قام رئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح، بزيارة إلى تركيا، في 2 أغسطس 2022، بناء على دعوة رسمية من قبل أنقرة، حيث التقى خلالها بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ورافقه خلال الزيارة نائب رئيس المجلس الرئاسي الليبي عبد الله اللافي، في خطوة عكست وجود تحولات مستمرة في مواقف الفواعل الداخلية والخارجية.
حراك تركي مكثف:
شهدت الفترة الأخيرة تصاعداً في وتيرة الانخراط التركي في الملف الليبي، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
1. زيارة صالح واللافي لأنقرة: قام عقيلة صالح بزيارة إلى أنقرة، هي الأولى له منذ توليه رئاسة مجلس النواب في عام 2014، حيث التقى بالرئيس التركي، رجب أردوغان، ورئيس البرلمان التركي، مصطفى شنطوب، بحضور نائب رئيس المجلس الرئاسي الليبي، عبد الله اللافي، قبل أن ينضم إليهم في وقت لاحق رئيس المجلس الأعلى للدولة الليبي، خالد المشري. وكان عقيلة صالح سبق وأعلن في يوليو الماضي أنه بصدد القيام بزيارة إلى أنقرة.
وشهدت هذه الاجتماعات التأكيد على ضرورة الإسراع في إنجاز الانتخابات البرلمانية والرئاسية، عبر التوصل إلى توافقات بشأن حكومة واحدة، مع التأكيد على ضرورة استبعاد الحل العسكري، بيد أن صالح أكد ضرورة تسليم السلطة لرئيس حكومة الاستقرار، فتحي باشاغا، لضمان إجراء الانتخابات.
2. اجتماع إسطنبول: استضافت مدينة إسطنبول التركية، في 21 يوليو الماضي، اجتماعاً بشأن تطورات الملف الليبي، حضره ممثلون عن كل من مصر والولايات المتحدة وألمانيا وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا، إلى جانب المستشارة الأممية السابقة، ستيفاني ويليامز، حيث تم بحث ترتيبات المرحلة المقبلة في الملف الليبي.
3. زيارة مرتقبة لوفد تركي لشرق ليبيا: أسس البرلمان التركي "مجموعة الصداقة البرلمانية التركية – الليبية"، برئاسة أحمد يلماز، في أبريل 2021، في إطار مساعي أنقرة لتعزيز حضورها في ليبيا، وأشارت بعض التقارير إلى أن هذه المجموعة تستعد حالياً لزيارة شرق ليبيا خلال الفترة المقبلة.
وسبق وأن قام وفد من البرلمان الليبي برئاسة نائب رئيس المجلس، فوزي النويري، بزيارة إلى تركيا في ديسمبر 2021، أعقبها قيام السفير التركي لدى ليبيا، كنعان يلماز، بزيارة إلى بنغازي في يناير 2022 برفقة عدد من رجال الأعمال الأتراك، لبحث استئناف المشروعات التركية في شرق ليبيا والاتفاق على مشروعات جديدة.
نقطة تحوّل:
عكست زيارة صالح إلى أنقرة جملة من الدلالات المهمة، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1. مقاربة تركية جديدة: ألمح السفير التركي في طرابلس، كنعان يلماز، إلى أن أنقرة باتت تتعامل مع ليبيا باعتبارها وحدة واحدة شرقاً وغرباً، وتسعى لتحقيق الاستقرار هناك، من خلال دعم تدشين حوار شامل يتضمن الأطراف الليبية كافة للتوصل إلى صيغة توافقية، فضلاً عن دفع المباحثات القائمة بين مجلسي النواب والدولة للتوصل لقاعدة دستورية.
2. تحالفات متغيرة: ربطت بعض التقارير بين توجهات عقيلة صالح نحو تركيا وبين التفاهمات الراهنة بين قائد الجيش الوطني الليبي، خليفة حفتر، ورئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبد الحميد الدبيبة، وهي الخطوة التي يبدو أنها تلاقي انزعاجاً كبيراً من قبل صالح وأنقرة، حيث يرى البعض أن ثقة أنقرة في الدبيبة قد تراجعت، وهو ما قد يدفعها إلى التضحية به حال التوصل إلى ترتيبات أخرى تضمن مصالحها.
وبالتالي، ربما تعيد زيارة عقيلة صالح لتركيا هيكلة التحالفات الداخلية في ليبيا، في ظل الحديث عن تصدعات بدأت تظهر مرة أخرى بين حفتر وعقيلة صالح خلال الفترة الأخيرة، لاسيما بعدما فشل باشاغا في دخول العاصمة طرابلس، مما أدى إلى تحرك حفتر بشكل مستقل بعيداً عن باشاغا وصالح، وتوجهه نحو التفاهم مع الدبيبة، لتأمين توافر التمويل من قبل مصرف ليبيا المركزي، الأمر الذي يبدو أنه قد زاد من الشقاق بين حفتر وصالح.
3. سعي صالح لاستقطاب الدعم التركي لباشاغا: يسعى عقيلة صالح لحشد الدعم التركي لحكومة باشاغا في مواجهة الدبيبة، بدلاً من الموقف الحيادي الذي انتهجته أنقرة خلال الفترة الماضية، وربما يعول رئيس البرلمان الليبي على انزعاج أنقرة الحالي من الدبيبة من أجل دفع تركيا لتغيير موقفها السابق، مع وجود مؤشرات تفيد بأن أنقرة ربما تكون أقرب لدعم باشاغا، خاصةً أن الأخير يحظى بتأييد نسبي من الشرق والغرب الليبي، وبالتالي يمكن أن يضمن الحضور التركي في كامل ليبيا.
وأشارت بعض التقارير إلى أن عقيلة صالح سعى، من خلال أنقرة، لدفع المجموعات المسلحة الموجودة في طرابلس لدعم حكومة باشاغا والتراجع عن دعم الدبيبة، بيد أنه، حتى الآن، لا تزال الأمور غير واضحة بشأن ما إذا كان صالح قد نجح في تغيير الموقف التركي من عدمه.
4. وساطة تركية: تتجه أنقرة للعب دور الوساطة بين عقيلة صالح والمشري، في محاولة لتحقيق اختراق بشأن المسار الدستوري والسياسي، وهو ما يفسر الزيارة التي قام بها المشري إلى تركيا بالتزامن مع وجود صالح هناك، لعقد اجتماع مشترك بوساطة تركية. وعلى الرغم من عدم الإعلان بشكل رسمي عن إجراء هذا اللقاء أو مخرجاته، بيد أن ثمة تقديرات ألمحت إلى أن اللقاء تم بالفعل، وأن هناك مساعٍ تركية مكثفة لإنجاز التوافق بين الطرفين.
وتبقى احتمالات نجاح تركيا في إحداث بعض التقدم في التوافق بين مجلسي النواب والدولة قائمة، لاسيما في ظل المتغيرات الراهنة التي باتت تهدد استمرارية المجلسين خلال الفترة المقبلة، ناهيك عن القلق المتنامي من احتمالية انفجار الوضع الأمني في غرب ليبيا، فضلاً عن ترجيح وجود دعم إقليمي ودولي لهذه الجهود.
5. مكاسب جديدة لأنقرة: قد تفتح زيارة صالح إلى تركيا المجال لتعزيز حضورها في شرق ليبيا، وإعادة إحياء مشروعاتها الاقتصادية هناك، خاصة أن بعض التقديرات أشارت إلى أن هذه الزيارة أفضت إلى التوافق بشأن اتفاقية ترسيم الحدود بين البلدين، والتي كانت تركيا وقعتها في 2019 مع حكومة الوفاق. وتسعى أنقرة لإقناع مجلس النواب للتصديق على الاتفاقية، بما يعزز من دورها في ملف غاز شرق المتوسط.
انعكاسات محتملة:
يبدو أن ثمة ارتدادات محتملة يمكن أن تنبثق عن زيارة عقيلة صالح إلى تركيا، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
1. تعزيز الدور التركي في ليبيا: يرجح أن تشهد الفترة المقبلة مزيداً من التحركات التركية نحو شرق ليبيا، سواء عن طريق فتح القنصلية التركية في بنغازي، أو استئناف المجال الجوي والبحري بين أنقرة وبنغازي، فضلاً عن بحث عودة مشروعاتها الاقتصادية في شرق ليبيا، وهو ما قد يدعمه الإعلان عن اتجاه وفد من البرلمان التركي لزيارة طبرق برفقة عدد من رجال الأعمال الأتراك قريباً.
كما أن هناك تحركات تركية في طرابلس تستهدف تخفيف حدة التوترات بين المجموعات المسلحة المتصارعة والموالية للحكومتين المتنافستين، حيث كانت هذه المجموعات على وشك إشعال حرب أهلية جديدة، قبل أن يتم الإعلان بشكل مفاجئ عن اتفاق بين قادة هذه المجموعات، في 27 يوليو الماضي، على خفض التصعيد، الأمر الذي ربطه البعض بالتدخل التركي.
2. تغيرات محتملة في السلطة التنفيذية: تعددت التقارير التي تشير إلى أن اجتماعات أنقرة الأخيرة تضمنت بحث إمكانية تشكيل حكومة جديدة بديلة عن الحكومتين المتنافستين حالياً، وأن هناك مشاورات قائمة في الوقت الراهن بين مجلسي النواب والدولة بشأن هذا الملف.
ويتمثل أحد التوافقات المحتملة في تشكيل مجلس رئاسي جديد، برئاسة عقيلة صالح، مع تولي نائب رئيس المجلس الرئاسي الحالي، عبد الله اللافي، رئاسة حكومة مصغرة تتولى التحضير للانتخابات المقبلة، فيما لا يزال الحديث عن إمكانية إعادة تدوير حكومة باشاغا قائماً، من خلال إدخال بعض التعديلات عليها بحيث تضمن دعم أكبر قدر ممكن من الأطراف.
كما رجحت تقديرات أخرى وجود مساعٍ تركية لإحياء نموذج ملتقى الحوار السياسي السابق، من أجل إنجاز القاعدة الدستورية، بل وإمكانية الاعتماد عليه في إفراز سلطة تنفيذية جديدة. لكن يبدو أنه لم يتم التوصل إلى اتفاق نهائي، وهو ما وضح في نفي البرلمان الليبي وجود أي نية لتشكيل حكومة جديدة.
وفي الختام، لا تزال حالة الضبابية تهيمن على المشهد الليبي، في ظل المتغيرات المستمرة وهشاشة التحالفات القائمة، لكن يبدو أن هناك مباحثات جارية وغير معلنة بين الفواعل الإقليمية والدولية بشأن الترتيبات السياسية القادمة في ليبيا، لذا ربما يكون الملف الليبي مُقبلاً على بعض التحولات الهيكلية خلال الفترة المقبلة.