• اخر تحديث : 2024-11-22 10:05
news-details
تقدير موقف

دلالات تنامي الحضور البريطاني في القارة الأفريقية


شرعت لندن في استعادة حضورها في القارة الأفريقية بعد عقود من تراجع دورها هناك، خاصة منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في 2016، وهو ما وضح في الزيارات المكثفة التي قام بها وزيرا الخارجية والدفاع البريطاني لعدد من دول القارة خلال النصف الأول من عام 2022.

اهتمام بريطاني بأفريقيا:

تسعى الحكومة البريطانية لتوسيع نفوذها في القارة الأفريقية، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:

1. تعيين مبعوث للقرن الأفريقي: أعلنت بريطانيا، في 21 يونيو 2022، تعيين الدبلوماسية، سارة مونتجمري، مبعوثة خاصة لمنطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر. وتزامن هذا الإعلان مع وجود المبعوث الصيني الخاص للمنطقة، شيويه بينج، في إثيوبيا لمحاولة تعزيز حضور بكين في هذه المنطقة الحيوية.

وتكشف الخبرة السابقة لمونتجمري أن تركيزها سينصب على منطقة البحر الأحمر بشكل أوسع، فقد تولت مونتغمري سابقاً مناصب رفيعة في الأمانة العامة للأمن القومي، حيث ركزت على اليمن وإيران والخليج، فضلاً عن عملها كمديرة التطوير في المفوضية البريطانية العليا في كينيا.

2. جولات بريطانية لغرب وشرق أفريقيا: قام وزير القوات المسلحة البريطانية، جيمس هيبي، بجولة إلى غرب أفريقيا، في نهاية يونيو الماضي، بيد أن ملامح هذه الجولة لم يتم الإعلان عنها، أو حتى الدول التي تضمنتها الجولة، إذ تم الكشف فقط عن زيارة قام بها هيبي إلى كوت ديفوار، التقى خلالها برئيس هيئة الأركان الإيفواري، الفريق لاسينا دومبيا، وتضمنت الاتفاق على تعزيز التعاون الأمني والعسكري بين البلدين، لاسيما فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب والقرصنة البحرية.

وتجدر الإشارة إلى أن لندن كانت قد استضافت في فبراير 2022 أول حوار للشراكة الأمنية والدفاعية مع نيجيريا، تضمنت التوقيع على عدد من اتفاقيات التعاون العسكري والأمني المشترك.

ومن جانب آخر، قام وزير الخارجية البريطاني السابق، دومنيك راب، بجولة في القرن الأفريقي، في يناير 2021، بينما قام وزير الدفاع البريطاني، بن والاس، في الشهر ذاته، بزيارة إلى كينيا والصومال.

وتسعى بريطانيا لتقديم نفسها كشريك رئيس في الحرب على الإرهاب ومكافحة القرصنة، إلى جانب توفير الدعم العسكري والتدريبات لبعض الجيوش الأفريقية، ولاتزال بريطانيا تحتفظ بقاعدتها العسكرية "باتوك" في كينيا، وتسعى للحصول على المزيد من القواعد، بالإضافة إلى وجود عسكري محدود في كل من الصومال وجيبوتي، إلى جانب مشاركتها في بعثات السلام التابعة للأمم المتحدة في دول القارة.

دوافع انخراط لندن:

تتعدد الدوافع البريطانية وراء مساعيها لاستعادة دورها في أفريقيا، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:

1. التعاون في ملف الطاقة: استضافت لندن، في مايو 2022، اجتماعاً بين عدد من القادة الأفارقة وشركات النفط الأوروبية الكبرى، وذلك في إطار قمة الطاقة الأفريقية، حيث تم توقيع عدد من الاتفاقيات الخاصة بإمدادات النفط، إذ تحصل بريطانيا على نحو 90% من إيراداتها النفطية من أفريقيا والشرق الأوسط.

وثمة مساع بريطانية لتوسيع حضور شركاتها النفطية في أفريقيا، خاصة القرن الأفريقي، وربما يفسر ذلك التحركات البريطانية لتعزيز حضورها العسكري في هذه المنطقة، من أجل تأمين مسارات الحصول على النفط في البحر الأحمر ومضيق باب المندب.

2. ضبط الهجرة غير المشروعة: بلغ عدد الأشخاص الذين عبروا القنال الإنجليزي إلى بريطانيا في عام 2021 نحو 28.526، مقابل 8.404 في عام 2020، وهو ما دفع الحكومة البريطانية مؤخراً لمحاولة إيجاد بديل أخر يتم من خلاله إعادة طالبي اللجوء إلى أفريقيا، وذلك عبر الاتفاق مع رواندا على استقبالهم، على الرغم مما تواجه هذه الخطة من انتقادات داخلية وخارجية، ناهيك عن ارتفاع تكلفتها، حيث تبلغ تكلفة نقل كل مهاجر الى رواندا حوالي 20 – 30 ألف جنيه إسترليني.

3. تعزيز الاستثمارات البريطانية: تسعى بريطانيا لاحتلال المركز الأول ضمن مجموعة دول السبع من حيث حجم الاستثمار في أفريقيا بحلول عام 2022، وذلك في إطار الخطة الشاملة التي أعلنت عنها رئيس الوزراء البريطانية السابقة، تريزا ماي.

ونجحت بريطانيا في إبرام اتفاقيات تجارة مع أكثر من 60 دولة، 20% من هذه الدول داخل القارة الأفريقية، وذلك منذ خروجها من الاتحاد الأوروبي.

ومن ناحية أخرى، استضافت بريطانيا المؤتمر الثاني للاستثمار الأفريقي، في يناير 2022، وأكد خلاله رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، أهمية أفريقيا في المساعدة على مواجهة أزمة تغير المناخ، كما ركز على تعزيز التعاون الاقتصادي بين لندن ودول القارة، وصولاً إلى الدفع نحو تحول بريطانيا لشريك استثماري مفضل لأفريقيا.

وركز هذا المؤتمر على ملف الاستثمارات المستدامة لدعم الدول الأفريقية في مسارها نحو النمو الأكثر صداقة للبيئة، وفي هذا السياق، أبرمت شركة تكنولوجيا البطاريات المستدامة البريطانية "أسيليريون" (Aceleron) اتفاقية مع شركة "موبيليتي 54 الاستثمارية"، التابعة لشركة تويوتا، من أجل تطوير بطاريات مستدامة في القارة الأفريقية. كذا أطلقت لندن مبادرة "بوابة التنمية" لتعزيز التجارة بين بريطانيا وأفريقيا.

وفي نهاية يونيو 2022، أعلنت وزيرة التجارة الدولية البريطانية، آن ماري تريفيليان، تعيين مفوض تجاري للندن في القارة الأفريقية، هو جوي هامفري، والذي له خبرة سابقة في الشأن الأفريقي، حيث قضى فترات سابقة داخل القارة، وهو ما يعكس حجم الاهتمام البريطاني بتطوير العلاقات التجارية مع أفريقيا.

4. تعويض الخروج من الاتحاد الأوروبي: تأتي تحركات لندن الراهنة نحو أفريقيا في إطار مساعيها لتعويض خروجها من الاتحاد الأوروبي، وهو ما اتضح في "الاستراتيجية الوطنية المتكاملة للأمن والدفاع" للمملكة المتحدة، والصادرة في نهاية عام 2020، والتي لم تراجع فقط تهديدات الأمن القومي البريطاني، ولكنها انطوت أيضاً على آليات تطوير القوة البريطانية الشاملة وتوسيع نطاق النفوذ الدولي للندن والحفاظ على تفوقها الاستراتيجي، والبحث عن فرص وشراكات جديدة سياسياً واقتصادياً، ومزيد من الانفتاح على دول العالم بما يعوض الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي.

ويتسق ذلك مع الطرح الذي كان قد قدمه جونسون في عام 2016، عندما كان وزيراً للخارجية، تحت اسم "بريطانيا العولمية"، والذي يستهدف البحث عن شراكات وفرص جديدة لبريطانيا لتعزيز نفوذها الخارجي. كما يلاحظ أن هناك 8 دول أفريقية تعد من ضمن أسرع الاقتصادات نمواً في العالم، ولذا باتت الشراكة مع القارة الأفريقية تمثل فرصة حيوية بالنسبة لبريطانيا.

حدود فاعلية الدور:

يبدو أن الاهتمام البريطاني بالقارة الأفريقية يواجه بتحديات، وإن حظي بدعم غربي، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:

1. تحديات غير هيّنة أمام لندن: تأتي التحركات البريطانية نحو أفريقيا في إطار سياق دولي مغاير لوجودها السابق في أفريقيا، إذ تعدد اللاعبين الإقليميين والدوليين، الذين يسعون لتعزيز حضورهم في القارة الأفريقية، الأمر الذي يمثل عقبة كبيرة أمام مساعي عودة بريطانيا لأفريقيا، ناهيك عن الصورة النمطية السلبية الموجود في بعض دول القارة عن دوافع ونوايا لندن الحقيقية من حضورها هناك.

ولعل من المؤشرات على ذلك الأمر أن حجم التبادل التجاري بين بريطانيا والدول الأفريقية، وعلى الرغم من زيادته خلال العامين الأخيرين، فإنه لايزال محدوداً مقارنة ببقية القوى الدولية والإقليمية المتنافسة في القارة، كما أن أفريقيا تمثل نسبة ضئيلة من واردات المملكة المتحدة، إذ تبلغ حوالي 3% فقط، كما أن النسبة الأكبر من استثمارات المملكة في أفريقيا ترتكز على الاستخراج والتعدين بحوالي 43%، مقابل 1% فقط للتصنيع على عكس الاستثمارات الألمانية.

ومن ناحية أخرى، خفضت لندن المساعدات التنموية التي تقدمها لبعض الدول الأفريقية، وذلك بعد خفض إجمالي المبالغ المخصصة للمساعدات التنموية في الميزانية العامة للدولة من 0.7% إلى 0.5% من اجمالي الناتج القومي الإجمالي، وهو الأمر الذي سيترك تداعيات سلبية على محاولتها استعادة نفوذها في القارة.

2. تنسيق غربي محتمل مع لندن: بدأت القوى الغربية في بلورة رؤية مشتركة لمواجهة النفوذ الروسي والصيني المتزايد، خاصة بعد تراجع النفوذ الفرنسي في منطقة الساحل الأفريقي. ولا يستبعد أن تكون التحركات البريطانية داخل القارة أحد أبعاد هذه الرؤية الغربية.

ويثار في الغرب قلق من احتمالية إحلال الصين مكان بريطانيا في القاعدة العسكرية البريطانية في موريشيوس، خاصةً بعد القرار الأممي الصادر في عام 2019، والقاضي بعدم مشروعية الوجود البريطاني في هذه المنطقة، وهو ما يهدد مصالح لندن والناتو في المحيط الهندي، لذا يرجح أن يظهر التنسيق الغربي في هذا الملف أيضاً لمحاولة صد التمدد الصيني.

وفي هذا السياق، ألمحت بعض التقديرات إلى أن بريطانيا قد تلجأ، بالتنسيق مع حلفائها الغربيين، لإثارة ملفات حقوق الانسان والحريات ضد الدول الأفريقية التي ترتبط بموسكو وبكين.

وفي الختام، يبدو أن ثمة توجهات بريطانية لتعزيز حضورها في أفريقيا، بيد أن هذه التحركات يرجح أن تصطدم بتصاعد التنافس الإقليمي والدولي الحاد داخل القارة، ويضاف لذلك تحديات أخرى ترتبط بواقع المشهد السياسي والاقتصادي الداخلي المأزوم في لندن، والذي يمكن أن يؤثر على وتيرة التحركات البريطانية في أفريقيا، على الأقل خلال الأشهر القليلة المقبلة، وذلك لحين تولى رئيس وزراء جديد، واتضاح رؤيته الخاصة بالتوجه نحو القارة الأفريقية.