ستكون قدرات أوكرانيا المضادة للدروع والقدرات الدفاعية الجوية جد هامة لصد الهجمات البرية الروسية في هذه المناطق، وكذلك ترسانة قوية وقاذفات مضادة للبطاريات ضد الأنبوب الروسي والمدفعية الصاروخية الروسية. نظراً لمعدلات الاستخدام المحتملة الأخيرة، فإن مضاعفة مخزون أوكرانيا من أنظمة الدفاع الجوي المحمولة المضادة للدبابات وأنظمة الدفاع الجوي تعتبر أولوية فورية ومستعجلة. من المفترض أن تسمح طموحات موسكو القصيرة الأجل بتركيز قوتها بشكل أفضل بكثير مما كانت عليه في السابق، مع إنقاص خطوط الإمداد اللوجستية.

زودت الولايات المتحدة القوات المسلحة الأوكرانية بصواريخ ستينغر FIM-92، وكذلك فعلت هولندا وألمانيا وليتوانيا، بينما زودت بولندا أوكرانيا بصواريخ بيورون، وزودت المملكة المتحدة كييف بصواريخ ستارستريك للدفاع الجوي المحمولة على الكتف. كما أرسلت الولايات المتحدة إلى كييف أكثر من 2000 صاروخ مضاد للدبابات من طراز FGM-148 Javelin. وقدمت إستونيا أيضاً هذا النظام للجيش الأوكراني، بينما أرسلت المملكة المتحدة إلى جبهة القتال أكثر من 4000 من الجيل التالي من الأسلحة الخفيفة المضادة للدبابات.  بالمقابل، قدمت فرنسا والسويد سلاح AT-4 المضاد للدبابات.

يعتبر تقييم الخسائر البشرية والمعدات داخل القوات الروسية والأوكرانية أمراً صعباً بسبب الافتقار إلى المعلومات الرسمية، وحملات التظليل المتعمدة، وصعوبة إثبات الادعاءات من الطرفين. بالنظر إلى المعلومات المحدودة المتاحة، من الواضح أن خسائر القوات البرية لموسكو من حيث العدد أكبر بكثير من خسائر أوكرانيا.

حدد موقع Oryx Blog، وهو موقع إلكتروني يتتبع الخسائر باستخدام الصور الفوتوغرافية والأقمار الاصطناعية، 505 خسائر من دبابات القتال الرئيسية الروسية (MBT) بحلول 14 أبريل، بينما كانت الخسائر الأوكرانية المحددة أقل من ربع هذا الرقم. لكن تبدو هذه الأرقام، أقل من قيمتها الحقيقية لأنها تستند فقط إلى الصور المتاحة ويمكن أن تكون الأرقام الفعلية أعلى بكثير.

تعادل الخسائر الروسية 16% من قوتها في خط المواجهة قبل الحرب البالغة 2927 دبابة، على الرغم من أنها تحتفظ بأكثر من ثلاثة أضعاف هذا العدد من الدبابات الإضافية المخزنة. وبالمقارنة، فإن الخسائر المسجلة للدروع الثقيلة لأوكرانيا تعادل 12% من قوتها المنشورة قبل الحرب والبالغة 858، على الرغم من أنها تحتوي على نفس العدد في المخازن. إن استبدال مدرعات MBTs والمدفعية ذاتية الدفع ومركبات المشاة القتالية من شأنه أن يوفر للقوات البرية الأوكرانية قدرة أكبر على إدارة أي هجمات روسية وشيكة.

ثانيا: البدائل الممكنة لتعويض الخسائر

فقدت أوكرانيا عدداً أقل من أنظمة الصواريخ أرض-جو وبعض الرادارات المرتبطة بها، لكن استنزاف أنظمة الدفاع الجوي يبدو أكثر أهمية. منعت أوكرانيا حتى الآن روسيا من الاستفادة الكاملة من ميزتها العددية والتقنية فيما يتعلق بالطائرات المقاتلة وطائرات الهليكوبتر الهجومية، مع استخدام الدفاع الجوي الأرضي والطائرات المقاتلة في العمليات الدفاعية المضادة للطائرات. لكن القوات الجوية الأوكرانية لا تتوفر سوى على عُشر طائرات الهجوم الأرضي المقاتلة مقارنة مع تلك المتاحة لروسيا، مما جعلها تتكبد خسائر قتالية فادحة.

على المدى القريب، قد يكون الإمداد بالأسلحة الثقيلة – مثل الدبابات MBTs والمركبات المدرعة وأنظمة صواريخ أرض جو متوسطة وطويلة المدى (SAM) – مقيداً بمتطلبات التدريب. تدريب طاقم على نوع جديد من الدبابات في وقت السلم، على سبيل المثال في فرنسا، يمكن أن يستغرق التدريب ثلاثة أشهر للقدرة القتالية الأولية، وهذا يتطلب أيضاً إزالة الطاقم من خط المواجهة. وبالمثل، تحتاج أطقم الصيانة الداعمة أيضاً إلى التكوين والتدريب المرحلي الضروري.

ومع ذلك، ستكون القوات المسلحة الأوكرانية قادرة على استيعاب عدد إضافي من الأنواع الموجودة بالفعل في مخزون أوكرانيا وتشغيلها على الفور. لا يزال مخزون الأسلحة الثقيلة في البلاد يتألف بالكامل تقريباً من أنظمة الإمداد التي تعود إلى الحقبة السوفيتية، ولا تزال هناك جيوب متبقية من هذه المعدات في دول أخرى تابعة للاتحاد السوفيتي السابق، بما في ذلك الدول الأعضاء في الناتو.

أرسلت جمهورية التشيك بالفعل إلى أوكرانيا عدداً صغيراً من T-72 MBT، من المحتمل أن تكون T-72M1s مخزنة، إلى جانب عدد مماثل من مركبات قتال المشاة BMP-1 التي تم تخزينها أيضاً. وتحتفظ بلغاريا وبولندا وسلوفاكيا أيضاً بطائرات T-72.

بالإضافة إلى متطلبات أوكرانيا الملحة لإعادة توريد أنظمة الأسلحة الرئيسية لمواجهة الاستئناف المتوقع للهجمات الروسية، فإنها ستتطلب أيضاً أسلحة ثقيلة إضافية. سيكون هذا إما نتيجة حرب استنزاف مطولة مع روسيا في شرقها، أو بسبب الحاجة إلى إعادة تزويد مخزونها بعد وقف الأعمال العدائية. سيكون استبدال جميع مخزوناتها من الحقبة السوفيتية أولوية على المدى المتوسط ​​، وكذلك تعزيز الردع التقليدي لأوكرانيا لمحاولة مواجهة أي عدوان روسي آخر.

ثالثا: مكاسب وخسائر متبادلة

نجح الهجوم المضاد الأوكراني في الشمال في طرد القوات الروسية من مدينة خاركيف. وفي الجنوب، نجحت روسيا في القضاء على جيوب المقاومة الأخيرة في مدينة ماريوبول الساحلية. كلاهما كان مكلفاً من حيث الخسائر العسكرية والمدنية، ومن غير المرجح أن يكون أي منهما حاسماً لا نهاء الصراع لفائدة طرف دون الأخر. ما حدث في ماريوبول وخاركيف يسلط الضوء على حركية المد والجذر في هذا الصراع. هذا النمط من المكاسب والخسائر المكلفة يتكرر الآن في شرق البلاد.

تحرز روسيا تقدماً صغيراً ولكنه ثابت في دونباس – وهو التركيز المتجدد لهجومها. لكنها عانت أيضاً من نكسات – كما أبرز ذلك تدمير عشرات المركبات المدرعة الروسية في وقت سابق وهي تحاول عبور نهر سيفرسكي دونيتس.

إقليم دونباس محور التركيز العسكري الروسي

المصدر: معهد بي بي سي للبحوث والدراسات حول الحرب

تستخدم روسيا قذائفها المدفعية وقاذفات الصواريخ لحصار القوات الأوكرانية على طول خطوط دفاعية معدة بشكل جيد. عملت روسيا على الضغط العسكري من اتجاهين رئيسيين – من إيزيوم في الشمال ومن الغرب حول مدينة سيفريدونيتسك. وأحرزت تقدماً محدوداً في كلا الاتجاهين.

يبدو أن روسيا “تحاول تجفيف أوكرانيا” من خلال إجبارها على تركيز قواتها في نقاط رئيسية، والتي يمكن بعد ذلك استهدافها بواسطة مدفعيتها. يعتقد المحللون العسكريون أن أوكرانيا من المحتمل أن تكون قد تكبدت خسائر كبيرة نتيجة لذلك. ومع ذلك، فإن أوكرانيا ستظل قادرة على استخدام المناطق الحضرية في دونباس لإبطاء تقدم روسيا، من خلال القتال في المدن والبلدات، كما ظهر جليا من خلال هذه الحرب.

على الرغم من أن الخبراء العسكريين ما زالوا يعتقدون أن روسيا تفتقر إلى عدد القوات التي تحتاجها لتحقيق تقدم كبير في الشرق الأوكراني، فانه من غير المرجح أن تحدث إعادة انتشار القوات من القتال في خاركيف وماريوبول.

يقول جاك واتلينج، من المعهد الملكي للمصالح المتحدة، إن روسيا لا تزال تعاني من نقص في الفرق العسكرية العاملة، ولا سيما في سلاح المشاة. حاولت روسيا إعادة بناء ودمج بعض وحداتها المدمرة بالفعل – والتي يطلق عليها اسم “قوات فرانكشتاين”. من المحتمل أن يكون تماسك الوحدات العسكرية المقاتلة وروحها المعنوية قد استنفدت وتحتاج إلى إعادة التقويم، حيث خلص تقييم استخباراتي أجرته وزارة الدفاع البريطانية مؤخراً إلى أن القادة الروس يواجهون ضغوطاً لتحقيق نتائج سريعة، ونتيجة لذلك من المرجح يعملوا على أعادة انتشار القوات العسكرية دون استعداد وتمرين كافيين.

التوزان العسكري في أوروبا

أ- الذهنية العسكرية العدائية الروسية

إن مواجهة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع الغرب هي السمة المميزة لسياسته الخارجية. أصبحت هذه المواجهة ممكنة إلى حد كبير بفضل مساعيه الرئيسية الأخرى أهمها الشراكة الإستراتيجية مع الصين.

وإدراكاً منه أن المنافسة الجيوسياسية ذات الجبهتين – في أوروبا وآسيا – ستكون أكثر من أن تتحملها روسيا، فقد قام بوتين بتأمين الجانب الشرقي للبلاد من خلال تنمية علاقات أوثق مع الصين. بالإضافة إلى تركيز قدراتها العسكرية على المسرح الأوروبي، فإن “علاقة القوى” بالنسبة لروسيا تتعزز من خلال هذه الشراكة التي “لا حدود لها”. يمكن أن تتقارب الشراكة إذا ساعدت الصين روسيا في تخفيف بعض المشاكل المرتبطة بغزو روسيا لأوكرانيا. بفضل خلفية إستراتيجية آمنة، كانت روسيا قادرة على تركيز طاقاتها على أوروبا بينما تستغل أيضاً الفرص في المسارح الأخرى – في إفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية.

من غير المرجح أن يغير الكرملين الطبيعة العدائية للسياسة الخارجية الروسية أو يسعى إلى انفراج مع الغرب. كما سيكون من الخطأ التقليل من حجم الدمار الاقتصادي الذي يمكن لنظام بوتين أن يتحمله أو يلحقه بمواطنيه الروس. لم يتم كبح السلوك الخارجي الروسي الحازم والمجازفة بسبب الرياح الاقتصادية المعاكسة والعقوبات الناجمة عن ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014.

مع افتراض أن حلفاء الناتو سيفون بتعهداتهم الأخيرة لأوكرانيا لتعزيز الإنفاق الدفاعي والقدرات العسكرية، فإن التوازن العسكري التقليدي في المسرح الأوروبي سوف يتحول إلى غير صالح روسيا. في غياب القوات المسلحة النظامية في أوروبا ومعاهدات القوات النووية متوسطة المدى، سيكون لأعضاء الناتو الحرية في نشر الأسلحة التي وجدتها روسيا (والاتحاد السوفيتي) منذ فترة طويلة مهددة بحكم قدرتها على تعريض أهداف رئيسية للخطر في قلب روسيا. لا بد أن يكون هذا الاحتمال مقلقاً للكرملين، تماماً كما كان مفهوم الضربة السريعة التقليدية العالمية مقلقاً للغاية لمجتمع الأمن القومي الروسي على الرغم من أن الولايات المتحدة لم تستخدم بعد أياً من هذه الأنظمة الهجومية.

إن انتهاء صلاحية معاهدة ستارت الجديدة في عام 2026، التي تضع حداً للترسانات النووية الإستراتيجية للولايات المتحدة وروسيا، ستترك البلدين دون إطار عمل متفق عليه لإدارة توازنهما النووي الإستراتيجي. ويبدو أنه من غير المرجح أن تكون المعاهدة اللاحقة بين الولايات المتحدة وروسيا سارية المفعول بحلول ذلك التاريخ. قد يدفع توسع الصين في ترسانتها النووية الإستراتيجية الولايات المتحدة أيضاً إلى تحديث برنامج قوتها الإستراتيجية، والذي في الأغلب قد يدفع الكرملين إلى الاستجابة لهذه التغييرات.  ووفقاً لتقرير البنتاغون الأمريكي الصادر في أكتوبر 2020، فإن الصين “تستثمر في عدد من منصات توصيل الأسلحة النووية البرية والبحرية والجوية، وتقوم ببناء البنية التحتية اللازمة لدعم هذا التوسع الكبير لقواتها النووية.

ومن شبه المؤكد أن يضطر الكرملين على مدى السنوات القليلة المقبلة إلى التعامل مع سباق تسلح جديد وكبير على مستوى كل من الأسلحة التقليدية والنووية. وعلاوة على ذلك، سوف تواجه روسيا أيضا انقطاعا عن التكنولوجيا من الغرب، مع احتمالات غير مؤكدة بأن تكون الصين قادرة على توفير المكونات الحيوية أو تخفيف الضغوط الاقتصادية التي تواجه نظام بوتين.

ومثل هذا التحول في الأحداث، يمكن أن تنجرّ عنه نتيجتان مختلفتان جذريا. الأولى يمكن أن تكون محاولة للانفراج والإصلاح، بقيادة خليفة لبوتين على سبيل المثال، والتي يمكن أن تثبت أنها مزعزعة للاستقرار في روسيا تماما كما كانت إصلاحات الرئيس الأسبق ميخائيل غورباتشوف بالنسبة إلى الاتحاد السوفييتي. وقد تكون النتيجة الثانية نظاما أكثر عدوانية وافتقارا إلى الأمن، أي كوريا الشمالية الجديدة بحجم روسيا. ولا تبعث أي من هاتين النتيجتين على الاطمئنان.

ب- الاتحاد الأوروبي ومفردات القوة الصلبة

في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، أظهر الاتحاد الأوروبي ملمحا وحدويا قويا بعزمه على المساعدة لرد العدوان الروسي. كما أوضحت منظمة Crisis Group في بيانها الأخير بشأن الحرب، إلى مساعدة الاتحاد الأوروبي أوكرانيا على مقاومة الغزو ورفع تكلفة الحرب على روسيا، مع إبقاء باب الحوار مفتوحاً وتقليص التدخلات ومخاطر المواجهة المباشرة مع موسكو. إن مواصلة الجهود لإنهاء إراقة الدماء في أوكرانيا وإدارة التهديد الذي تشكله الحرب على أمن أوروبا ككل – وفقاً للخطوط التي وصفتها مجموعة الأزمات – يجب أن تظل الأولوية الأولى للاتحاد الأوروبي. كما تعمل الحرب أيضاً على تسريع التحولات في السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي حيث تضطر بروكسل إلى التكيف مع الحقائق الجيوسياسية الجديدة والعمل على الحفاظ على التوازنات العسكري لفائدة الغرب.

أدت سرعة وحجم استجابة بروكسيل للتهديدات الروسية في أوكرانيا، إلى تنحية المخاوف القائمة منذ فترة طويلة بشأن العواقب غير المقصودة للمساعدات العسكرية. يمكن تفسير الخطوات غير المسبوقة –  بإنها مبررة بالحاجة الملحة لدعم أوكرانيا والمخاطر الكبيرة والمحتملة على اللأمن الأوروبي بشكل عام، لكنها تطرح أيضاً أسئلة حول مخاطر إرسال أسلحة وجيوش إلى ساحة المعركة في أوكرانيا ودور الاتحاد الأوروبي في المستقبل في تقديم المساعدة العسكرية في الخارج في غياب أسس تنظيمية تسمح بذلك.

لدفع تكاليف إمدادات الأسلحة لأوكرانيا، تجاهل الاتحاد الأوروبي الضمانات الخاصة لهذا النوع من الدعم (مثل التحليل المسبق للنزاع، وتقييم المخاطر والتداعيات، وعناصر تخفيض النزاع وترتيبات المراقبة والتقييم)، وذلك في ظل صعوبة وصول الاتحاد الأوروبي إلى أجزاء عديدة من أوكرانيا منذ بدء الغزو ومن قدرتها على القياس الدقيق لخطر إساءة استخدام أسلحتها.

لقد أدت الحرب في أوكرانيا إلى إحداث تغييرات مهمة من المرجح أن تظل بمثابة لبنات بناء للدور الدفاعي المستقبلي للاتحاد الأوروبي، وربما تزيد تدريجياً من قدرة الاتحاد على التدخل كلاعب عسكري بالتكامل مع الناتو، وهو طموح طويل الأمد ويظل حبرا على ورق وبدون تفعيل منذ إنشاء الاتحاد. قد يعزز الاتجاه السائد في أوروبا لوضع مزيد من الضغط على القوة العسكرية – وهو أمر يفضله بعض القادة الأوروبيين، بما في ذلك الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، جوزيب بوريل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.

يشير التحول المفاجئ في موقف برلين من الغزو الروسي إلى تحول حقيقي في المنظورات الأمنية الأوروبية، لقد تعرضت الحكومة الألمانية لانتقادات حادة من كييف وحلفائها الغربيين عندما وافقت على إرسال دعم بسيط في شكل مستشفى ميداني وخوذات للجنود الأوكرانيين. لكن في غضون أيام من الغزو، غيّر المستشار الألماني أولاف شولتز الموقف الألماني، وقرر تزويد أوكرانيا بـ 1000 سلاح مضاد للدبابات، و500 صاروخ ستينغر مضاد للطائرات و500 صاروخ ستريلا من مخزون الجيش الألماني.

والأهم من ذلك، أنه رافق هذا القرار بالإعلان عن أن برلين ستستثمر 100 مليار يورو في إعادة التسلح الألماني، الأمر الذي لا يبدد فقط انزعاجها بعد الحرب العالمية الثانية بشأن تحديد وتقزيم جيشها، بل يجعلها أيضاً أكبر دولة في معدلات الإنفاق العسكري في الاتحاد الأوروبي. قد يكون لانعطاف شولز 180 درجة عواقب طويلة الأمد على الاتحاد الأوروبي، حيث يبدو أن برلين أقل حماسا لمواصلة الضغط لتحقيق التكامل الدفاعي الأوروبي وحلول القوة الصلبة الجماعية التي تتحمس لها دول مثل فرنسا.

إن توسيع مجال الاختصاصات العسكرية للاتحاد الأوروبي، يمكن أن يوفر بالتأكيد بعض المزايا لتدعيم القوة الصلبة مثل زيادة قابلية الاعتماد المتبادل العسكري بين دول الاتحاد، واعتماد الترتيبات المرنة للانتشار العسكري جنباً إلى جنب مع حلف شمال الأطلسي، وتوحيد السياسات للقيام بالإجلاء المشترك لمواطني الاتحاد الأوروبي من مناطق النزاع، ويبدو هذا الأمر جد متناغمً مع ارتفاع منسوب المخاطر في عالم اليوم.

لكن في الحقيقة، لا تكفي المقاربات الأمنية وحدها لحل أزمات اليوم المعقدة والدفاع عن مصالح أوروبا. سيتعين على الاتحاد الأوروبي الحفاظ على توقعات عالية وواقعية لضرورة وجود قوات عالية التدريب على المستوى العملياتي، والتأكد من موازنة القدرات العسكرية الجديدة مع الحاجة المتزايدة لدبلوماسية الصراع وجهود بناء السلام.

ج- إشكالية توسع الاتحاد الأوروبي

يشكل غزو فلاديمير بوتين لأوكرانيا نقطة تحول في التاريخ الأوروبي. في الأسابيع الأولى من الحرب، قدم الغرب والاتحاد الأوروبي نفسيهما على أنهما موحدان بشكل غير متوقع. لكن مع مرور الوقت، ستختبر هذه الوحدة الغربية بشكل متزايد. ويمكن اعتبار المناقشات الأخيرة حول فرض حظر على واردات الطاقة الروسية ليست سوى بداية هذه العملية.

إن الحرب الدائرة في أوروبا قد تساهم في تفكك النظام الأوروبي. وهناك حاجة واضحة للاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه والدول الشريكة له لرؤية ومقاربة أكثر شمولية ونجاعة، بما في ذلك التكيف مع الحقائق الجديدة بسرعة وإعادة تنظيمها.

من أهم الموضوعات التي عادت الآن إلى قمة جدول أعمال الاتحاد الأوروبي هو توسيع الاتحاد. لقد وقعت عملية توسيع الاتحاد الأوروبي في مأزق بيروقراطي وتكنوقراطي. ومع ذلك، فإن الطلبات الأخيرة لعضوية الاتحاد الأوروبي من قبل أوكرانيا وجمهورية مولدوفا وجورجيا تقدم دليلاً على أن الجغرافيا السياسية للتوسع تكتسب أهمية بالغة لأوروبا.

تمثل القوى العظمى غير الديمقراطية مثل الصين وروسيا تحدياً واضحاً للاتحاد الأوروبي والغرب. هذا واضح في بلدان مثل صربيا، حيث يواصل ألكسندر فوتشيتش المناورة بين الضغط من الغرب للانضمام إلى العقوبات ضد روسيا، والتعاطف المفترض من جانب أجزاء كبيرة من السكان الصرب مع بوتين، وتفضيله الشخصي لنموذج الدولة الصيني.

وفي البوسنة والهرسك، يلعب زعيم جمهورية صربسكا الموالي لروسيا، ميلوراد دوديك، بالنار. لقد أصبح خطابه الانفصالي تهديداً دائماً لاستقرار البلاد. لا شك أنه قد حان الوقت لإعطاء الأولوية لمشروع التكامل الأوروبي وإعادة تقييم جذري لعملية توسيع الاتحاد الأوروبي وسياسة الجوار.

بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، توقفت عملية توسيع الاتحاد الأوروبي وأصبحت الدول الأعضاء مترددة في السماح بدخول دول جديدة إلى هذا التكتل الإقليمي، بينما حققت الدول المرشحة للانضمام تقدماً أقل في مجال الإصلاحات المطلوبة. تعاني علاقة الاتحاد الأوروبي مع الأعضاء الجدد في غرب البلقان من إشكالات عديدة، حيث أصبحت هذه الدول محبطة بشكل متزايد من تلكأ الموقف الأوروبي.

بالمقابل، فقد الاتحاد الأوروبي بعض نفوذه لحل النزاعات في المنطقة، والتي تشكل في حد ذاتها عقبة كأداء أمام سياسة الانضمام. وبالكاد تم إحراز بعض التقدم في المفاوضات مع صربيا والجبل الأسود منذ أن أصبحا مرشحين، في حين أن المحادثات مع ألبانيا ومقدونيا الشمالية لم تبدأ حتى الآن، بسبب الفيتو البلغاري.

كما لم تحصل كوسوفو والبوسنة والهرسك على وضع المرشح الرسمي. وتعد احتمالات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أكثر بعداً بالنسبة لجيران الكتلة الآخرين في أوروبا الشرقية، ولا سيما ما يسمى بالثلاثي المشترك أوكرانيا ومولدوفا وجورجيا، على الرغم من الدعوات من عدد صغير من الدول الأعضاء لتزويد هذه البلدان بصيغة للانضمام تكون أكثر وضوحاً.

يجب أن تصبح عملية أوربة جيوسياسية الفضاء الأوروبي مشتركة لدول غرب البلقان، جنباً إلى جنب مع أوكرانيا ومولدوفا وجورجيا، من أولويات الاتحاد الأوروبي. يجب أن يكون العنصر الأساسي في هذا هو التخلي عن النموذج الحالي، حيث لا يتم اكتساب المكافآت السياسية إلا في نهاية عملية الاندماج، وبدلاً من ذلك إنشاء نظام تدريجي للتكامل مع الاتحاد الأوروبي. هذا لا يعني إلغاء المشروطية، بل بالأحرى تحميل الحوافز مع زيادة الضغط من أجل الإصلاحات.

لن يحدث التكامل الأوروبي بين عشية وضحاها. ستحتاج جميع الدول التي تهدف إلى عضوية الاتحاد الأوروبي إلى وقت للحصول على العضوية الكاملة. في حين أن العضوية في الاتحاد الأوروبي، على النحو الذي اقترحه إيمانويل ماكرون، يمكن أن تؤدي إلى تعاون أعمق مع بروكسيل، إلا أنه ينبغي الحفاظ على إمكانية العضوية الفعلية في الاتحاد الأوروبي في نهاية عملية الإدماج في حال استجابة الدول المرشحة للانضمام للمعايير الموضوعة من قبل الاتحاد.

حلف الناتو بين التوسع وتحقيق معادلة الردع

واجه أعضاء منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) الغزو الروسي لأوكرانيا برفض شديد، ونشروا آلاف القوات في أوروبا الشرقية لحماية حلفاء المنظمة، لكن حينما شنت القوات الروسية هجوماً عنيفاً على أوكرانيا، لم تستطع دول الناتو الدخول في حرب ضد روسيا طالما لم تتعرض دولة عضو لهجوم حسب المادة الخامسة من ميثاق المنظمة.

يأتي قرار البقاء خارج الصراع في أوكرانيا في وقت عصيب بالنسبة لحلف الناتو، حيث أعربت أوكرانيا عن رغبتها في الانضمام إلى الحلف العسكري لكنها لا تزال معزولة إلى حد كبير بسبب معارضة روسيا الشرسة لمزيد من توسع الناتو باتجاه الشرق.  اقتصر هجوم روسيا واسع النطاق على الدولة المجاورة لها على حدود أوكرانيا، حيث أصاب المدن والقواعد بضربات جوية، لكن العديد من دول الناتو المجاورة أصبحت في حالة تأهب قصوى وطلبت رسمياً من الأعضاء الآخرين مناقشة ما إذا كان ينبغي على التحالف اتخاذ عمل جماعي ضد الروس.

يبدو أن أعضاء الناتو حريصون على اتخاذ موقف حذر في مواجهة العدوان الروسي على أوكرانيا. على الرغم من الجهود التي تبذلها هذه الأخيرة، إلا أن الحقيقة هو أن الناتو يمتنع عن إرسال الدبابات والطائرات الحربية إلى أوكرانيا ويحاول تقديم المساعدة العسكرية في الغالب من خلال الإمدادات والدعم اللوجستي الثانوي الذي لا يصل إلى مستوى إقحام الجيوش.

من المهم للغاية ألا تتصاعد الحرب بين روسيا وأوكرانيا أكثر وأن تتحول مباشرة إلى حرب بين الناتو وروسيا.  كما أن أوكرانيا ليست عضواً في الناتو، والمساعدات التي قدمها أعضاء الناتو إلى كييف والعقوبات السياسية والاقتصادية التي فرضوها على روسيا قد غيرت بالفعل من مسار الحرب. على الرغم من أهمية دعم الناتو لإفشال روسيا وثنيها عن تحقيق أهدافها العسكرية وزيادة المقاومة الدفاعية لأوكرانيا، فإن هذا الدعم لا يبدو كافياً بالنسبة لأوكرانيا.

يستغل الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي جميع الفرص التي يجدها على أكمل وجه ويحاول جذب الناتو أكثر إلى الحرب. في لقاءاته المتعددة مع العديد من قادة الدول الأعضاء وغير الأعضاء في الناتو، وفي الخطابات التي ألقاها أمام برلمانات تلك الدول، يعرّف الزعيم الأوكراني نضال بلاده ليس فقط على أنه حماية بلاده من الهجمات الروسية، ولكنه بمثابة حائط الدفاع الأخير لانتصار القيم الليبرالية والنظام الدولي الليبرالي القائم على قواعد الديمقراطية وقيم العيش المشترك. زيلينسكي، الذي شبه تدخلات الجيش الروسي في مناطق مثل بوتشا بالمذبحة، لكسب المزيد من الدعم، نجح في جذب الرأي العام الغربي إلى خطابه وسرديته المقاومة والمناضلة التي تلوم تلكأ الغرب في دعم أوكرانيا.

يواجه الناتو معضلة حقيقية في مواجهة الحرب الروسية-الأوكرانية، فبينما يحاول تقليص المساعدات العسكرية التي يقدمها لأوكرانيا حتى لا يضاعف من توهج لهيب الحرب أكثر ويعرض العالم ككل للدمار، فإنه يحاول زيادة مقاومة أوكرانيا حتى لا تحقق روسيا انتصارا كاسحا. وأبرز مثال على ذلك، القرارات التي اتخذها وزراء خارجية الدول الأعضاء في الناتو في اجتماع عقد في بروكسل يومي 6 و7 أبريل.2022 وما ترتب عنه من إطالة أمد الحرب أكثر وسقوط المزيد من القتلى ضحايا هذه الحرب. ويمكن اعتبار الدعم المقدم لأوكرانيا بمثابة درس وإشارة قوية لروسيا، ولكنه ليس كافياً لتغيير مسارات ومألات الحرب وتغيير التوازن العسكري للحرب لصالح أوكرانيا.

إذا كان الناتو يريد أن يُنظر إليه كمنظمة دولية تحافظ على التوازنات العسكرية وتمنع وقوع الحروب المدمرة، ومنع تعرض كل من الشعبين الروسي والأوكراني للمزيد من الاقتتال، وإقامة علاقة مستدامة مع روسيا، واعتبار كونه منظمة تساهم في الجهود الدولية لإحلال السلام والاستقرار، فانه يحتاج إلى تجاوز المقاربة السطحية التي تكمن في مجرد زيادة قدرته العسكرية وقدرات دول الحلف وتقديم الدعم العسكري لدول الشرق الأوروبي، إلى اتخاذ مبادرات سياسية ودبلوماسية بمنظور يستهدف إنهاء الحرب في أقرب الآجال.

إن الاعتماد فقط على تقديم المساعدات العسكرية لأوكرانيا وتوقع أن روسيا سوف يتم استنزافها بشكل كلي من قبل الغرب عن طريق العقوبات الاقتصادية، لن يحقق أي مكسب لحلف الناتو على المدى المتوسط ​​والطويل. يحتاج العالم إلى مزيد من الأمن الشمولي وليس لسياسات الاستقطاب التي تحول دون تبني مشاريع ومعادلات أمنية في خدمة الشعوب.

إن الاستمرار في سياسة التحشيد الأيديولوجي والعسكري من قبل حلف الناتو، يساهم في إطالة الحرب الروسية الأوكرانية ومواصلة الانتصار للوبيات المركبات الصناعية العسكرية التي تواصل مبيعاتها للأسلحة وتستغل الحروب لتجريب أسلحتها وعتادها.

الحرب الروسية-الأوكرانية ليست حرب أمريكا:

بالرغم من إدانة واشنطن للغزو الروسي لأوكرانيا، أوضحت الإدارة الأمريكية أن الأمريكيين ليسوا مستعدين للقتال؛ علاوة على ذلك، فقد استبعد بايدن إرسال قوات إلى أوكرانيا لإنقاذ المواطنين الأمريكيين، إذا تطلب الأمر ذلك. وقد قام بالفعل بسحب القوات التي كانت تعمل في البلاد من مستشارين ومراقبين عسكريين. لماذا إذن رسم بايدن هذا الخط الأحمر في أكثر أزمات السياسة الخارجية أهمية خلال فترة رئاسته؟

من الراجح أن بايدن لا يعتبر أن الحرب الروسية-الأوكرانية تمس بالأمن القومي الأمريكي، حيث إن أوكرانيا ليست جارة للولايات المتحدة، وليس بها قاعدة عسكرية أمريكية، ولا يوجد بها احتياطات إستراتيجية من البترول كما أنها ليست شريكا تجاريا رئيسيا.

ولكن غياب المصلحة الوطنية لم يمنع رؤساء سابقين من التدخل العسكري في العديد من المناطق نيابة عن الدول الاخرى. في عام 1990، برر الرئيس جورج بوش الأب تكوين تحالف دولي لطرد العراق من الكويت، بالقول إنه لحماية سيادة القانون ضد قانون الغابة. في عام 1995، تدخل الرئيس بيل كلينتون عسكريا في الحرب التي أعقبت انهيار يوغوسلافيا. وفي عام 2011، قام باراك أوباما بالأمر نفسه في الحرب الأهلية في ليبيا، وسبب التدخل في الحربين يعود بالأساس لأسباب إنسانية وحقوقية. واستخدم كبار مسؤولي الأمن في إدارة بايدن لغة مماثلة حين وصفوا التهديد الروسي للمبادئ الدولية الخاصة بالأمن والسلام. ولكنهم كانوا يروجون لحرب اقتصادية، من خلال عقوبات مقيدة، كرد فعل، وليس عمليات عسكرية.

1.  إدارة بايدن وعقيدة عدم التدخل المباشر

إن إدارة بايدن تدرك جيداً مخاطر المواجهة المباشرة بين واشنطن وروسيا. في خطابه بتاريخ 11 مارس 2022 صرح جون بايدن: “لن نخوض حرباً ضد روسيا في أوكرانيا. الصراع المباشر بين الناتو وروسيا يعني الحرب العالمية الثالثة، وهو أمر يجب أن نسعى جاهدين لمنعه “. لقد استبعدت الإدارة، إرسال قوات أمريكية إلى أوكرانيا في الوقت الراهن، وأرسلتها بدلاً من ذلك إلى دول الناتو، التي تعهدت الإدارة بالدفاع عنها. وقد رفض بايدن التفكير في أي شيء قد يثير صراعاً مباشراً مع روسيا، ليس فقط رفض منطقة حظر جوي ولكن أيضاً رفض عرضاً بولندياً لتزويد أوكرانيا بطائرات مقاتلة من الحقبة السوفيتية من طراز MIG.

ولكن مع زيادة الخسائر الإنسانية في أوكرانيا، سيزداد الضغط أيضاً لبذل المزيد من الجهود من قبل واشنطن لاحتوائها، حيث سيكون من المحبط للغاية أن خطر الحرب النووية يحد بشكل كبير ما تقوم به واشنطن. حذر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من أن أي شخص يحاول التدخل في الحرب” سيعاني من “عواقب لم تواجهها البشرية من قبل. يستخدم بوتين ترسانته النووية كسلاح إرهابي لاحتجاز أوكرانيا كرهينة وإبعاد الدول الأخرى عن التدخل.

2. هل الحرب فخ أمريكي لموسكو

رغم أن الرئيس الأمريكي جو بايدن، حذر مرارا من عقوبات قاسية لم يسبق لها مثيل ضد روسيا في حال غزت أوكرانيا، إلا أنه أكد أن واشنطن لن تتدخل عسكريا ضد موسكو، كما استبعد إرسال قوات أمريكية للدفاع عن أوكرانيا.هذه التصريحات، أثارت تساؤلات لدى المحللين، حول ما إذا كان الرئيس الأمريكي يعطي روسيا الضوء الأخضر لغزو أوكرانيا.كما أثارت تصريحات لبايدن في يناير/كانون الثاني الماضي 2022 صدمة لدى الأوكرانيين، حيث ذكر فيها أن “توغلا بسيطا” من جانب روسيا في أوكرانيا قد لا يكون ثمنه باهظا، عكس الموقف من الغزو الشامل.

يرى مراقبون أن واشنطن لا تريد الدخول في صدام عسكري مع موسكو، وإنما توريطها في غزو أوكرانيا وإيقاعها في فخ العقوبات لخنقها اقتصاديا ودق إسفين بينها وبين أوروبا (خاصة ألمانيا)، التي تزيد تدريجيا من اعتمادها على الغاز الروسي.

حسب تقارير وزارة الدفاع الأميركية، كان بإمكان الولايات المتحدة منع الحرب ولم تفعل، وأصرت على مطالب تعجيزية في مواجهة روسيا لترغمها على خيار الحرب، وأن الولايات المتحدة أغرت الحكومة الأوكرانية الموالية لها، وحثّت حلفاءها وشركاءها في الغرب والعالم على مساندة أوكرانيا في موقفها، وإقناعها بأن العالم يقف معها، وأن الولايات المتحدة تعرف تماما أن هذه الحرب ليست حرب قصيرة المدى، وأن أوكرانيا والشعب الأوكراني سيدفعون فيها ثمنا باهظا، وأن الولايات المتحدة، القطب الوحيد في العالم اليوم، لا تأخد بعين الاعتبار الدول الصغيرة، وهي تخوض معارك السيطرة والتفوق، وتجاربها عديدة في هذا الباب، وأنه كما كان قرار الحرب أميركياً، فإن قرار إيقاف الحرب قرار أميركي كذلك.

وبعد إطلاق روسيا عمليتها العسكرية وتوغلها في أوكرانيا، توالت الوعود بالمساعدات العسكرية والدفاعية من الغرب إلى كييف، وانهالت العقوبات تباعا على الروس وبوتين شخصيا، كان آخرها عزل مصارف روسية محددة عن نظام “سويفت” المالي للتعاملات المصرفية. اتفق الاتحاد الأوروبي وبريطانيا والولايات المتحدة وكندا على عزل مصارف روسية محددة عن نظام “سويفت”، وفرض إجراءات تقييدية لمنع البنك المركزي الروسي من استخدام احتياطاته الدولية.

3. المساعدات العسكرية الأمريكية وورقة السلاح النووي

يجب على الولايات المتحدة الأمريكية بالتنسيق مع الدول الغربية أولا: العمل على إنهاء الحرب. حيث تهدف العقوبات التي تم تفرضها واشنطن بالفعل على روسيا والأسلحة والمساعدات التي يرسلها البنتاغون إلى أوكرانيا إلى رفع تكلفة الصراع والحرب على روسيا، حتى تحصل القناعة لدى بوتين بضرورة التسوية السياسية للأزمة. يجب أن تستمر الجهود بموازاة مع استمرار تجنب البيت الأبيض الصراع المباشر بين الناتو والقوات الروسية. كلما طال أمد الحرب، ارتفعت تكلفتها المباشرة على الطرفين وعلى العالم.

ثانيا: يجب العمل على تغيير الموقف الأمريكي تجاه الأسلحة النووية، وإدراك أن طرق التفكير القديمة في الموضوع النووي لم تعد صالحة، علما أن الترسانة النووية الأمريكية لا تقدم أية بدائل في هذا الصراع، ولم تستطع إبقاء روسيا في حدودها الجغرافية. وبالمقابل فان السردية الروسية تركز على استخدام ورقة التهديد النووي والحرب النووية لردع التدخل في أوكرانيا. إن بوتين هو الوحيد من لوح بورقة الاستعداد لاستخدام الأسلحة النووية كغطاء لمعاملة الدول الأضعف بوحشية.

يمكن لإدارة بايدن القيام بتغيير سياساتها النووية وفقاً لذلك، حيث يلزم على واشنطن استبعاد مبادرات الاستخدام العشوائي للسلاح النووي، والسعي لبناء إجماع دولي حول فكرة أن الغرض الوحيد للأسلحة النووية هو ردع استخدامها من قبل الآخرين، بالإضافة إلى ذلك يجب على الولايات المتحدة أن تبدأ الآن في حشد الدعم الدولي للتخفيض الممنهج للأسلحة النووية والتخلص منها في نهاية المطاف حتى لا يمكن استخدامها من قبل القوى الكبرى والتهديد باستخدامها في أي حرب كيفما كان نوعها.

كيف يمكن إنهاء الصراع العسكري في أوكرانيا؟

1.  استنزاف روسيا

بداية، الإدارة الأمريكية لا ترغب أن ترى المساعدات العسكرية الأمريكية تستخدم لمساعدة أوكرانيا على الهجوم داخل روسيا ولا تقدم أيضا معلومات استخباراتية تستهدف كبار القادة العسكريين الروس في ميدان الحرب. النقاشات المتأنية حول دعم أوكرانيا بالأسلحة هي جزء من نقاش أوسع في واشنطن حول ما تعنيه “الهزيمة الإستراتيجية” لروسيا في الواقع. وهناك على ما يبدو شبه إجماع أمريكي أن سياسة العقوبات الغربية على روسيا ستسهم في إرهاق كاهل الاقتصاد الروسي وتعجل على المدى المتوسط والبعيد في تغيير الأبعاد الجيوسياسية لدولة روسيا الاتحادية.

كما يؤكد العديد من السياسيين الأمريكيين بأن روسيا ستظل أضعف بعد الحرب بغض النظر عن كيفية تطورها، لا سيما بسبب العقوبات الدولية ومراقبة الصادرات الروسية وفرض الرقابة عليها مما يساعد على إضعاف اقتصادها.

فيما قد يكون اعترافاً ضمنياً بالصعوبات التي واجهها الجيش الروسي، قال المسؤولون الروس إن هدفهم الرئيسي الآن هو “تحرير” دونباس في شرق أوكرانيا. زعمت وزارة الدفاع الروسية أنها ستسحب بعض القوات بالقرب من العاصمة كييف، لكن المسؤولين الأمريكيين يعتقدون أن المناورة الروسية لا تستهدف الانسحاب بل يتم التخطيط لمجرد إعادة تمركز القوات العسكرية، ربما للمشاركة في عمليات في إقليم دونباس.

2. أوروبا منقسمة بشأن الحل السياسي

يشترك العديد من حلفاء واشنطن من الدول الغربية في نفس المخاوف بشأن حرب طويلة الأمد، واستطاعت واشنطن إبقاء حلف شمال الأطلسي وشركاء آخرين متحدين ومتفقين على منهجية الحرب. ومع ذلك، بدأت بعض الشروخ في الظهور حيث إن حرب أوكرانيا قد خلقت خطوط صدع جديدة في أوروبا، كدول مثل بولندا والمملكة المتحدة التي تخرج في بعض الأحيان عن ما تقترحه واشنطن، في حين أن فرنسا وإيطاليا وألمانيا تدعو إلى مزيد من الحذر والتحفظ.

كما أن بعض السياسيين في أوكرانيا، واجهوا بغضب شديد اقتراح هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، حينما أشار إلى أن كييف قد تضطر إلى التخلي عن أراضيها من أجل إنهاء معاناة الحرب الطويلة. كما أن متابعة الحرب بما يتجاوز الوضع الذي كان قائماً في بداية الغزو "لن يكون حول حرية أوكرانيا، بل هو حرب جديدة ضد روسيا نفسها".

3. مطالب أوكرانيا للتسوية السياسية

تكمن المطالب الأوكرانية في عشر مقترحات للوصول إلى تسوية سياسية أهمها. أولا: إعلان أوكرانيا دولة محايدة ترفض الاصطفاف إلى أحد القطبين الغربي أو الروسي، مع الالتزام أيضا بعدم تطوير السلاح النووي. ثانيا: عدم شمول الضمانات الأمنية الدولية إقليم القرم وسفاستوبول وأجزاء من إقليم دونباس، ويلزم على الأطراف المتصارعة الاتفاق على ترسيم الحدود وأحقية كل طرف في فهم تحديد الحدود بشكل مختلف عن الأخر. ثالثا: يلزم على أوكرانيا عدم الانضمام إلى أي حلف عسكري أو استضافة أية قاعدة عسكرية أو القيام بمناورات عسكرية، إلا بعد الاتفاق مع الدول الضامنة للاتفاق. رابعا: في حال الاعتداء على أوكرانيا، يلزم على الدول الضامنة رد العدوان في أجل ثلاث أيام حسب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة. خامسا: في حال الاعتداء على أوكرانيا يتم اللجوء إلى مجلس الأمن الدولي وتفعيل البند السابع من الميثاق. سادسا: يدخل الاتفاق حيز النفاذ بعد تنظيم استفتاء حول الأمر وتعديل الدستور الأوكراني والمصادقة عليه من قبل البرلمان الأوكراني وبرلمانات الدول الضامنة. سابعا: الأجزاء المتنازع عليها جزيرة القرم وسفاسطوبول يجب أن تكون موضوع مفاوضات ثنائية مباشرة بين أوكرانيا وروسيا في أجل 15 سنة والعمل على حل هذا النزاع دون اللجوء للقوة العسكرية مع استمرار المساعي الدبلوماسية.

من الصعب الوصول إلى مدركات حقيقية تجعل المفاوضات بناء على المقترحات الأوكرانية، أمرا مستساغا أو على الأقل قابلا للنقاش والتفاوض من طرف روسيا، التي تتمسك بمنظور أمني شمولي يجعل من الدول الأوروبية الشرقية مجالها الحيوي والإستراتيجي، وبالتالي فالمقترحات الأوكرانية التي تسمح للدول الضامنة للاتفاق وهي الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية بالتدخل العسكري في حال وقوع أي اعتداء وأن الاتفاق لن يتم توقيعه إلا برضا الأطراف الغربية، لن تلاق ترحيبا كبيرا من قبل الطرف الروسي.

4. مطالب روسيا تعقد عملية التفاوض

قدمت موسكو في وقت سابق من الحرب مطالب موغلة في التعقيد: نزع النازية الجديدة، نزع السلاح، الحياد، الاعتراف بشبه جزيرة القرم كجزء من روسيا، والاعتراف بـ “الجمهوريات الشعبية” دونيتسك ولوهانسك كدول مستقلة.

أحد المطالب الروسية هو نزع النازية، والذي يبدو أنه عبارة رمزية لتغيير الحكومة في كييف، وهي حكومة يرأسها رئيس يهودي. في ضوء أداء أوكرانيا في ساحة المعركة، لا يوجد سبب للاعتقاد بأن الرئيس زيلينسكي أو حكومته سيوافقان على هذا المطلب الروسي.

المطلب الثاني: هو نزع السلاح، حيث يريد الكرملين من أوكرانيا خفض عدد قواتها إلى ما لا يزيد عن 50,000 مقاتل. ليس لدى الحكومة الأوكرانية رغبة ودافع جوهري كبير لتقليص جيشها، لأن القيام بذلك من شأنه أن يترك البلاد مفتوحة أمام غزو روسي في المستقبل.

المطلب الثالث – الحياد بالنسبة لأوكرانيا – يبدو للوهلة الأولى مطلبا وشرطا قابلاً للتفاوض. قال زيلينسكي أن على كييف أن تتفهم أن عضوية الناتو ليست عرضا مقدما من قبل الناتو. واقترح مفاوضوه التمسك بوضع الحياد، وعدم استضافة قواعد أجنبية، وعدم السعي لامتلاك أسلحة نووية، لكنهم بالمقابل يريدون ضمانات دولية، بما في ذلك الالتزام باستخدام القوة المسلحة في الدفاع عن أوكرانيا.

لكن هل ستلتزم الدول الغربية التي تتمتع بقوة عسكرية متفوقة بعدم التدخل في أي نزاع مسلح محتمل مع روسيا في المستقبل؟ وهل ستوافق موسكو على تسوية مع ضمانات تنطوي على احتمال مثل هذا التدخل؟

علاوة على ذلك، كيف يعرّف الكرملين “الحياد”؟، أشار بيسكوف إلى أن النمسا والسويد قد تقدمان نماذج للحياد الأوكراني، وكلاهما عضو في الاتحاد الأوروبي. هل توافق موسكو على هذا الطرح بالنسبة لأوكرانيا؟ حيث طالما أبدت كييف اهتمامها المستمر بالعضوية في الاتحاد الأوروبي.

مطلب موسكو الرابع، هو أن تعترف كييف بشبه جزيرة القرم كجزء من روسيا. في عام 2014، استخدمت روسيا القوة العسكرية للاستيلاء على شبه جزيرة القرم وضمتها بعد استفتاء مصطنع. من المحتمل أن يدرك العديد من الأوكرانيين أنهم يفتقرون إلى النفوذ لتأمين عودة شبه جزيرة القرم. ومع ذلك، فإن الاعتراف رسمياً بذلك قد يتسبب في رد فعل سياسي داخلي عنيف. عرضت كييف الموافقة على عدم استخدام القوة لتأمين عودة شبه جزيرة القرم وتسوية وضع شبه الجزيرة في غضون 15 عاماً، لكن المسؤولون الروس يعتبرون أن وضع شبه جزيرة القرم ليس مطروحاً على طاولة المفاوضات.

المطلب الروسي الأخير هو أن تعترف كييف بـ “الجمهوريات الشعبية” في دونيتسك ولوهانسك كدولتين مستقلتين. قد يكون ذلك صعباً أيضاً على كييف داخليا، خاصة وأن موسكو اعترفت باستقلال الدويلات في حدودها الأوكرانية. قبل 24 فبراير، سيطرت القوات الروسية والقوات بالوكالة على 35 بالمائة فقط من ولايتي دونيتسك ولوهانسك. لقد اقترحت كييف أن يتم حل هذه المسالة مباشرة بين زيلينسكي وبوتين.

يعتقد المسؤولون الأمريكيون أنه لا ينبغي على الغرب الضغط على كييف لقبول أي حل سياسي لإنهاء الحرب، ولكن يجب ترك تلك القرارات للأوكرانيين. لقد أوضح البيت الأبيض ذلك في 29 آذار (مارس)، واعتبر أن هذا هو النهج الصحيح لواشنطن والغرب.

ومع ذلك، لن يكون من الممكن إجراء مفاوضات حقيقية ما لم يدرك الكرملين أنه لا يستطيع تحقيق أهدافه بالقوة وأنه سيتعين عليه التراجع عن مطالبه المتطرفة. وفي حال وصول القناعة إلى هذه النقطة، فإن المساومة والتفاوض الصعب ستبدأ من جديد.

مهما يكن من أمر التصريحات الدبلوماسية للدول الغربية وروسيا بشأن تفضيل الحلول والمساعي الدبلوماسية للوصول إلى حل سياسي، يظل النزاع بين روسيا والغرب يراوح مكانه وتتكبد أوروبا والعالم بأسره تداعيات مأساوية على مستوى الخسائر البشرية والاقتصادية والتحولات الجوهرية في طبيعة الأنساق الأمنية للنظام الدولي واتجاهه نحو مأسسة نظام دولي ما زالت تحكمه إرادة الدول الكبرى حسب أنصار النظرية الواقعية، وتغيب عنه المؤسسات الدولية والقانون الدولي، حيث فشلت المقاربات الجماعية في وقف اطلاق النار وانتصرت بدلا عنها لغة السلاح والتوازنات العسكرية المعقدة و إهدار فرص التسوية السياسية.

خاتمة

يحتاج المحللون الغربيون إلى إجراء فحص دقيق ونقدي للأهداف الحقيقية للجيش الروسي من غزو أوكرانيا. إذا كان الافتراض الشائع أن القدرة على خوض الحروب هو سبب الأساسي لوجود الجيوش في حد ذاتها، فإنه يمكن للدول أيضاً امتلاك دوافع أخرى للخيار العسكري، كالمجد القومي أو أهداف الصناعة العسكرية على اعتبار أن ادعاء روسيا بأنها قوة عظمى، وسهولة إكراه دول الجوار الأضعف قوة، قد يؤدي بها إلى دخول حروب صغرى ومحدودة في الزمان والمكان.

على أي حال، فإن التهديد الرئيس من روسيا لا يتمثل في قدراتها التقليدية، بل في العنف الممارس من قبلها بما في ذلك استهداف المدنيين والرغبة في المخاطرة بالأسلحة النووية. طالما أن الكرملين يتصرف مثل الفاعل الجيوسياسي، فإنه يتظاهر بمظهر القوة الكبرى، بدلاً من قبول مكانة متواضعة نسبياً في المشهد الدولي، ولهذا السبب فان الأمن والاستقرار الإقليميين سيظلان بعيدين المنال.

كما يلزم أن نحكم على مدى جودة أداء القوات الغربية التي تواجه تحديات مماثلة. قد تكون بعض العيوب التي تم الكشف عنها داخل القوات المسلحة الروسية كامنة أيضا داخل القوات العسكرية الغربية. تشير عدة تقارير إلى أن القوات الأوروبية تعاني العديد من الاختلالات من عدة نواحٍ، مثل ضعف عدد الأفراد والمعدات والإمدادات والتدريب.

تغيب الحلول العسكرية الحاسمة في الحرب الأوكرانية- الروسية، هي حرب تحقق العديد من الأهداف الجيوسياسية للولايات المتحدة الأمريكية، لكنها أيضا تضع أوروبا وحلف الناتو والعالم في موقف حرج بين المواجهة العسكرية لروسيا والمصالح الحيوية لأوروبا من سلاسل الإمدادات من المواد الطاقية والغذائية التي تضررت كثيرا من جراء الحرب نتيجة الاعتماد على الغاز الروسي بالنسبة لعدد كبير من الدول الأوروبية وفي مقدمتها ألمانيا، وارتفاع أسعار البترول والحبوب وغيرها من المواد الاستهلاكية، مما يجعل من إطالة أمد الحرب واعتماد روسيا على دعم الصين  اقتصاديا وربما عسكريا في مواجهة الغرب من العوامل التي تساهم في جعلها حرب استنزاف حقيقية للعالم، وخاصة دول الجنوب ومواجهة عسكرية وحروب سبرانية مفتوحة على كل الاحتمالات وخاصة مع تغير لعبة التحالفات الدولية.