أعلنت الرئاسة الإيطالية استقالة رئيس الوزراء، ماريو دراجي، في 21 يوليو الجاري، والذي تقدم بها إلى الرئيس سيرجيو ماتاريلا، والذي طلب منه البقاء في منصبه لتصريف الأعمال، وقرر على أثرها الدعوة إلى انتخابات مبكرة في 25 سبتمبر المقبل. وتعكس استقالة دراجي ضبابية المشهد السياسي في البلاد، وربما تزيد من صعوبة استكمال تنفيذ الإصلاحات الهيكلية والمالية، والتي سعى دراجي إلى تحقيقها خلال العام ونصف العام الماضيين.
أسباب استقالة دراجي:
يرى المراقبون أنه على الرغم من نجاح ماريو دراجي، أثناء رئاسته للبنك المركزي الأوروبي (2011 – 2018)، في الحفاظ على تماسك الاتحاد الأوروبي خلال ذروة أزمة الديون السيادية عام 2012، فإنه فشل في الحفاظ على تماسك ائتلاف حكومة "الوحدة الوطنية"، وذلك على أثر انسحاب ثلاثة أحزاب من الائتلاف الحاكم، وهي حزب الرابطة بزعامة ماتيو سالفيني، وفورتسا إيطاليا بقيادة سيلفيو برلسكوني، وحركة النجوم الخمس الشعبوية بزعامة جوزيبى كونتى. وتتمثل أبرز أسباب استقالة دراجي في التالي:
1. تفكك الائتلاف الحكومي: دخلت حركة النجوم الخمس، أبرز قوى الائتلاف الحاكم، والقوة البرلمانية الأولى في البلاد، في صراع مع دراجي، حول بعض القضايا، وأبرزها المطالبة بوضع حد أدنى للأجور، وكذلك الاعتراض على مساندة أوكرانيا عسكرياً، كما رفضت حركة خمس نجوم المشاركة في تصويت على حزمة مساعدات ضخمة لتعزيز الاقتصاد الإيطالي في أعقاب الحرب في أوكرانيا. وتمكنت حكومة دراجي من الحصول على الأغلبية من دون دعم الحركة، وهو ما أدى إلى انهيار الائتلاف الحكومي.
وعلى الرغم من رفض الرئيس الإيطالي سيرجيو ماتاريلا، استقالة دراجي في 14 يوليو، في أعقاب ذلك التصويت، وسعي دراجي للحصول على ثقة البرلمان للبقاء على رأس الحكومة الإيطالية، غير أنه حاز على دعم 95 صوتاً مؤيداً مقابل اعتراض 38 نائباً، ولذلك أصر على الاستقالة، نظراً لمقاطعة ثلاثة أحزاب من الائتلاف الحاكم جلسة التصويت على هذه الثقة، مما دفعه لتقديم استقالة حكومته.
2. رفض السياسات الاقتصادية: سعت حكومة دراجي لإصلاح نظام التقاعد وتحرير الاقتصاد، وهو ما لاقى معارضة من الأحزاب اليمينية الحاكمة، خاصة حزب الرابطة وحزب وفورتسا إيطاليا، والتي استاءت من أداء الحكومة، في ظل تقدم منافسيهم من اليمين المتطرف عليهم في استطلاعات الرأي، وبالتالي، رأت هذه الأحزاب أنه من الأفضل السير لإجراء انتخابات مبكرة، بدلاً من ترك أحزاب اليمين المتطرف تفوز بأغلبية ساحقة في حالة إصرار دراجي على سياساته الاقتصادية.
كما تراجعت الأوضاع الاقتصادية الإيطالية، فقد ارتفعت معدلات التضخم، وتراجع النمو الاقتصادي، وبدا أن الإصلاحات التي تعهدت الحكومة بإجرائها للحصول على مليارات من صندوق الإنعاش الأوروبي قد تبددت، وفضلت بعض أحزاب الائتلاف الحاكم تغليب حساباتها الانتخابية الضيقة على إقرار سياسات اقتصادية صعبة، لا تحظى بتأييد شعبي.
وكان برنامج دراجي الاقتصادي يتطابق مع إصلاحات خطة "التعافي الوطني والقدرة على الصمود"، والذي يسمح لإيطاليا بتلقي ما مجموعه حوالي 200 مليار يورو (11% من ناتجها المحلي الإجمالي) من الاتحاد الأوروبي بحلول عام 2026، وذلك لمواجهة الركود الاقتصادي الذي تعانيه البلاد على مدار 30 عاماً، وأزمة جائحة كورونا لعام 2020، بالإضافة إلى الصدمات الاقتصادية الناتجة عن الغزو الروسي لأوكرانيا.
3. خلافات النجوم الخمس: يتمثل أبرز اضطراب سياسي واجهه دراجي خلال الفترة الماضية هو الخلافات التي تفاقمت داخل حركة النجوم الخمس، والتي تُعد المكون الأبرز لحكومته الائتلافية؛ فقد استقال وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو، من الحركة على أثر صدام مع زعيمها جوزيبي كونتي، بشأن دعم أوكرانيا عسكرياً في مواجهة روسيا، وبهذا أصبحت الحركة تتبنى مواقف تتباين عن موقف الحكومة الرسمي، وهو ما عجل بانهيار الائتلاف الحكومي.
تداعيات داخلية وخارجية:
تشير إيطاليا إلى إجراء انتخابات مبكرة، وهي الانتخابات التي قد تؤدي إلى تحولات واسعة في سياسة إيطاليا داخلياً وخارجياً، وذلك على النحو التالي:
1. صعود اليمين المتطرف: تم تحديد موعد إجراء انتخابات مبكرة في 25 سبتمبر القادم، وبدأت الأحزاب السياسية، خاصة اليمينية منها حملاتها الانتخابية بما فيها حزب "إخوة إيطاليا" ذو التوجهات الفاشية. وتشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى تزايد حظوظه في انتخابات سبتمبر، فقد جاء في المركز الأول في نوايا الناخبين بنحو 24%، متقدماً على الحزب الديمقراطي، والذي حصل على نسبة تأييد 22% والرابطة بنسبة 14%، وحزب فورتسا إيطاليا بنسبة 7,4%، فيما حصلت حركة النجوم الخمس على 11,2% فقط.
وتجدر الإشارة إلى أن وصول نخبة اليمين المتطرف الإيطالي إلى السلطة، مثل جورجيا ميلوني، زعيمة إخوة إيطاليا، يعني أن روما ستكون متشككة في جدوى الاتحاد الأوروبي، وربما ستكون من المقربين لروسيا، وهو النهج الذي يمثله أيضاً زعيم حزب الرابطة الإيطالي، إلى جانب حركة النجوم الخمسة.
2. تدهور الاقتصاد الإيطالي: تراجعت الأوضاع الاقتصادية في إيطاليا عقب استقالة حكومة دراجي. فقد انخفض مؤشر البورصة الإيطالية بنحو 2,5% في يوم إعلان الاستقالة. وجاء خروج دراجي من السلطة في توقيت حرج بالنسبة لإيطاليا، والتي يتعين عليها تقليل اعتمادها على الغاز الروسي وإجراء إصلاحات صعبة لتلقي الأموال من خطة التعافي الأوروبية، وعلى هذا النحو، فإنه من المتوقع أن تُؤخر الأزمة السياسية تنفيذ الإصلاحات المرتبطة بأموال خطة الانتعاش الأوروبية، مما قد يعيق صرف الشرائح التالية من القروض المطلوبة من الاتحاد الأوروبي.
ويدرك أغلبية الإيطاليين أنه برحيل دراجي، فقدت روما خبرة اقتصادية كبيرة، كانت بمنزلة فرصة لتقوية مواقف إيطاليا في مفاوضاتها مع المؤسسات المالية الأوروبية كالبنك الأوروبي. ومن ناحية أخرى، فإن الأزمة السياسية في البلاد ربما تُعمق من أزمة الديون الإيطالية، والتي باتت تلوح في الأفق مع ضعف النمو الاقتصادي الإيطالي الذي بات عاجزاً عن ملاحقة الديون.
3. تهديد السياسات الجماعية ضد روسيا: كان دراجي من أكثر الداعمين لمساندة أوكرانيا ضد روسيا، فمن ناحية، كان من ضمن القادة الأوروبيين، إلى جانب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني أولاف شولتز، الذين شاركوا في الزيارة التضامنية إلى كييف، في 16 يونيو 2022، وكان من أكثر المؤيدين لمنح أوكرانيا "وضع الدولة المرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي"، لدرجة أن الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، شكر دراجي، في 19 يوليو، على مساهمته الشخصية في اتخاذ هذا القرار.
ومن ناحية أخرى، دعمت روما جميع العقوبات المفروضة على روسيا والتي اقترحها الاتحاد الأوروبي، بالرغم من أنها ثاني أكبر مستورد أوروبي للغاز الروسي بعد ألمانيا. وسعت حكومة دراجي إلى توقيع اتفاقيات بديلة عن تلك الموقعة مع روسيا، وتحديداً مع الجزائر وأنغولا وجمهورية الكونغو وموزمبيق ومصر والبحرين وقطر وتركيا وأذربيجان، وذلك لتنوع وارداتها من الغاز الطبيعي من دون الاعتماد على موسكو. ولا شك أن هذه السياسات سوف تنتكس في حالة تولي حكومة إيطالية جديدة بها قوى سياسية لا تؤمن بمعاداة روسيا.
4. خسارة كبيرة للعلاقات عبر الأطلسية: كانت الولايات المتحدة تدعم دراجي لدعمه للشراكة الأطلسية، فقد كان يضغط على تطوير منظومة دفاع أوروبي قوي، تخدم مصالح الناتو، وتتخذ مواقف أكثر صرامة تجاه كل من روسيا والصين. وكان يدعو أيضاً لزيادة ميزانية الدفاع الإيطالية، وضرورة زيادة الإنفاق الدفاعي بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
ومنذ بدء "الغزو" الروسي، سعى دراجي لتوفير أسلحة ثقيلة لأوكرانيا على الرغم من المعارضة القوية لذلك من داخل الائتلاف الحكومي الحاكم، وهو ما جعل وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، يصرح بأن إيطاليا باتت واحدة من أكثر مزودي خدمات الأمن الموثوق بهم في أوروبا.
وفي الختام، يمكن القول إن نهاية حكومة دراجي كانت بمنزلة خبر سيئ للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي وأوكرانيا والولايات المتحدة. وفي المقابل، فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، هو الفائز الأكبر من سقوط دراجي، فهو الذي سبق وأن حذر الدول الأوروبية من أن فرض عقوبات على الاقتصاد الروسي سوف يسبب أزمة اقتصادية في الغرب، تدفع بصعود الأحزاب اليمينية الشعبوية. وعلى الرغم من أن العديد من التحليلات الغربية كانت تتوقع تراجع شعبية اليمين المتطرف عقب حرب روسيا ضد أوكرانيا، فإن العكس قد حدث، وهو ما ينذر بإمكانية صعود حكومة يمينية في إيطاليا تتبنى مواقف مغايرة للإجماع الأمريكي – الأوروبي حول الصراع الأوكراني، وهو ما ينذر بتفتيت الجبهة الغربية في مواجهة الكرملين.