• اخر تحديث : 2024-05-03 21:39
news-details
أبحاث

النظام السياسي الفلسطيني وتحدي انتقال السلطة بعد الرئيس عباس


مقدمة

فتحت قضية تأجيل/ إلغاء الانتخابات العامة الفلسطينية في مايو 2021، والتسريبات الإعلامية المتداولة حول تخلي الرئيس الفلسطيني محمود عباس (87) عاماً، عن بعض صلاحياته بسبب وضعه الصحي، النقاش مجدداً حول مستقبل النظام السياسي الفلسطيني والتحديات الداخلية التي تواجه انتقال السلطات التي يتولاها الرئيس الفلسطيني في ظل الانقسام السياسي والجغرافي، وما صاحبه من تنامي مظاهر الازدواجية والضعف في بنية النظام السياسي وهيمنة السلطة التنفيذية على السلطتين القضائية والتشريعية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي ظل تصاعد الخلافات الداخلية في حركة فتح منذ عام 2011، التي تعمّق أزمة التوافق على آليات انتقال السلطات في منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية وحركة فتح.

تناقش هذه الورقة آليات انتقال السلطة في النظام السياسي الفلسطيني وتحدياتها، وتستكشف محددات وسيناريوهات خلافة الرئيس محمود عباس.

الانتخابات كآلية لانتقال السلطة

أسسّت السلطة الفلسطينية نظاماً انتخابياً، لكنها لم تلتزم بشروط الانتخابات ومواعيدها. فعلى امتداد تجربتها بين عامي 1994 و2022، لم تجرِ الانتخابات التشريعية وانتخابات رئاسة السلطة إلا ثلاث مرات في الأعوام 1996 و2005 و2006؛ إذ كان من المفترض تنظيم الانتخابات العامة في عامي 2009 و2010، لكنها لم تجرَ، ما يعدّ نكوصاً وتراجعاً عن نصوص القانون الأساسي الفلسطيني فالرئيس ياسر عرفات استمر في منصبه رئيساً للسلطة الفلسطينية لعشرة أعوام (1994- 2004)، فيما استمر الرئيس محمود عباس في منصبه سبعة عشر عاماً، ولم يزل يشغل المنصب حتى الآن. واستمرت ولاية المجلس التشريعي الفلسطيني الأول لعشرة أعوام (1996- 2006)، بينما ما زالت ولاية المجلس التشريعي الثاني مستمرة منذ عام 2006، أي لأكثر من ستة عشر عاماً، وظل المجلس معطلاً منذ عام 2007، جراء الانقسام الداخلي.

وعلى امتداد الخمسة عشر عاماً الماضية، تداعى طرفا الانقسام لعشرات المبادرات الإقليمية والدولية لتحقيق المصالحة واستعادة الوحدة الوطنية وتوحيد المؤسسات الفلسطينية، أبرزها المبادرات والرعاية المصرية الكاملة لحوارات المصالحة بين الطرفين، وهي مبادرات ممتدة منذ عام 2007، غير أن الاتفاقات المبرمة بينهما وعلى كثرتها، لم تجد طريقها إلى التطبيق العملي رغم ما تضمنته من آليات لتوحيد مؤسسات السلطة وإعادة بناء منظمة التحرير. وبذلك ظل مسار المصالحة شائكاً ومعلقاً في غياب الإرادة الحقيقية لطي صفحة الانقسام ومعالجة أسبابه وتداعياته، بما يضمن توحيد مؤسسات النظام السياسي وإعادة الاعتبار لها

ومثلما كان للانقسام الداخلي انعكاساته على العملية الانتخابية، فإن “حجة” رفض إسرائيل تنظيم الانتخابات في مدينة القدس المحتلة كانت أحد أسباب تأجيلها بعد أن تقرر يوم 22 مايو 2021، موعداً لإجرائها، لكن حقيقة قرار التأجيل بمرسوم رئاسي، ترجع إلى أسباب أخرى، أهمها:

إن الرئيس الفلسطيني وحركة فتح أرادوا خوض الانتخابات بصيغة “القائمة المشتركة” مع حركة حماس، وبعد أنْ تعذر الاتفاق بين الحركتين بشأنها تأجلت الانتخابات.

تشكيل قائمتي “المستقبل” التابعة لتيار الإصلاح الديمقراطي في حركة فتح بقيادة النائب محمد دحلان، و”الحرية” التابعة للملتقى الوطني الديمقراطي برئاسة ناصر القدوة، وما تشكله القائمتان من تهديد للقائمة التي شكّلها الرئيس الفلسطيني واللجنة المركزية لفتح.

نيّة الأسير والقيادي الفتحاوي مروان البرغوثي الترشح لانتخابات رئاسة السلطة الفلسطينية.

لقد واجه قرار تأجيل/ إلغاء الانتخابات معارضةً فلسطينية واسعة؛ لأنه يراكم على الانتكاسات التي منيَّ بها الفلسطينيون في استعادة الوحدة وإعادة الاعتبار للنظام السياسي على امتداد سنوات الانقسام، ويعيدهم إلى المربع الأول، إلى جانب أن قرار التأجيل يمثل خروجاً عن مقررات الإجماع الوطني بوصف الانتخابات مطلباً عاماً واستحقاقاً دستورياً.

وفي المقابل، كان يؤخذ على منظمة التحرير اضطلاعها بدور محدود فيما يتصل بتحقيق الديمقراطية في أطرها ومؤسساتها، على الرغم من النصوص التي أوردها النظام الأساسي، وأن شعار الديمقراطية ظل مرفوعاً في هيئاتها، لكنه لم يجد طريقه إلى التطبيق العملي، الأمر الذي دفعها إلى استحداث ما بات يعرف، فلسطينياً، بنظام “الكوتا” أو “المحاصصة

التجربة الفلسطينية في انتقال السلطة

لمرة واحدة، التزم الفلسطينيون بعملية انتقال السلطة، استناداً إلى نص المادة رقم (37- فقرة 2) من القانون الأساسي المعدّل لعام 2003: “إذا شغر مركز رئيس السلطة الوطنية في أي من الحالات السابقة يتولى رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني مهام رئاسة السلطة الوطنية مؤقتاً لمـدة لا تزيد على ستين يوماً تجرى خلالها انتخابات حرة ومباشرة لانتخاب رئيس جديد وفقاً لقانون الانتخابات الفلسطيني”، وذلك بعد وفاة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، وتولي روحي فتوح منصب رئاسة السلطة الفلسطينية لمدة ستين يوماً، أجريت بعدها انتخابات رئاسية في يناير 2005، فاز فيها الرئيس محمود عباس.

لكن الأوضاع الداخلية الفلسطينية وتحولات ما بعد عام 2006، تدفع باتجاه مخالفة هذه القاعدة، فبعد وفاة ياسر عرفات كان طريق انتقال السلطة يسيراً، ذلك أن حركة فتح هي التي كانت تسيطر على السلطتين التشريعية والتنفيذية وقتها، وتمكنت من ترشيح محمود عباس لمنصب رئاسة السلطة خلفاً لعرفات. غير أنه منذ الانتخابات التشريعية الثانية عام 2006، وفوز حركة حماس فيها، وما تبعها من انقلاب عسكري نفذته الحركة وسيطرت بموجبه على مؤسسات النظام السياسي في غزة، وما اتخذته الحركة والسلطة الفلسطينية ورئيسها من إجراءات على خلفيه الانقسام، أهمها تعطيل المجلس التشريعي الفلسطيني وحلّه؛ أضحى طريق انتقال السلطة في حال غياب الرئيس محمود عباس أكثر تعقيداً.

سيناريوهات محتملة لخلافة الرئيس عباس

في ضوء تعقيدات المشهد الفلسطيني على النحو الذي ذكرناه آنفاً، يصعب التنبؤ بسيناريو وحيد لانتقال السلطات في (منظمة التحرير، والسلطة الفلسطينية، وحركة فتح) التي يتولاها الرئيس عباس.

ثمّة سيناريوهات محتملة وقابلة للتحقق، وهي على النحو الآتي:

سيناريو العودة إلى منظمة التحرير:

يدفع قرار تعطيل المجلس التشريعي الفلسطيني منذ عام 2007، وحلّه بناءً على “قرار تفسيري” للمحكمة الدستورية العليا في ديسمبر 2018، إلى استحضار صيغة العودة إلى منظمة التحرير والاحتكام إلى مؤسساتها في حال شغور مركز رئيس السلطة الفلسطينية، وذلك بالاستناد إلى أن المنظمة هي الهيئة التمثيلية العليا للشعب الفلسطيني، وهي مرجعية السلطة الفلسطينية والجهة التي أنشأتها، وبالتالي تؤول لإحدى هيئاتها رئاسة السلطة.

انسجاماً مع هذا الطرح، انتخب المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية في دورته الـ (31) المنعقدة في رام الله بتاريخ 6/2/2022، روحي فتوح رئيساً للمجلس الوطني الفلسطيني، واستكمل عضوية اللجنة التنفيذية للمنظمة بما في ذلك إدخال حسين الشيخ في عضويتها؛ تمهيداً لتكليفه من قِبل رئيس السلطة الفلسطينية بمهام أمين سر اللجنة التنفيذية في 26/5/2022. وقد فهمت هذه التعيينات على أنها خطوات استباقية لترتيب مرحلة ما بعد الرئيس عباس

وفقاً لهذا السيناريو، فإن منظمة التحرير ستختار أمين سر لجنتها التنفيذية، حسين الشيخ، لتولي منصب رئاسة السلطة الفلسطينية. هذا السيناريو قابل للتحقق وهو الأكثر ترجيحاً، رغم ما يواجهه من تحديات قانونية وسياسية عدّة، أهمها: عدم وجود نص قانوني يمنح أمين سر اللجنة التنفيذية الحق في تولي رئاسة السلطة الفلسطينية، فضلاً عن معارضة أربعة فصائل من داخل منظمة التحرير لمخرجات جلسة المجلس المركزي التي خصصت لـ”ملء الشواغر” من قيادات فتحاوية، وهي: “الجبهة الشعبية، وحركة المبادرة الوطنية، والجبهة الشعبية – القيادة العامة، وطلائع حرب التحرير الشعبية”، وانسحاب ممثل “حزب الشعب” من جلساتها، واعتذار بعض المستقلين عن المشاركة فيها.

سيناريو القيادة الجماعية:

يعد سيناريو القيادة الجماعية أفضل الخيارات، وهو سيناريو وارد لمرحلة ما بعد الرئيس عباس من خلال توزيع المناصب التي يتولاها (في المنظمة والسلطة وفتح) على أكثر من شخصية من المتصارعين على الخلافة، مع توسيع مشاركة ممثلي القوى السياسية المنضوية في إطار المنظمة (تيار اليسار الفلسطيني) إلى جانب حركة فتح في هيئات منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية ومؤسساتها كافة.

لكن الاتفاق على صيغة مقبولة للقيادة الجماعية يتطلب ترتيب أوضاع حركة فتح وإنهاء الخلافات الداخلية فيها، وإعادة إصلاح أطرها وهياكلها التنظيمية، ووقف الإجراءات والعقوبات التي اتخذتها قيادة الحركة منذ عام 2011، ضد المئات من قياداتها وكوادرها في الضفة الغربية وقطاع غزة، ومن ذلك الاتفاق مع النائب محمد دحلان، قائد تيار الإصلاح الديمقراطي في حركة فتح، والأسير مروان البرغوثي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، وناصر القدوة، القيادي الفتحاوي ورئيس الملتقى الوطني الديمقراطي، وغيرهم من القيادات الفتحاوية التي اتخذ الرئيس الفلسطيني قرارات بفصلهم من الحركة، فمن شأن هذه الإجراءات أن تنهي مسألة تنازع المسؤوليات والصلاحيات، وتعزّز فرص انتقال السلطة بحيث يتولى أحد قيادات الحركة رئاستها، وتتيح لآخرين تولي رئاسة المنظمة ورئاسة السلطة بتوافق جماعي.

سيناريو الفوضى والصراع الداخلي:

الفوضى واحتدام الصراع الداخلي ما بعد عباس، هو أحد السيناريوهات المحتملة والأقل ترجيحاً. ولهذه الفوضى “المحتملة” ثلاثة اتجاهات:

الاتجاه الأول، بين قيادات السلطة الفلسطينية وقيادات حركة فتح، الذين لم يقبلوا بترتيبات انتقال السلطة المشار إليها في السيناريو الأول (العودة إلى منظمة التحرير والاحتكام إلى مؤسساتها)، أو في حال فشل خيار “القيادة الجماعية”، ومن ذلك تحول الأجهزة الأمنية وتنظيم “فتح” للعمل لصالح قادة محليين.

الاتجاه الثاني، الاقتتال بين حركتي “فتح” و”حماس”.

الاتجاه الثالث، الفوضى القبلية والعشائرية المدعومة من قوى سياسية، وهي امتداد للفوضى والاقتتال الذي تشهده بعض مناطق الضفة الغربية في السنوات الأخيرة.

لكن هذا السيناريو محكوم بتدخلات عدّة لتجنبه، منها: التدخلات العربية لحماية السلطة والحفاظ على السلم والاستقرار في الأرض الفلسطينية، كأن تتوسط مصر بين أطراف الصراع وترعى انتقالاً آمناً للسلطة، وهي التي أدت دوراً تاريخياً في مواكبة أي خيار قيادي فلسطيني منذ أنْ رأَسَ المفتي أمين الحسيني اللجنة العليا للإنقاذ في الثلاثينيات من القرن الماضي. وفي المقابل، تستبق إسرائيل هذا السيناريو بتجهيز خططها الأمنية لمواجهة الفوضى خشية من تهديد المستوطنين في مستوطنات الضفة الغربية عبر إضعاف حركة حماس في الضفة الغربية، وتعزيز السلطة الفلسطينية من خلال تحسين الأوضاع الاقتصادية ومنح تسهيلات لسير الحياة اليومية للفلسطينيين، وأهمها زيادة عدد العمال المسموح لهم بالعمل داخل إسرائيل