شهدت الفترة الأخيرة تصاعداً ملحوظاً للتوتر بين إسرائيل وروسيا؛ تمثلت أحدث مظاهره في مداهمة القوات الروسية مقر الوكالة اليهودية في موسكو والتهديد بإغلاقها، وهو ما أثار غضب الحكومة الإسرائيلية التي أرسلت وفداً إلى موسكو لحل الأزمة، مع التلويح في الوقت ذاته بأنها قد تؤثر على العلاقات بين البلدين. وتعد الأزمة الأخيرة امتداداً للخلافات السابقة بين موسكو وتل أبيب بشأن الحرب في أوكرانيا، وهو ما قد تكون له انعكاسات مُحتملة على الملفات الإقليمية المشتركة بين البلدين، بما فيها التنسيق العسكري في سوريا، والموقف من إيران.
مؤشرات التوتر:
كشفت بعض التطورات في الفترة الأخيرة عن حالة التوتر المتزايدة بين روسيا وإسرائيل، ومن أبرز مؤشرات ذلك ما يلي:
1. تغير موقف إسرائيل من الحرب الأوكرانية مع تولي لابيد السلطة: كان تولي يائير لابيد رئاسة الوزراء في إسرائيل إيذاناً بتصعيد التوتر مع روسيا، على خلفية مواقفه السابقة ضد الأخيرة في الحرب الأوكرانية، وهو ما عكسه تصريح سفير روسيا لدى تل أبيب، أناتولي فيكتوروف، في 20 يوليو 2022، بأن "تولي لابيد رئاسة الوزراء يُضر بعلاقة موسكو مع تل أبيب".
وفي حين تبنى رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، نفتالي بينيت، موقفاً متوازناً إلى حد كبير من الحرب، حيث ندد بالعنف في أوكرانيا وامتنع عن توجيه انتقادات مباشرة للرئيس بوتين بالرغم من ضغوط واشنطن وحلفائها الغربيين عليه في هذا الشأن، بل وقدَّم نفسه كوسيط لحل الأزمة بين البلدين؛ وفي المقابل كان لابيد أكثر انتقاداً لروسيا. ففي فبراير الماضي، أدان لابيد، وزير الخارجية آنذاك، "الهجوم الروسي على أوكرانيا"، واعتبره "انتهاكاً صارخاً للنظام الدولي". وفي أبريل الماضي، انتقدت موسكو لابيد، لإشرافه على تصويت إسرائيل لطرد روسيا من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، ثم إدلائه بتعليقات "مُعادية لروسيا"، وإدانته "قتل المدنيين الأبرياء". وخلال زيارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، لإسرائيل في منتصف يوليو الماضي، أعاد لابيد إدانة ما وصفه بـ "الغزو الروسي غير المُبرر لأوكرانيا"، ووقًّع بياناً مشتركاً مع بايدن عبَّرا خلاله عن "مخاوف بشأن الهجمات المُستمرة ضد أوكرانيا".
من ناحية أخرى، عزَّزت إسرائيل مساعداتها الدفاعية إلى أوكرانيا؛ حيث أعلنت، في 12 يوليو الماضي، تسليم شحنة مساعدات إضافية إلى قوات الإنقاذ والمنظمات المدنية الأوكرانية، وتضمنت الشحنة 1500 خوذة عسكرية، و1500 سترة واقية، و1000 قناع مُضاد للغاز، ومئات البدلات الواقية لإزالة الألغام، وعشرات المرشحات الكيميائية والبيولوجية والإشعاعية والنووية لخدمات الطوارئ والمنظمات المدنية، وفقاً لما أعلنته وزارة الدفاع الإسرائيلية. وكانت إسرائيل أرسلت أول شحنة في 18 مايو الماضي، واقتصرت على تسليم 2000 خوذة، و500 سترة واقية فقط. ويعكس كل ذلك انحيازاً إسرائيلياً لأوكرانيا ضد روسيا، سواء على المستوى السياسي أو العسكري.
2. وقف أنشطة الوكالة اليهودية في روسيا: داهمت القوات الروسية في يوليو الماضي مقر الوكالة اليهودية "هسوخنوت هيهوديت" في موسكو، وفتَّشت محتوياتها. ورفعت وزارة العدل الروسية دعوة قضائية أمام محكمة مقاطعة باسماني في موسكو، تتهم الوكالة بارتكاب انتهاكات للقانون الروسي، مما أثار غضب الحكومة الإسرائيلية، حيث وصف لابيد هذا القرار بأنه "حدث خطير سيؤثر على العلاقات بين البلدين"، فيما قال وزير الشتات الإسرائيلي، نحمان شاي، إنه "لن يتم اتخاذ اليهود الروس كرهائن للحرب في أوكرانيا". إلى جانب ذلك، أرسل لابيد وفداً إسرائيلياً إلى موسكو، عقد اجتماعاً يوم 31 يوليو الماضي مع ممثلين عن وزارة العدل الروسية لإجراء محادثات بشأن تلك الأزمة. كما أصدر لابيد تعليماته لموظفي وزارة الخارجية بإعداد "حزمة إجراءات" للرد على روسيا في حالة إغلاق الوكالة اليهودية.
وتنبع أهمية هذا الأمر من أن الوكالة اليهودية تعدُّ بمنزلة الذراع غير الرسمية للحكومة الإسرائيلية المُكلَّفة بالإشراف على الهجرة إلى إسرائيل وتشجيعها. وقد لعبت الوكالة دوراً حيوياً في مساعدة أكثر من 238 ألف يهودي على الهجرة من روسيا منذ عام 1989، كما سهَّلت زيادة عدد المهاجرين إلى 16 ألفاً منذ بدء الحرب في أوكرانيا، و37 ألفاً آخرين دخلوا إسرائيل بتأشيرات سياحية وهم إما يسعون للحصول على الإقامة، أو انتظار انتهاء الحرب.
3. تزايد حدة الانتقادات الروسية للضربات الإسرائيلية على سوريا: هناك تنسيق عسكري بين روسيا وإسرائيل في سوريا، ويراجع الجانبان قواعد التنسيق بصورة دائمة لضمان عدم حدوث صدام بينهما، مثلما أعلنت "القناة 13 الإسرائيلية" أنه في 13 مايو الماضي أطلقت بطارية دفاع جوي روسية من طراز "إس- 300" النيران على طائرات إسرائيلية أثناء تنفيذ طلعة جوية في سوريا من دون أن تصيب أياً منها، ووصف وزير الدفاع بيني غانتس الأمر بأنه "حادثة منفردة". كما تُراعي إسرائيل في ضرباتها الجوية، التي تُخطر روسيا بها مُسبقاً، طلب الأخيرة بعدم استهداف الجيش السوري، وتُركِّز بشكل أكبر على استهداف الوجود الإيراني على الأراضي السورية.
وقد بدا ملحوظاً في الآونة الأخيرة تصاعد حدة الانتقادات الروسية العلنية للضربات الجوية الإسرائيلية في سوريا، حيث أدانت وزارة الخارجية الروسية، في 10 يونيو الماضي، الغارة التي نفذها الطيران الإسرائيلي على مطار دمشق الدولي وأدت إلى تعليق رحلاته الجوية. وفي 2 يوليو الماضي، أدانت الخارجية الروسية بشدة الضربات الجوية الإسرائيلية التي استهدفت مواقع تابعة لنظام بشار الأسد والميليشيات الإيرانية في سوريا، واصفةً إياها بـ "غير المقبولة"، وطالبت بوقفها. وخلال قمة طهران التي جمعت رؤساء إيران وروسيا وتركيا في 19 يوليو الماضي، خصص البيان الختامي الفقرة 12 لإدانة "استمرار الهجمات العسكرية الإسرائيلية في سوريا، بما في ذلك الهجمات على البنى التحتية المدنية".
مصالح استراتيجية:
كان موقف إسرائيل تجاه روسيا في الحرب الأوكرانية مُعقَّداً منذ البداية بسبب علاقتها بروسيا؛ والتي تعتمد عليها في أولويتين رئيسيتين، هما السماح لليهود الروس بالهجرة، وتسهيل ضرب "الميليشيات" الإيرانية في سوريا. وفي المقابل، تمثل إسرائيل أهمية كبيرة لروسيا في المنطقة من زاويتين؛ الأولى التنسيق العسكري معها في سوريا قبل تنفيذ الضربات الجوية، والثانية ترتبط بالحاجة إليها لموازنة أي نفوذ إيراني مُتزايد في الإقليم.
ومن هذا المنطلق، تفرض المصالح الاستراتيجية والأمنية على كل طرف استمرار حاجته للتعاون مع الآخر في بعض الملفات الجوهرية. ومن ثم يمكن تفسير مؤشرات التصعيد السابق ذكرها من واقع أن موسكو تحاول تحجيم المواقف الإسرائيلية المُعارضة لها في الحرب الأوكرانية، لذلك كان التضييق على أنشطة الوكالة اليهودية جزءاً من هذه الاستراتيجية لدفع لابيد نحو مراجعة مواقفه وإعادة النظر فيها بما يحافظ على "الموقف المتوازن" الذي تبَّنته إسرائيل إلى حد كبير في بداية الحرب.
وبالتالي يمكن اعتبار الخطوات الروسية المتتابعة تجاه إسرائيل مؤخراً، سواء حظر أنشطة الوكالة اليهودية، أو التنسيق مع إيران خلال قمة طهران الثلاثية؛ بمنزلة "رسائل تحذيرية" لإسرائيل حتى تتوقف عن مساندة كييف على حساب موسكو.
تداعيات مُحتملة:
يمكن الإشارة إلى عدد من التداعيات المُتوقعة بشأن التوترات الحالية بين روسيا وإسرائيل، وذلك على النحو التالي:
1. تأثيرات "محدودة" على العلاقات الثنائية: من المُحتمل أن يكون لهذه الخلافات انعكاسات "محدودة" على العلاقات بين روسيا وإسرائيل، ولا يُتوقع أن تؤدي إلى تغير السياسة الروسية تجاه إسرائيل في الوقت الحالي، مع احتمالية حدوث ذلك بعد انتخابات الكنيست المُقررة في نوفمبر القادم، خاصةً إذا نجح لابيد في تشكيل حكومة جديدة برئاسته.
2. ضغط موسكو في الملف السوري: ليس مُرجحاً أن يكون للخلافات المُتصاعدة بين موسكو وتل أبيب تداعيات كبيرة على التنسيق العسكري في سوريا؛ لما لذلك من أهمية للطرفين ولتجنب الصدام بينهما. لكن من المُحتمل أن يتجه هذا التأثير نحو حدود رد الفعل الروسي على الهجمات الإسرائيلية المُتزايدة ضد المواقع والقوات الإيرانية في سوريا، أو ربما تمكين هذه القوات بدرجة ما لتفادي الهجمات الإسرائيلية، وعلى نحو يدفع تل أبيب نحو تعزيز تقاربها مع روسيا لضمان تنسيق السيطرة على الأجواء في سوريا.
3. إعطاء فرصة للمفاوضات السياسية: لدى إسرائيل أدواتها السياسية والدبلوماسية التي قد تُمكِّنها من المناورة لتحقيق مصالحها وضمان الحفاظ على علاقتها مع روسيا، لذا أرسلت وفداً إلى موسكو للتباحث والتفاوض بشأن أزمة الوكالة اليهودية في أواخر يوليو الماضي، وهو ما تزامن مع تأجيل جلسة الاستماع في المحكمة الروسية بشأن هذه الأزمة إلى 19 أغسطس الجاري بعد أن كانت مُقررة في 28 يوليو الماضي، وبما يُعطي فرصة أكبر للتوصل لحل سياسي بشأن تلك الأزمة بين الجانبين الروسي والإسرائيلي.
4. تهدئة إسرائيلية بشأن حرب أوكرانيا: لا يبدو أن إسرائيل أيضاً قد تتجه لمزيد من التصعيد ضد روسيا حتى مع استمرار لابيد رئيساً للحكومة لفترة أطول (مع احتمالية تعقُّد تشكيل حكومة جديدة بعد انتخابات الكنيست المُقبلة)، وذلك على الرغم من التلويح بإمكانية الانضمام إلى العقوبات الغربية المفروضة على موسكو، حيث مازالت إسرائيل مُلتزمة بعدم الانضمام لهذه العقوبات، فضلاً عن أنها لم تُقدِّم مساعدات عسكرية "ذات قيمة" مثل أسلحة مُتطورة أو أنظمة دفاعية لأوكرانيا، حتى مع موقفها الرافض للتدخل العسكري الروسي.
5. وجود انعكاسات على الانتخابات الإسرائيلية: ربما يكون للتوتر الحالي بين موسكو وتل أبيب تأثير على فرص لابيد نفسه في الانتخابات البرلمانية القادمة في مواجهة بنيامين نتنياهو، وهو ما دفع البعض إلى اعتبار أن التضييق الروسي على الوكالة اليهودية يستهدف لابيد نفسه. وبالطبع، استغل نتنياهو هذا الأمر لتدعيم موقفه وحوَّله إلى جزء من دعايته الانتخابية؛ حيث اتهم خلال مؤتمر صحفي يوم 27 يوليو الماضي، لابيد وغانتس بـ "الثرثرة، وتعريض أمن إسرائيل القومي للخطر"، مُضيفاً أنه "قلق من أن ما بنيناه على مر السنين يتم تقويضه أمام أعيننا في الأسابيع الأخيرة".
ختاماً، من المُرجح أن يسعى الجانبان الروسي والإسرائيلي إلى التهدئة، وتجاوز الخلافات أو على الأقل تقليل حدتها في الفترة المُقبلة؛ بهدف الحفاظ على المصالح الاستراتيجية لكل منهما، خاصةً فيما يتعلق بالتنسيق العسكري في سوريا أو الموقف من إيران أو استمرار تنظيم هجرة اليهود من روسيا. ومن المُحتمل أن تُخفف إسرائيل من حدة خطابها ضد روسيا بشأن حرب أوكرانيا، أو على الأقل تُعطي ضمانات أو رسائل لموسكو بعدم تطوير تعاونها مع كييف.