حملت القمة الثلاثية لرؤساء الدول الضامنة لمسار "أستانة" حول سوريا، والتي استضافتها طهران في 19 يوليو 2022، بحضور الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، ونظيريه الروسي فلاديمير بوتين، والتركي رجب طيب أردوغان، العديد من الرسائل إقليمياً ودولياً، لاسيما في ظل إعلان إيران عن موعدها، قبيل زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى منطقة الشرق الأوسط في الفترة من 13 إلى 16 يوليو الجاري؛ مما أعطى انطباعاً بأن أطراف قمة طهران قد اختاروا أن يكون اجتماعهم الدوري بشأن الأوضاع في سوريا وفق مسار أستانة بمنزلة رد فعل على عودة الولايات المتحدة الأمريكية إلى المنطقة، حيث اكتسبت هذه القمة أهميتها من توقيت انعقادها، والأهداف التي سعت إلى تحقيقها.
دلالات التوقيت:
حول توقيت استضافة طهران اجتماع القمة الثلاثي الإيراني - الروسي – التركي لمناقشة الأزمة السورية، من مجرد لقاء دوري روتيني يأتي ضمن لقاءات بدأت منذ أواخر عام 2016، إلى قمة اكتسبت زخماً سياسياً واسعاً؛ كونها جاءت في ظل ظروف استثنائية يعانيها العالم، وتمر بها بصفة خاصة الأطراف الثلاثة المُكونة لهذه القمة، وكذلك في أعقاب أحداث مهمة شهدتها منطقة الشرق الأوسط. وتتمثل هذه الظروف في الآتي:
1. زيارة الرئيس بايدن إلى المنطقة: إذ قام الرئيس الأمريكي بزيارة كل من إسرائيل والضفة الغربية والمملكة العربية السعودية، ووقّع خلالها على "إعلان القدس" مع تل أبيب؛ وهي الوثيقة التي تؤكد مواصلة واشنطن العمل على منع إيران من تطوير برنامجها النووي لأغراض التسلح، وعرقلة أي محاولات تُمكنها من امتلاك سلاح نووي. علاوة على مشاركة بايدن في "قمة جدة للأمن والتنمية"، والتي ضمت دول مجلس التعاون الخليجي الست، إلى جانب مصر والعراق والأردن، وما دار بشأنها قبيل انعقادها من حديث حول إمكانية دعوة الولايات المتحدة دول المنطقة إلى تدشين تحالف جديد يهدف إلى مواجهة إيران، قبل أن تؤكد عدة أطراف عربية مشاركة في هذه القمة عدم وجود نية لتبني مثل هذه الخطوة ضد طهران.
2. التداعيات السلبية للحرب الأوكرانية: لعل أبرز هذه التداعيات ما نتج عن الحرب الروسية في أوكرانيا من أزمة إمدادات في الغذاء والطاقة، لاسيما في أوروبا التي تعاني بشدة موجات حر غير مسبوقة، وتوقع دخول الشتاء وسط هذه الأزمة أيضاً، مما يُعرضها لأخطار التجمد ومواجهة موجات الصقيع من دون وقود كافٍ. فضلاً عن ارتفاع أسعار المواد والسلع الأساسية في العالم، ومعاناة العديد من الدول موجات تضخم مُتصاعدة.
3. الحديث عن تراجع القدرات الروسية في إدارة الحرب الحالية: يتعلق هذا التراجع، من وجهة نظر البعض، بالناحية العسكرية، وعدم رغبة موسكو في استنزاف قدراتها وأسلحتها في هذه المرحلة من الحرب في أوكرانيا، وكذلك تأثر روسيا بشكل كبير بالعقوبات الاقتصادية الغربية التي فُرضت عليها بسبب هذه الحرب، والتي ظهرت ملامحها من خلال تخلُف موسكو عن سداد ديونها السيادية الخارجية بالعملة الأجنبية في يونيو الماضي، لأول مرة منذ 100 عام.
وهذا ما فتح المجال أمام الحديث عن تعاون روسي - إيراني مُتوقع يهدف إلى مساعدة موسكو على الحفاظ على قدراتها العسكرية من خلال الاستعانة بطائرات إيرانية مُسيّرة للمشاركة في الحرب الأوكرانية، وذلك من خلال صفقة كانت الولايات المتحدة قد أعلنت عنها قبل أسبوعين، علاوة على الحديث عن التعاون بين موسكو وطهران في الإطار الاستفادة من الخبرة الإيرانية الطويلة للإفلات من العقوبات الدولية. وتجدر الإشارة إلى أن إيران قد أعلنت في السابق أنها عرضت على روسيا المساعدة في بيع نفطها في الأسواق الدولية باستخدام النظام المصرفي والمالي السري الذي وضعته طهران للتحايل على العقوبات الغربية.
4. نية تركيا إطلاق عملية عسكرية في شمال سوريا: تُهدد أنقرة بشن هجوم عسكري على الشمال السوري لمواجهة نشاط المسلحين الأكراد على الحدود التركية، وهو ما تعارضه إيران وروسيا على حد سواء، فضلاً عن رغبة أنقرة في إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم بعد أن أصبحوا يُشكلون عبئاً على الاقتصاد التركي، وتخطيطها لإعادتهم وتوطينهم في المنطقة التي ينشط بها المسلحون الأكراد بعمق 30 كيلو متراً داخل العمق السوري والتي تمتد إلى منطقتي منبج وتل رفعت في ريف محافظة حلب في الشمال السوري؛ وهو اقتراح يُواجه بانتقادات عديدة، ورفض من قِبل قوات سوريا الديمقراطية "قسد" التي ترى أن هذه الخطوة التركية تهدف إلى تغيير ديموغرافيا المنطقة من خلال توطين اللاجئين العرب بالأساس في هذه المنطقة.
أهداف القمة:
تعددت أهداف انعقاد القمة الثلاثية بطهران في هذا التوقيت، وإن بدا من عنوانها أنها تناقش فقط تطورات الأزمة السورية باعتبارها تضم الدول الثلاث المعنية بالدرجة الأولى بالوضع في سوريا وما تشهده من تطورات، وقد تمثلت أهم هذه الأهداف فيما يلي:
1. التنسيق بين الفاعلين الثلاثة في الأزمة السورية: ناقش جدول أعمال قمة طهران قضية أمن واستقرار سوريا، وعودة اللاجئين، كما شهدت مباحثات مع تركيا بشأن العملية العسكرية التي تهدد بشنها في الشمال السوري، حيث تعارض كل من إيران وروسيا هذه الخطوة التركية. وفي هذا السياق، خرج البيان الختامي للقمة مُتناولاً أهم النتائج التي تم التوصل إليها، وتتمثل في إدانة الهجمات الإسرائيلية على سوريا، ورفض الوجود الأجنبي، خاصةً الأمريكي في شمال البلاد، ومواصلة الشراكة في جهود مكافحة الإرهاب بجميع أشكاله، وإدانة تزايد عمليات وأنشطة الجماعات الإرهابية في سوريا، والتأكيد على ضرورة التنسيق فيما يخص أمن واستقرار الشمال، ومعارضة الاستيلاء غير القانوني لعائدات النفط السوري من قِبل أطراف خارجية، وتسهيل العودة الآمنة والطوعية للاجئين والنازحين داخلياً إلى أماكن إقامتهم الأصلية في سوريا.
2. إثبات روسيا وإيران عدم مُعاناتهما عُزلة دولية: جاءت قمة طهران لتمثل مُناسبة جيدة لكلِ من إيران وروسيا للتأكيد على أنهما لا تُعانيان عُزلة دولية وتحديداً غربية فُرضت عليهما لأسباب مختلفة، وأنهما قادرتان، بالرغم مما تواجهانه من ضغوط متصاعدة، على الانخراط فى حل ملفات إقليمية ودولية، وعلى رأسها الأزمة السورية. وتبرز هنا إيران التي أرادت أن تُثبت من خلال استضافتها القمة أن العُزلة الدولية، التي تفرضها عليها الولايات المتحدة والدول التي تستجيب للضغوط الأمريكية في هذا السياق، باتت فارغة من مضمونها بديل استضافتها قمة يحضرها الرئيس بوتين، في ثاني زيارة خارجية يقوم بها منذ بداية الحرب الروسية في أوكرانيا، وهي ناقشت كذلك مستقبل الوضع السوري، ومحاولة ترشيد التعامل التركي مع الوضع الأمني في سوريا.
3. تعزيز التعاون المشترك بين الدول الثلاث: شهدت قمة طهران العديد من اللقاءات الثنائية بين أطرافها الثلاث، إيران وروسيا وتركيا، والتفاهم بينهم بشأن العديد من القضايا، كما تم توقيع عدد من الاتفاقيات المُتبادلة متعددة المجالات. ففيما يتعلق بإيران وروسيا، تم توقيع مذكرة تفاهم بين الشركة الوطنية الإيرانية للنفط، وشركة غازبروم الروسية، بقيمة 40 مليار دولار؛ إذ ستعمل الأخيرة على تطوير حقلي كيش وبارس الشمالي للغاز، إلى جانب 6 حقول نفطية أخرى، فضلاً عن مشاركة الشركة الروسية في استكمال مشروعات الغاز الطبيعي المُسال وإنشاء خطوط أنابيب لتصدير الغاز في أكثر من حقل إيراني.
أما بالنسبة لإيران وتركيا، فقد وقّعت كل منهما 8 مذكرات تعاون في المجالات السياسية والاقتصادية والرياضية والثقافية، حيث ضمت مشروعاً للتعاون الشامل الطويل الأمد بين البلدين، واتفاقية لتطوير التأمينات الاجتماعية، ودعم المؤسسات الاقتصادية الصغيرة، والتعاون في قطاع الإذاعة والتلفزيون، والتعاون بين منظمة الاستثمار والدعم الاقتصادي والفني الإيراني والمكتب الاستثماري الرئاسي التركي. علاوة على بدء الجانبين مباحثات بشأن تمديد عقد تصدير الغاز الإيراني إلى تركيا للسنوات الـ 25 المقبلة، والاتفاق على التحرك السريع لرفع حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 30 مليار دولار سنوياً، عبر تبني سياسات لتنمية التعاون.
ويُضاف إلى ذلك، مستوى التعاون بين الدول الثلاث، حيث تتوقع العديد من التحليلات أن يتم تأسيس مرحلة جديدة من التعاون الاقتصادي والتجاري والمالي بين هذه الدول خلال الفترة القادمة، وبصفة خاصة فيما يتعلق بخطوط النقل البري لربط تركيا بروسيا عبر إيران، فضلاً عن تعزيز الدور الذي تلعبه أنقرة كنقطة التقاء لخطوط الغاز الروسي والإيراني باتجاه الغرب. وتجدر الإشارة إلى أن الدور الذي قامت به تركيا في حل أزمة القمح الناتجة عن الحرب في أوكرانيا من خلال التوسط بين موسكو وكييف لنقل الحبوب عبر البحر الأسود، قد شغل حيزاً كبيراً من الاجتماع الثنائي بين الرئيسين الروسي والتركي في طهران، بهدف تسوية هذا الملف، وهو ما قد ينفي اتهام موسكو باستخدام الغذاء كسلاح في حربها.
4. الرد على عودة الولايات المتحدة إلى المنطقة: مثلما كانت إيران حاضرة في اجتماعات الرئيس بايدن خلال زيارته الأخيرة لمنطقة الشرق الأوسط، كانت الولايات المتحدة حاضرة أيضاً في قمة طهران، وبصفة خاصة فيما يتعلق بالوجود الأمريكي في سوريا، والذي خرج البيان الختامي للقمة رافضاً له، وكاشفاً لمخططات واشنطن للسيطرة على المناطق الغنية بالنفط في الشمال السوري. وأخذاً في الحُسبان طبيعة علاقات كل من روسيا وإيران مع الولايات المتحدة، سيُلاحظ أن موسكو وطهران قد أولتا اهتماماً واضحاً بنتائج زيارة بايدن للمنطقة، وبرز هذا الاهتمام من خلال تنسيق التعاون بين البلدين في مجالات الطاقة والتكنولوجيا، وبحث كيفية ترشيد استخدام الدولار في بيع وشراء مصادر الطاقة والحبوب والغذاء والتكنولوجيا؛ وهي المجالات ذاتها التي تمت مناقشتها في "قمة جدة للأمن والتنمية".
وفي الختام، يمكن القول إن مشاركة الرئيس الروسي، بوتين، في قمة طهران الثلاثية في هذا التوقيت، وما شهدته القمة من تنسيق التعاون مع إيران في أكثر من مجال اقتصادي وعسكري، قد يشيران إلى أن بوتين لا ينوي إنهاء الحرب في أوكرانيا قريباً، وأنه عازم على المُضي قُدماً في مواجهة الضغوط والعقوبات الأمريكية والغربية التي فُرضت على موسكو بسبب هذه الحرب. وهذا يعني أن محاولات الاستقطاب بين الولايات المتحدة وروسيا، ستستمر في منطقة الشرق الأوسط، وهو ربما يخدم إيران بالدرجة الأولى، حيث تجد نفسها ضمن أولى خيارات موسكو في الإقليم.