اختتم الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في 28 يوليو 2022، جولته الخارجية في القارة الأفريقية، التي تضمنت ثلاث دول، هي الكاميرون وبنين وغينيا بيساو. وتعد هذه الجولة الخارجية هي الأولى لماكرون خارج أوروبا منذ فوزه بفترة رئاسة جديدة قبل نحو ثلاثة أشهر فقط.
استعادة الدور الفرنسي:
عكست جولة ماكرون الأفريقية وجود توجهات فرنسية لتعزيز علاقاتها بالدول الأفريقية الثلاث، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
1. استيعاب الخلافات مع الكاميرون: بدأ ماكرون جولته الأفريقية بالكاميرون، وهي القوة الاقتصادية الأولى في منطقة وسط أفريقيا، حيث عقد مباحثات مع نظيره الكاميروني، بول بيا، لبحث سبل تعزيز التعاون المشترك.
وتنبع أهمية هذه الزيارة من كونها تأتي في إطار مساعي باريس لتسوية الخلافات السابقة مع ياوندي، عندما أثارت تصريحات ماكرون في عام 2020 استياء بيا، وذلك بعدما تعهد ماكرون بالضغط على الكاميرون لوقف أعمال العنف التي ترتكبها القوات الحكومية هناك، وهو ما أدى إلى تراجع مستويات التعاون الاقتصادي والتجاري بين البلدين، لصالح فاعلين آخرين على غرار الصين والهند وألمانيا.
وارتكزت المباحثات الفرنسية – الكاميرونية على مواجهة التهديدات الإرهابية المتصاعدة، فضلاً عن العنف العرقي والتمرد الذي تقوده مجموعات انفصالية في المقاطعتين الناطقتين بالإنجليزية في شمال غرب وجنوب غرب الكاميرون. ويبدو أن باريس لا ترغب في ترك المجال مفتوحاً أمام روسيا لتعزيز تعاونها مع الكاميرون، لاسيما بعد اتفاقية التعاون العسكري التي وقعها البلدان في أبريل 2022، لذا تتجه باريس لتسوية الخلافات مع ياوندي والعمل على تعزيز التعاون معها.
2. تعزيز العلاقات العسكرية مع بنين: تعاني بنين مؤخراً تصاعد حدة التهديدات الإرهابية، وتسعى للتعاون مع باريس، فقد ألمحت بعض التقارير إلى تقدم بنين بطلب رسمي إلى باريس لتوفير الدعم العسكري اللازم لقواتها.
وكان التعاون العسكري بين باريس وبورتو نوفو أحد أبرز الملفات المطروحة على أجندة ماكرون في زيارته لبنين، خاصةً في ظل وجود وزير القوات المسلحة الفرنسي خلال هذه الزيارة، فضلاً عن إعلان ماكرون تقديم أنواع الدعم العسكري كافة لبنين، وإمدادها بأسلحة متطورة، على غرار الطائرات المسيرة، ومركبات ومعدات لإزالة الألغام وغيرها من المساعدات العسكرية والدعم الجوي والاستخباراتي، بالإضافة إلى تدريب باريس للقوات العسكرية والأمنية.
وقرر ماكرون العام الماضي إعادة نحو 26 قطعة أثرية كانت قد نهبت في عام 1892 خلال حقبة الاستعمار الفرنسي للبلاد، في خطوة تهدف لتحسين العلاقات مع بنين وتمهيد لمزيد من التعاون بين البلدين.
3. تنسيق سياسات الإيكواس في غينيا بيساو: اختتم الرئيس الفرنسي جولته الأفريقية عبر بوابة غينيا بيساو. وتأتي أهمية هذه الزيارة في إطار استعداد الرئيس الغيني، أومارو سيسوكو إمبالو، لتولي رئاسة المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "الإيكواس".
وتسعى باريس لتنسيق بعض القضايا مع إمبالو، خاصةً في ظل الضغوط التي تمارسها المنظمة على عدد من دول المنطقة التي شهدت انقلابات عسكرية، على غرار مالي وبوركينا فاسو وغينيا كوناكري، إذ كانت عقوبات الإيكواس من أدوات باريس لمعاقبة الدول الأفريقية، التي انفتحت على موسكو.
ومن ناحية أخرى، لا ترغب فرنسا في خسارة حليفها في غينيا بيساو، ممثلاً في الرئيس الحالي إمبالو، والذي تعرض لمحاولة انقلابية فاشلة في مطلع فبراير 2022، وبالتالي ربما تسعى باريس لتعزيز سلطة الرئيس إمبالو للحيلولة دون تكرار هذه المحاولة مستقبلاً.
دوافع باريس المتعددة:
ضم الوفد المرافق لماكرون في جولته الأفريقية وزيرة الخارجية، كاترين كولونا، ووزير القوات المسلحة، سيباستيان لوكورنو، ووزير الدولة للتنمية، كريسولا زاشاروبولو، والوزير المفوض للتجارة الخارجية، أوليفييه بيشت، مما يعكس حرص ماكرون على تعزيز العلاقات الاقتصادية والعسكرية مع الدول الأفريقية الثلاث، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
1. تأكيد محورية الدور الفرنسي: عكست جولة ماكرون الأفريقية حرص باريس على تأكيد استمرارها في المنطقة، وعدم رغبتها في الانسحاب منها، على الرغم من التراجع الملحوظ في نفوذها وشعبيتها في كثير من دول الساحل الأفريقي.
وخلال زيارته للكاميرون، أكد ماكرون أن بلاده لن تتخلى عن التزاماتها المتعلقة بأمن القارة الأفريقية، مشيراً إلى أن تحركات بلاده الراهنة تهدف لإعادة هيكلة دور فرنسا العسكري في المنطقة، بهدف توسيع النشاط خارج منطقة الساحل باتجاه منطقة خليج غينيا، مشيراً إلى أن باريس ستقدم أوجه الدعم العسكري كافة لدول حوض بحيرة تشاد في جهودها لمكافحة الإرهاب هناك.
2. التعاون في ملف الغذاء: تسعى فرنسا إلى استثمار أزمة الغذاء الحادة بسبب الحرب الروسية – الأوكرانية، والتي أضرت بالعديد من الدول الأفريقية، وذلك كي تقدم باريس دعمها لهذه الدول، وهو ما انعكس في مبادرة "فارم" (FARM) للأمن الغذائي، والتي كان قد أطلقها ماكرون في مارس 2022، والتي تهدف إلى تحفيز الاستثمارات الزراعية في الدول ذات الأوضاع الغذائية الهشة.
وفي هذا السياق، ربما يفسر ذلك الأمر اختيار ماكرون لكل من الكاميرون وبنين وغينيا بيساو، حيث تعد الكاميرون أحد أبرز الدول الزراعية، حيث تمثل الصادرات الزراعية المصدر الأول للاقتصاد الكاميروني، إذ تصدر الأرز والكاكاو والبن والسكر والموز وغيرها. وكذلك الحال بالنسبة لغينيا بيساو التي تعتمد كثيراً على صادراتها الزراعية من الكاجو والجوز والذرة والسكر، وأنواع مختلفة من الخضراوات والفاكهة. كما تعد بنين أكبر منتج ومصدر للقطن في غرب أفريقيا.
3. أهداف اقتصادية: يسعى ماكرون إلى استعادة العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الدول الأفريقية، إذ تراجع هذا التعاون الاقتصادي لصالح عدد من الفواعل الدولية الأخرى، خاصة الكاميرون، والتي تحظى بأهمية اقتصادية خاصة بالنسبة لفرنسا، نظراً للثروات النفطية والمعدنية الهائلة التي تمتلكها، مثل الألماس والذهب والفضة والألمنيوم، كما تأتي الكاميرون في المركز العاشر أفريقياً من حيث إنتاج النفط، بحوالي 67 ألف برميل يومياً.
وتأتي غينيا بيساو في المرتبة الثامنة بقدرة إنتاجية تصل لحوالي 148 ألف برميل يومياً، إلى جانب كميات أخرى من الغاز الطبيعي. لذا ففي إطار أزمة الطاقة في أوروبا حالياً، تمثل التوجهات الفرنسية نحو أفريقيا أهمية كبيرة.
4. مواجهة التمدد الروسي: تأتي جولة ماكرون في إطار محاولة باريس للتصدي للتمدد الروسي المتنامي هناك، وهو ما يقلق الأخيرة، وعبّر ماكرون بوضوح عن ذلك خلال جولته الأخيرة، حيث حذر من تبعات الحضور الروسي المتصاعد في أفريقيا، معتبراً أن علاقات موسكو مع الدول الأفريقية لا تعبر عن نوع من التعاون بقدر ما تمثله من تواطؤ مقصود من قبل موسكو لدعم بعض الأنظمة السياسية الضعيفة أو المجالس العسكرية غير الشرعية، وذلك بالتزامن مع جولة وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في القارة. كما ندد ماكرون بمواقف بعض القادة الأفارقة الذين لم يعارضوا التدخل الروسي في أوكرانيا، معتبراً أن روسيا تمثل آخر القوى الاستعمارية.
استراتيجية فرنسية جديدة:
كشفت جولة ماكرون عن وجود استراتيجية جديدة لباريس في هذه المنطقة، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1. التوجه نحو أفريقيا الفرانكفونية: يبدو أن ثمة استراتيجية فرنسية جديدة، يتمثل أحد ملامحها في التركيز على الدول الأفريقية الناطقة بالفرنسية في وسط وغرب أفريقيا، والتي كانت إحدى مناطق النفوذ الفرنسي السابق فترة الاستعمار الغربي، وذلك بعدما ركز ماكرون خلال فترة ولايته الأولى على دول أفريقية أخرى، مثل إثيوبيا وجنوب أفريقيا، وهو ما يكشف عن تحاشي ماكرون خسارة المزيد من الشركاء الأفارقة.
2. الدعم والإسناد للقوات المحلية: أشارت بعض التقديرات إلى أن وزارة الدفاع الفرنسية تجري حالياً إعداد تصور جديد للحضور العسكري في أفريقيا، يقوم على الاعتماد على القوات المحلية هناك وتوفير الدعم المطلوب لها، بدلاً من التدخل العسكري المباشر، وهو ما عبّر عنه ماكرون في تصريحات أطلقها في منتصف يوليو، والتي أكد خلالها على ضرورة بلورة "ترتيبات أقل ظهوراً وأقل انكشافاً" في أفريقيا.
ورجحت هذه التقديرات أن فرنسا ستتجه نحو توسيع نطاق نشاطها العسكري ليشمل منطقة خليج غينيا، حيث يفترض أن يتضمن الدعم العسكري الفرنسي، إلى جانب دول الساحل، أربع دول رئيسية، هي بنين وتوجو وغينيا وكوت ديفوار.
3. تراجع توظيف حقوق الانسان: تتمثل أبرز ملامح الاستراتيجية الفرنسية الجديدة في تراجع باريس عن توظيف ورقة حقوق الانسان. فقد وجهت باريس انتقادات لسجلات حقوق الانسان في الدول الثلاث التي زارها ماكرون، بيد أن الإليزيه أشار إلى أنه سيناقش هذه القضايا مع رؤساء هذه الدول فقط، وهو ما يكشف عن حرص باريس على تجنب خسارة مزيد من حلفائها.
ووضح ذلك في زيارة ماكرون لبنين، إذ يتولى الرئيس الحالي، باتريس تالون، السلطة منذ أبريل 2016، وتوجه له اتهامات بتقويض النظام الديمقراطي، وهو ما انعكس على الأحكام التي صدرت العام الماضي بحق اثنين من المعارضين السياسيين هما، ريكيا مادوغو، وجويل آيفو. ولم يتطرق ماكرون للأوضاع السياسية في بنين خلال حديثه مع تالون، على الرغم من دعوة 75 نائباً فرنسياً لماكرون إلى ضرورة أخذ الأوضاع المقلقة للمعتقلين السياسيين في بنين بعين الاعتبار.
وفي الختام، يبدو أن فرنسا تتجه خلال الفترة المقبلة لمحاولة تعزيز حضورها في أفريقيا في ظل استراتيجية جديدة، مفادها تخفيض الانخراط العسكري المباشر، مع الدفع لتوسيع نطاق الحضور الفرنسي باتجاه وسط القارة، الأمر الذي ربما يزيد حدة التنافس الفرنسي – الروسي في هذه المنطقة.