• اخر تحديث : 2024-05-03 14:02
news-details
أبحاث

ترتيبات الأمن الأوروبي على ضوء الحرب الروسية-الأوكرانية.. أبعاد التأثير ومسارات المستقبل


مقدمة:

تختلف تقديرات المتابعين والمهتمين بالسياسات الأمنية والدفاعية للاتحاد الأوروبي حول كيفية تأثير الحرب الروسية في أوكرانيا التي بدأت منذ فبراير 2022 على ترتيبات الأمن الأوروبي، فهناك من يشير إلى أن الحرب قد دمرت الأمن الأوروبي، ومن ثم ليس أمام الأوروبيين خيار سوى تعزيز دورهم في إطار حلف الناتو، بينما يرى آخرون أن هذه الحرب تدفع الأوروبيين لتطوير نظام أمني أوروبي خالص مستقل عن حلف الناتو ولا يتأثر بالسياسات الأمريكية.

وتبنّي أيٍّ من هذين الرأيين ينطوي على قدر من المجازفة التحليلية؛ لسببين رئيسيين: السبب الأول يتعلق بأن هناك ترتيبات أمن أوروبية، أو كما يسميه البعض “نظام للأمن الأوروبي” مرتبط بالاتحاد الأوروبي بشكل رئيسي، وقد تطور على مدار عقود، وهو يتألف من تصور محدد للتهديدات والمخاطر، ومصالح أمنية مشتركة لدول الاتحاد، ووثائق استراتيجية تقوم على تنفيذها مؤسسات أمنية وسياسية تابعة للاتحاد لتحقيق الأمن الداخلي والأمن الخارجي للدول الأوروبية.

 ويتعلق السبب الثاني بوجود تباين واضح في التصورات الأمنية الخاصة بالاتحاد الأوروبي عن تلك المتعلقة بحلف الناتو وأولويات التهديدات وسبل مواجهتها، وهو ما يوفر مبررات قوية للاتحاد الأوروبي لتعزيز قدراته الأمنية والدفاعية بشكل مستقل عن حلف الناتو للتحرك بما يتسق وتصوراته الأمنية، دون أن يعني ذلك انسحاب الدول الأوروبية من حلف الناتو.

وفي هذا السياق، يمكن القول إن التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا قد يكون متغيراً مهماً قد يدفع الأوروبيين لإحداث نقلة نوعية في ترتيبات الأمن الأوروبي، سواء فيما يتعلق بالتهديدات والمخاطر أو بالمصالح الأمنية المشتركة التي يسعى الاتحاد لتحقيقها على مستوى الأمن الداخلي؛ أي ما يخص أمن المواطن الأوروبي، أو على مستوى الأمن الخارجي للاتحاد من خلال الشراكة مع دول الجوار.

حيث إن الحرب الروسية قد أحدثت تغييرات جوهرية في البيئة الأمنية الأوروبية؛ فمن ناحية أعادت الحرب التقليدية إلى الحسابات الأمنية الأوروبية والتي كانت قد تراجعت أهميتها طوال السنوات الماضية لصالح التهديدات الأمنية غير التقليدية. ومن ناحية أخرى أكدت هذه الحرب أن روسيا لاتزال وستظل طرفاً مؤثراً في ميزان القوى الأوروبي بشكل مباشر بالنظر إلى ترسانتها العسكرية، وبشكل غير مباشر من خلال دعمها العسكري لدول معينة في شرق أوروبا، وذلك مادامت لم تُدمَج في أي ترتيب أمني أوروبي ترعاه الولايات المتحدة أو لم تسعَ الدول الأوروبية لإنشائه بشكل مستقل في إطار الاتحاد الأوروبي.

في ضوء هذه التغيرات، فإن مناقشة أبعاد تأثير هذه الحرب على ترتيبات الأمن الأوروبي ومستقبلها قد يقود لنتائج محتملة حول ميزان القوى في هذا الجزء من العالم والذي يؤثر بشكل كبير على التفاعلات الأمنية والسياسية والاقتصادية في منطقة جنوب المتوسط والشرق الأوسط بشكل كبير. وفي هذا السياق، تهتم هذه الورقة بشكل رئيسي بالترتيبات الأمنية التابعة للاتحاد الأوروبي، والتي هي مختلفة عن تلك الخاصة بمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي، وعن تلك المتعلقة بحلف الناتو. وستقوم هذه الورقة بتحليل تأثير الحرب على ترتيبات الأمن الأوروبي من خلال ثلاثة أجزاء رئيسية؛ إذ يستعرض الجزء الأول بشكل مختصر ترتيبات الأمن الأوروبي في الفترة السابقة على التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا في فبراير 2022، ويحلل الجزء الثاني تأثير هذه الحرب على ترتيبات الأمن الأوروبية، ينما يقدم الجزء الثالث مناقشة لمستقبل الأمن الأوروبي خلال الفترة المقبلة.

أولاً: ترتيبات الأمن الأوروبي في الفترة السابقة على الحرب:

مر الأمن الأوروبي بعدة تطورات منذ معاهدة ماستريخت 1992 التي تضمنت الإعلان عن الاتحاد الأوروبي كمنظمة رسمية، على نحو أصبح معه هناك ترتيبات واضحة للأمن الأوروبي تتألف من استراتيجيات وخطط عمل تتضمن تصوراً محدداً للتهديدات والمخاطر، ومصالح أمنية مشتركة لدول الاتحاد، وهيئات أمنية وسياسية تابعة للاتحاد تقوم على تنفيذ تلك الاستراتيجيات لتحقيق الأمن الداخلي والأمن الخارجي للدول الأوروبية، ومن أهم تلك الهيئات وكالة الدفاع الأوروبية والوكالة الأوروبية للحدود وخفر السواحل (فرونتكس)، واليوروبول.

ويمثل العام 2016 مرحلة فاصلة في مسيرة تطوير الاتحاد الأوروبي لسياسات أمنية ودفاعية ذات طابع جماعي، فخلال هذا العام نجح الاتحاد في تبني “الاستراتيجية العالمية للسياسة الخارجية والأمنية للاتحاد الأوروبي: رؤية مشتركة، سياسة مشتركة، أوروبا أكثر قوة” EU Global Strategy والتي رسمت مساراً محدداً لدور الاتحاد في مجالي الأمن والدفاع ولتقوية المكون الأمني في بنية المنظمة، حيث حددت عدداً من الأهداف المتفق عليها بين الدول الأعضاء في هذا السياق؛ وهي زيادة المخصصات المالية لقطاع الأمن والدفاع، وإنشاء جيش أوروبي موحّد، وإنشاء صناعة أوروبية دفاعية.

وارتكزت هذه الأهداف على تصورات مشتركة بين الدول الأعضاء حول مصادر تهديد الأمن الأوروبي في تلك الفترة، والتي تنوعت ما بين تهديدات داخلية شملت: صعود اليمين المتطرف، وارتفاع سن السكان، والانكشاف الاقتصادي، والتغيرات المناخية، ونفاد موارد الطاقة؛ وتهديدات خارجية تمثلت في سياسات روسيا العدائية وتخلي الولايات المتحدة عن تأمين أوروبا في ظل تصاعد الخلاف بين واشنطن والدول الأوروبية حول مساهمتها في ميزانية حلف الناتو، وتهديدات عابرة للحدود شملت الإرهاب والتطرف والهجرة غير المشروعة.

وما يميز ترتيبات الأمن الأوروبي عن حلف الناتو من ناحية المفهوم الشامل للأمن الذي يتبناه الاتحاد الأوروبي والذي يهتم بالأبعاد غير العسكرية للأمن مثل الطاقة والاقتصاد، في حين يتبنى حلف الناتو مفهوماً سياسياً -عسكرياً للأمن يهتم بالقدرات العسكرية باعتبارها الأداة الرئيسية لتحقيق الأمن. ومن ناحية أخرى تعتمد ترتيبات الأمن الأوروبي بشكل رئيسي على الدول الأعضاء في الاتحاد وبشكل مكمل على الدول الشريكة للاتحاد ودول الجوار، في حين أن حلف الناتو يعتمد بشكل رئيسي على الولايات المتحدة وبشكل مكمل على باقي الدول الأعضاء الأوروبيين ثم على الدول الشريكة للحلف.

وفي السنوات التالية، تبنى الاتحاد الأوروبي عدة وثائق استراتيجية حددت الإطار العام للسياسات الأمنية التي ستنفذ بشكل جماعي من خلال الاتحاد الأوروبي ومؤسساته، وبشكل فردي من قبل الدول الأعضاء. حيث أعلن الاتحاد في 24 يوليو 2020 “استراتيجية أمن الاتحاد الأوروبي” EU Security Union Strategy والتي تغطي الفترة 2020-2025، وحددت الاستراتيجية التهديدات ذات الأولوية من وجهة نظر الاتحاد للأمن الأوروبي وشملت التهديدات ذات الصلة بالأمن السيبراني، والإجرام الإلكتروني، والتغير المناخي، والحروب المهجنة، والهجمات الإرهابية، والجريمة المنظمة.

كما حددت أولويات لتحقيق أمن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي من خلال العمل الجماعي بما يحقق الأمن الداخلي في الاتحاد، ومن خلال التعاون مع دول الجوار التي تعبر عن الأبعاد الخارجية للأمن الأوروبي، وذلك على النحو التالي:

1. الأولوية الأولى: تبنّي إجراءات أمنية وسياسات تتماشى مع المستقبل، ويشمل ذلك تعزيز صلابة البنية التحتية الحيوية الرقمية والتقليدية ومرونتها بما يتماشى مع المخاطر المحتملة والمتوقعة، وتعزيز إجراءات تحقيق الأمن السيبراني وأمن المعلومات في ظل التوسع في تبني شبكات 5G على مستوى دول الاتحاد، وحماية المجال العام من الهجمات الإرهابية التي أصبحت تعتمد على تكنولوجيا حديثة مثل الطائرات المسيرة (drones) وغيرها.

2. الأولوية الثانية: التعامل مع التهديدات قيد التطور evolving threats، وحددتها الاستراتيجية بالإجرام الإلكتروني، الذي من المتوقع أن يتضخم مع التوسع في تطبيق شبكات 5G، ومحاربة المحتوى غير القانوني والضار على الإنترنت والمستخدم من قبل الإرهابيين وجماعات الاتجار في البشر، ولاسيما الأطفال منهم، ومواجهة التهديدات المهجنة التي تفاقمت خلال جائحة كورونا، حيث اتجهت دول وفاعلون من غير الدول لتوظيف الجائحة من خلال التلاعب بالمعلومات والبنية التحتية؛ وهو ما أدى إلى إضعاف التماسك الاجتماعي وإضعاف الثقة في مؤسسات الاتحاد الأوروبي وفي حكومات الدول الأعضاء. ويتطلب ذلك تعزيز قدرات قوات إنفاذ القانون لتتماشى مع التقدم التكنولوجي الذي يعتمد عليه هذا النوع من الجرائم، من خلال بناء قدراتهم في مجال التحقيق باستخدام الأدلة الرقمية وتوظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة والبلوكتشين blockchain في تتبع الجرائم الإلكترونية.

3. الأولوية الثالثة: حماية الأوروبيين من الإرهاب والجريمة المنظمة، حيث تشير الاستراتيجية إلى استمرار التهديد الذي يمثله الإرهاب، خاصة مع تنوع التكنولوجيا المستخدمة من قبل الكيانات الإرهابية في تجنيد الأعضاء والتخطيط للعمليات الإرهابية وجمع الأموال، وفي ظل استمرار قضية الإرهابيين الأجانب في سوريا والعراق دون إخضاعهم لمحاكمة وفق القوانين المعمول بها وعدم إخضاعهم لبرامج الدمج وإعادة التأهيل. كما حددت الاستراتيجية عدداً من أنشطة الجريمة المنظمة ذات الأولوية للاتحاد الأوروبي؛ وتشمل: تهريب المخدرات، والاتجار غير المشروع في الأسلحة، والاتجار في البشر، وتهريب اللاجئين، والجرائم البيئية، والجرائم ذات الطابع المالي والاقتصادي، مثل غسل الأموال وتمويل الإرهابيين.

4. الأولوية الرابعة: تقوية البيئة الأمنية الأوروبية، من خلال إشراك كلٍّ من الحكومات والقطاع الخاص والمجتمع المدني والأفراد في تحقيق الأمن في أوروبا، وكذلك إضافة بعد أمني لمختلف السياسات التي ينفذها الاتحاد الأوروبي، وذلك بهدف زيادة مستوى الأمن الذي يشعر به المواطن الأوروبي.

ويكمل هذه الاستراتيجية الشاملة عدد من الخطط والاستراتيجيات التخصصية التي تبناها الاتحاد والتي تتضمن إجراءات وسياسات محددة لتحقيق الأولويات المذكورة في الاستراتيجية، ومنها “استراتيجية الاتحاد الخاصة بالأمن السيبراني 2020″، و”استراتيجية الاتحاد لمواجهة الجريمة المنظمة (2021-2025)”، و”أجندة الاتحاد الأوروبي لمكافحة الإرهاب 2020″، و”خطة عمل الاتحاد الأوروبي لمنع تهريب الأسلحة (2020-2025)”، و”استراتيجية الاتحاد لمحاربة الاتجار في البشر(2021-2025)”، و"استراتيجية الاتحاد الخاصة بمكافحة المخدرات (2021-2025)".

ويتضح أن التوجه الحاكم للاتحاد الأوروبي في “استراتيجية أمن الاتحاد الأوروبي 2020” في تقييم الأوضاع الأمنية وتحديد المخاطر والتهديدات ذات الأولوية كان مرتبطاً بالتركيز على طبيعة التهديد دون تحديد مصدره، وهذا يفسر من ناحية الاهتمام بالتهديدات غير التقليدية ذات الطابع الرقمي والعابر للحدود وإغفال أي ذكر للتهديدات التقليدية المرتبطة بالتعرض لهجوم عسكري تقليدي، ويفسر من ناحية أخرى عدم ذكر روسيا بشكل مباشر كمصدر لأيٍّ من تلك التهديدات أو كطرف في ترتيبات الأمن الأوروبي.

ثانياً: أبعاد تأثير الحرب على ترتيبات الأمن الأوروبي:

يمكن القول إن التدخل الروسي في أوكرانيا منذ فبراير 2022 قد أحدث تغييرين جوهريين في البيئة الأمنية بأوروبا، مقارنة بتلك التي رسمتها “استراتيجية أمن الاتحاد الأوروبي 2020″، حيث يتمثل التغيير الأول في عودة الحرب التقليدية إلى الحسابات الأمنية الأوروبية والتي كانت قد تراجعت أهميتها طوال السنوات الماضية لصالح التهديدات الأمنية غير التقليدية. ويتمثل التغير الثاني في روسيا، حيث أكدت هذه الحرب أن روسيا تتبنى تصوراً للأمن الأوروبي مرتبطاً بدور مّا لها في أي ترتيبات خاصة به، وستظل طرفاً مؤثراً في ميزان القوى الأوروبي بشكل مباشر بالنظر إلى ترسانتها العسكرية، وبشكل غير مباشر من خلال دعمها العسكري لدول معينة في شرق أوروبا.

وهذه التغيرات كشفت قدراً من القصور في ترتيبات الأمن الأوروبي، حيث إن تلك الترتيبات جعلت الاتحاد الأوروبي طرفاً منسقاً بين مختلف السياسات الأمنية للدول الأعضاء، أكثر من كونه فاعلاً أمنياً مستقلاً قادراً على توفير مظلة أمنية لتلك الدول في مواجهة أي تهديدات ومخاطر؛ ويرجع ذلك بصورة كبيرة – من وجهة نظري – إلى ضعف المكون العسكري في تلك الترتيبات الأمنية. وفي مسعى من الاتحاد الأوروبي للتعامل مع هذا القصور، أصدر الاتحاد بعد أيام من الحرب الروسية، وثيقتين مهمتين: الأولى، هي “إعلان فرساي” في 11 مارس 2022، والثانية هي وثيقة “التوجه الاستراتيجي” Strategic Compass في 21 مارس 2022.

بالنسبة لإعلان فرساي، فقد حدد ثلاثة مجالات للأمن يتعين على الاتحاد تحقيق نتائج ملموسة في كل منها بحلول العام 2030، وهي:

- تعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية من خلال زيادة الإنفاق العسكري وتشجيع الدول الأعضاء على المشاركة في برامج الشراء الموحد للقدرات الدفاعية، وزيادة الاستثمارات الموجهة للقطاعات الممكنة من تنفيذ عمليات ومهام قتالية واسعة النطاق، مثل قدرات الأمن السيبراني وقدرات الربط الجوي، بما يضمن رفع مستوى القدرة على تعبئة ونشر القوات العسكرية في مختلف مناطق الاتحاد، وتعزيز الترابط والتكامل بين الأبحاث المدنية وأبحاث الدفاع والأمن، واتخاذ إجراءات لتقوية الصناعات الدفاعية في أوروبا.

- تقليل الاعتماد على روسيا في تغطية احتياجات الاتحاد من الغاز والنفط والفحم، من خلال تسريع تقليل الاعتماد على مصادر الطاقة الأحفورية مع مراعاة السياسات المتبعة في كل دولة عضو بخصوص مصادر الطاقة التي تعتمد عليها، وتنويع مصادر استيراد الغاز الطبيعي المسال من دول الجوار من أجل توفير الكميات المطلوبة للحفاظ على مخزون استراتيجي عند مستوى معقول، وتطوير سوق للهيدروجين مخصص لأوروبا، وتسريع تطوير مصادر الطاقة المتجددة واستكمال ربط شبكات الكهرباء والطاقة بين دول الاتحاد.

- بناء قاعدة اقتصادية أكثر قوة من خلال مواصلة العمل على تقوية السوق الأوروبية الموحدة لتكون أكثر تنافسية على المستوى العالمي، خاصة في مجال الأنشطة الاقتصادية الخضراء والرقمية. وهذا يتطلب العمل على تأمين احتياجات الاتحاد من المواد الخام، وتنويع سلاسل الإمداد والتوريد التي تعتمد عليها صناعات الرقائق الإلكترونية وغيرها، والتوسع في الأبحاث ذات الصلة بالصناعات الطبية والدوائية والتوسع في الاستثمارات الموجهة للذكاء الاصطناعي وشبكات 5G وشبكات 6G والتوسع في القطاع الزراعي، يما يحقق الأمن الغذائي في الاتحاد الأوروبي.

 وفيما يتعلق بوثيقة “التوجه الاستراتيجي”، فهي تستهدف تعزيز قدرة الاتحاد الأوروبي على التحرك العسكري في مواجهة أي أزمة أمنية تهدد أمن المواطن الأوروبي، وبحلول عام 2030 – وفق الوثيقة – سيتم استكمال إنشاء “قدرة الاتحاد الأوروبي للانتشار السريع” EU Rapid Deployment Capacity مؤلفة من 5000 جندي قادرة على التدخل السريع للتعامل مع أي أزمة أمنية، وسيكون الاتحاد كذلك مستعداً لنشر 200 خبير للقيام بالمهام المنفَّذَة في إطار سياسة الأمن والدفاع المشتركة للاتحاد، خلال 30 يوماً من وقوع أية أزمة، وتنفيذ تدريبات منتظمة بحرية وجوية وتعزيز القدرة على الانتشار العسكري في مختلف الدول الأعضاء بالاتحاد، وتعزيز القدرات المخصصة للمهام المنفذة في إطار سياسة الأمن والدفاع المشتركة للاتحاد، بما في ذلك الدعم المالي، وسرعة اتخاذ القرارات.

وتشير الوثيقة إلى أن قدرة الاتحاد الأوروبي على تعزيز أدواته العسكرية والدفاعية تقتضي تعزيز التعاون مع شركاء الاتحاد الاستراتيجيين، ممثَّلين بحلف الناتو والأمم المتحدة وحلفاء الاتحاد الإقليميين، مثل منظمة الأمن والتعاون الأوروبي والاتحاد الأفريقي ومنظمة الآسيان، وتطوير شراكات ثنائية مع الدول التي تتشارك مع الاتحاد التصورات الأمنية نفسها، مثل الولايات المتحدة وكندا واليابان وبريطانيا والنرويج، فضلاً عن تطوير شراكات مع دول غرب البلقان ودول الجوار في جنوب المتوسط وفي آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.

ويمكن القول إن أهمية هذه الوثيقة بالنسبة لترتيبات الأمن الأوروبي ترتبط بأنها أعادت تقييم التهديدات التي يتعرض لها الأمن الأوروبي، والتي أصبحت تشمل السياسات الروسية الهادفة – وفق الوثيقة – “لإنشاء مجالات للنفوذ” في عدد من الدول الأوروبية ودول الجنوب باستخدام القوة العسكرية، والتكتيكات المهجنة، والهجمات السيبرانية، والتضليل المعلوماتي، والإكراه باستخدام الطاقة والأدوات الاقتصادية، وتبنّي خطاب عدائي ذي صلة باستخدام السلاح النووي.

كما تتعامل الوثيقة مع الصين باعتبارها دولة مؤثرة في الأمن الأوروبي، فهي من ناحية شريك يمكن التعاون معه للتعامل مع القضايا العالمية، مثل التغير المناخي، ولكنها من ناحية أخرى طرف في العديد من الأزمات وبؤر التوتر في العالم، وهو ما يجعلها منافساً اقتصادياً للاقتصاد الأوروبي وقوة راغبة في تغيير هيكل النظام الدولي والقيم التي يستند إليها، وخاصة في ظل تقاربها وتحالفها مع روسيا في هذا الصدد.

وتؤكد الوثيقة أن التهديدات الناتجة عن السياسات الروسية والصينية على الأمن الأوروبي لا تؤثر فقط في قدرة الاتحاد على حماية أمن المواطن الأوروبي – أي البعد الداخلي للأمن الأوروبي – وإنما تؤثر أيضاً في البعد الخارجي للأمن الأوروبي والمرتبط بالعلاقات مع دول غرب البلقان وشرق المتوسط وجنوب المتوسط وأفريقيا ودول الخليج العربي ومنطقة الهند-الباسيفيك وأمريكا اللاتينية، وهي مناطق – وفق الوثيقة – لم ينشط فيها الاتحاد بشكل كاف لتعزيز مصالحه الأمنية فيها، مما ترك فراغاً تسعى كل من الصين وروسيا لملئه.

وعليه، فقد أصبح لدى الاتحاد الأوروبي مسعى للتحول إلى منظمة قادرة على توفير الأمن من خلال التعامل مع التهديدات التقليدية ذات الصلة باستخدام القوة العسكرية وعودة سباق التسلح وانتشار أسلحة الدمار الشامل، وتلك ذات الصلة بالإرهاب والإجرام المنظم والحروب المهجنة والهجمات السيبرانية والتغير المناخي والأزمات الصحية العالمية.

 ثالثاً: ما الذي يحتاجه الأمن الأوروبي في المستقبل؟

في ضوء تأثيرات الحرب الروسية-الأوكرانية على ترتيبات الأمن الأوروبي السابق توضيحها، فإن مناقشة مستقبل ترتيبات الأمن الأوروبي خلال السنوات المقبلة مرتبطة بالإجابة عن سؤالين رئيسيين: الأول خاص بوضع روسيا ضمن تلك الترتيبات، ويتعلق السؤال الثاني بعلاقة ترتيبات الأمن الأوروبي بحلف الناتو.

-وضع روسيا في ترتيبات الأمن الأوروبي:

ترجع أهمية كيفية تعامل الاتحاد الأوروبي مع روسيا بشكل رئيسي إلى أن وثيقة “التوجه الاستراتيجي” السابق مناقشتها قد تعاملت معها كمصدر لتهديد الأمن الأوروبي في بعده الداخلي والمتصل بأمن المواطن الأوروبي، وفي بعده الخارجي المتعلق بالمصالح الاستراتيجية للاتحاد في مناطق عدة من العالم.

وبصفة عامة، هناك ثلاثة بدائل للتعامل مع الدول التي تمثل مصدر تهديد؛ الأول هو المواجهة، والبديل الثاني هو التعايش، والبديل الثالث هو التعاون.

ويعد بديل دخول الاتحاد الأوروبي في مواجهة مع روسيا بهدف وضع حد لسياساتها التوسعية غير مناسب بالنظر لميزان القوى بين الجانبين؛ فعلى سبيل المثال بلغ حجم الإنفاق العسكري في روسيا عام 2020 ما نسبته 4.3% من الناتج المحلي الإجمالي، في حين بلغ في الاتحاد الأوروبي ما نسبته 1.6% من الناتج المحلي الإجمالي على مستوى الاتحاد.

وفي مجال الطاقة، وبرغم فرض الاتحاد العديد من العقوبات الاقتصادية على روسيا فلاتزال الدول الأوروبية منفردة تسعى للحصول على مصادر الطاقة الروسية من أجل استكمال ملء خزاناتها قبل حلول الشتاء.

وبالتالي، فإن الدخول في هذه المواجهة يتطلب تحرك الاتحاد الأوروبي بالتنسيق والتعاون مع حلف الناتو مع الوضع في الاعتبار تعزيز التحالف الروسي مع الصين كرد فعل على تلك المواجهة.

بالنسبة لبديل التعايش، والذي يقوم على فكرة قبول الميول التوسعية لروسيا في حدود معينة في مقابل مراعاة روسيا لمتطلبات الأمن الأوروبي، فقد كانت خبرة التدخل الروسي في شبه جزيرة القرم في عام 2014 ثم إعلان ضمها لروسيا دون أي تحرك أوروبي تمهيداً لتكرار السياسات التوسعية لروسيا، كما تعبر عنه الحرب الجارية حالياً في أوكرانيا، وهذا يشير إلى أن إجراءات بناء الثقة وتبادل وجهات النظر بين روسيا والدول الأوروبية والتي كانت تتم في أطر مستقلة عن الاتحاد الأوروبي مثل إطار مجلس الناتو-روسيا ومجلس أوروبا المعني بحقوق الإنسان في القارة والذي تتمتع روسيا بعضوية فيه، وفي إطار منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، أدت إلى توطيد معرفة روسيا بمواطن القصور في ترتيبات الأمن الأوروبي وبالتالي تقدير أقصى تحرك يمكن أن يقوم به الاتحاد الأوروبي في مواجهة أي تحرك روسي في أوكرانيا.

أما فيما يتعلق ببديل التعاون، فهو يعني اتجاه الاتحاد الأوروبي لاستحداث آلية مبتكرة للنقاش والتفاوض مع روسيا حول ما هو مشترك مثل صادرات الطاقة الروسية وإعادة النظر في خطط ضم بعض دول أوروبا الشرقية للاتحاد الأوروبي، بهدف البناء على ما هو مشترك لتطوير ثقافة أمنية أوروبية-روسية تؤسس لتعاون أمني في المستقبل.

 وقد يكون هذا البديل هو الأكثر جاذبية لروسيا، لكونه من ناحية يضمن استمرار مصالحها الاقتصادية مع أوروبا في مجال الطاقة ويمهد لإلغاء العقوبات الاقتصادية التي فرضت عليها، ومن ناحية أخرى يسمح لها بتحقيق مطالبها الخاصة بوقف توسع الاتحاد الأوروبي شرقاً مقابل التعاون الأمني مع الاتحاد في مجالات أمنية مشتركة خاصة، مثل ضبط التسلح وخفض التسليح والتصدي لشبكات الجريمة المنظمة الأوكرانية التي تستغل ظروف الحرب في التحرك عبر الحدود وعمليات تهريب السلاح والمقاتلين الأجانب العابرة للحدود.

 -علاقة ترتيبات الأمن الأوروبي بحلف الناتو:

أما بالنسبة للسؤال الثاني، والمتعلق بعلاقة الاتحاد الأوروبي في مسعاه الخاص لتعزيز دوره الأمني والدفاعي في القارة الأوروبية بحلف الناتو، فإن أهمية هذا السؤال في مناقشة مستقبل ترتيبات الأمن الأوروبي تعود إلى أن الحلف يظل فاعلاً أمنياً مؤثراً في القارة الأوروبية، وخاصة أن الحرب الروسية-الأوكرانية قد سلطت الضوء على أهمية المفهوم السياسي-العسكري للأمن الذي يتبناه الحلف. وفي المقابل، فإنه برغم أن ترتيبات الأمن الأوروبي – كما تعبر عنها وثيقة “التوجه الاستراتيجي” السابق ذكرها – تضيف مكوناً عسكرياً في تلك الترتيبات، فإن المكون الخاص بتعزيز أمن الطاقة وذلك المتعلق بتطوير اقتصاد رقمي يظلان المكونين الأكثر أولوية في التحرك الأوروبي خلال المرحلة الراهنة.

وهذا الوضع يستدعي أهمية التفكير من ناحية في سبل تطوير قدرة حلف الناتو على التصدي للحرب الروسية وأية تهديدات مشابهة في المستقبل، كما يستدعي من ناحية أخرى البحث عن آلية لربط ترتيبات الأمن الأوروبي بحلف الناتو، سواء بشكل ثنائي أو من خلال هيئة أمنية مستحدثة، وتعد وثيقة “التوجه الاستراتيجي” خطوة مهمة في هذا الصدد، لاسيما وأنها تؤكد أهمية التعاون مع حلف الناتو في التصدي للتهديدات الناتجة عن الحرب الروسية وفي تحقيق الأمن الأوروبي بصفة عامة.

وتجدر الإشارة إلى أن هناك بعض التيارات الفكرية في أوروبا تطالب بأن يكون هذا التحرك مرتبطاً بتوحيد الغرب ممثلاً في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في مواجهة روسيا والدول المتحالفة معها، وأن يجذب الغرب الموحد في جانبه كل الدول المؤمنة بالديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان وحكم القانون، مثل اليابان وأستراليا وكندا وغيرها من الدول التي تتشارك هذه المبادئ والقيم. وبالتالي تفضل هذه التيارات بديل المواجهة مع روسيا وحلفائها مع استمرار كون الاعتبارات السياسية هي المتحكم في العلاقات الأمنية بين الدول الغربية وباقي دول العالم.

ومن المهم لفت الانتباه إلى أن نجاح هذه التيارات في تحديد مستقبل ترتيبات الأمن الأوروبي نتيجة لقربها من دوائر صنع القرار الأوروبية، سيزيد من ضعف تلك الترتيبات ومن إضعاف مكانة الاتحاد الأوروبي في منظومة الأمن العالمي، وذلك في مقابل تنامي النفوذ الأمني والسياسي لكل من روسيا ومن ورائها الصين في دول الجوار الأوروبي.

 بعبارة أخرى، أياً كان البديل الذي قد يفضله الاتحاد الأوروبي في التعامل مع روسيا خلال الفترة المقبلة، وأياً كانت العلاقة بين ترتيبات الأمن الأوروبي وحلف الناتو، فإن الاتحاد الأوروبي في كل الأحوال أصبح بحاجة ماسة إلى تعزيز علاقاته الأمنية مع دول جنوب المتوسط وشرق المتوسط والخليج العربي؛ من أجل حماية مصالحه الاستراتيجية في هذه المناطق، التي غدت محل اهتمام روسيا والصين؛ وهو ما يعني ضرورة أن يبدأ الاتحاد الأوروبي في بناء شراكات أمنية مع هذه الدول، بعيداً عن الاعتبارات السياسية التي ظلت طوال السنوات الماضية متحكّمة في مستوى علاقاته الأمنية معها.

خاتمة:

مما تقدم يتبين أن الحرب الروسية-الأوكرانية قد دفعت الاتحاد الأوروبي إلى إعادة النظر في التهديدات والمخاطر ذات الأولوية وطبيعة السياسات التي يتعين تبنيها على مستوى الاتحاد، وفي العلاقة مع دول الجوار، وهو ما يمهد لنقلة نوعية في ترتيبات الأمن الأوروبي قد نراها خلال السنوات المقبلة.

 وبرغم صعوبة تحديد أبعاد هذه النقلة النوعية والتي ستظل قيد التشكل في ظل تطورات الحرب الروسية-الأوكرانية، فإنها من المتوقع أن تقدم إجابات محددة عن طبيعة دور روسيا في ترتيبات الأمن الأوروبي، وعلاقة تلك الترتيبات بحلف الناتو، فضلاً عن وضع إطار براغماتي للعلاقات الأمنية بين دول الاتحاد ودول الجوار.