على الرغم من استمرار الحرب الروسية في أوكرانيا منذ فبراير 2022، فإن الاهتمام العالمي لم يعد مُوجهاً بالكثافة نفسها نحو كييف، وإنما اتجه إلى تايوان، حيث صار كل تطور تشهده هذه الجزيرة يضع العالم أمام احتمالات مواجهة عسكرية كبرى بين الصين والولايات المتحدة.
وكان آخر هذه التطورات زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي، نانسي بيلوسي، إلى العاصمة التايوانية "تايبيه"، في 2 أغسطس الجاري؛ وهي الزيارة التي أغضبت بكين، بعد تحذيرات كثيرة سابقة، وتحركات عسكرية كثيفة لاحقة، حيث قامت الصين في أعقاب تلك الزيارة بإجراء مناورات عسكرية بالذخيرة الحية حول تايوان، وأعلنت أنها وجّهت "ضربات دقيقة" لمنطقة شرق مضيق تايوان وحققت النتائج المرجوة. ويثير كل ذلك التساؤلات حول خيارات بكين المُتاحة في التعامل مع التصعيد الأمريكي الحالي عبر تايوان.
نهج "شي":
منذ انتهاء الحرب الأهلية الصينية في عام 1949، بانتصار الشيوعيين وتراجع القوميين إلى تايوان، تجنّبت الصين الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة وصريحة مع تايوان، وكان المضيق الفاصل بين الطرفين موقعاً لأزمات متكررة وتوترات دائمة. ولكن الصين كانت دائماً - وحتى وقت قريب - تضع حدوداً لهذه التوترات؛ اقتناعاً منها بأن النهج الأنسب لحل مسألة تايوان، وإعادة وحدة البلاد، هو "إعادة التوحيد السلمي"، وتعزيز علاقاتها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية مع الجزيرة.
وبدلاً من استخدام الحل العسكري، لجأت بكين إلى عزل تايبيه دولياً، وقدّمت حوافز اقتصادية لحلفاء تايوان كي يوافقوا على التخلي عنها. كما استخدمت نفوذها الاقتصادي المُتزايد لإضعاف موقع تايبيه في المنظمات الدولية، وفرض سياسة "الصين الواحدة". وعلى الرغم من أن المسؤولين الصينيين أكدوا دائماً أن لديهم الحق في استخدام القوة، فإن هذا الخيار بدا غير مطروح على مدار العقود الماضية.
ومع وصول الرئيس شي جين بينغ إلى مقاليد الحكم في الصين، لم يتمرد على هذه السياسة، ولكنه ظهر غير مستعد للمُضي فيها إلى ما لا نهاية. ومع الوقت، بدا أنه عازم على حسم هذه المسألة في عهده. ففي عام 2017، على سبيل المثال، أعلن الرئيس شي أن "إعادة التوحيد الوطني الكاملة شرط لا مفر منه لتحقيق التجديد العظيم للأمة الصينية"، وبالتالي ربط مستقبل تايوان ببرنامجه السياسي الأساسي. وفي عام 2019 عاد شي ليؤكد أن الترتيب السياسي الحالي هو "السبب الجذري لعدم الاستقرار عبر المضيق"، وقال إنه "لا يمكن أن يستمر من جيل إلى آخر".
وترافق ذلك مع اتجاه تايوان إلى إقامة علاقات أكثر حذراً مع الصين، وهو ما تعزز بإعادة انتخاب رئيسة تايوان "تساي إنغ وين"، في يناير 2020. لذا تصاعدت أصوات في بكين ترى أن الوقت قد حان لاستخدام الحل العسكري ضد تايوان، ومن بين هؤلاء؛ ضباط عسكريون متقاعدون. ووفقاً لمسح أجرته صحيفة "جلوبال تايمز" الصينية التي تديرها الدولة، يؤيد 70% من سكان الصين استخدام القوة لتوحيد تايوان مع البر الرئيسي. ومن المنطقي أن هذه الآراء تنسجم مع توجهات الرئيس شي في هذا اللحظة، وإلا لما طفت على السطح.
موازين القوة:
تكمن خطورة المشهد العسكري في تايوان – من وجهة النظر الأمريكية- في مرحلة ما بعد استخدام الصين قوتها العسكرية، ونجاحها في ضم تايوان، وهو ما يُعبر عنه - مثلاً - كلُ من "بريندان ريتنهاوس"، أستاذ العلوم السياسية في جامعة سينسيناتي الأمريكية، و"كيتلين تالمادج"، أستاذ الدراسات الأمنية في جامعة جورج تاون الأمريكية، في مقالهما التحليلي المنشور مؤخراً في مجلة Foreign Affairs، تحت عنوان "تداعيات الغزو".
ويرى الكاتبان أن أي تحرك عسكري صيني ناجح تجاه تايوان يمكن أن يُغيِّر ميزان القوة العسكري في آسيا. فإذا نجحت الصين في الاستيلاء على الجزيرة من خلال حرب سريعة ومُكثفة، ستتمكن من استيعاب الموارد الاستراتيجية لتايوان، مثل المعدات العسكرية والأفراد وصناعة أشباه الموصلات، وكل مورد من شأنه أن يعزز القوة العسكرية لبكين.
والأمر الأكثر أهمية هو أنه سيكون في مقدور الصين تأسيس معدات عسكرية مُهمة على الجزيرة، وتحديداً منظومات الدفاع الجوي والساحلي، بجانب أجهزة المراقبة تحت الماء، والتي ستعمل على إعاقة العمليات العسكرية الأمريكية المستقبلية في بحر الفلبين؛ وهي منطقة ذات أهمية حيوية في أي صراع مُحتمل مستقبلاً بين واشنطن وبكين.
كذلك سيكون في مقدور الصين وضع ميكروفونات تحت الماء تُسمى Hydrophone، قبالة الساحل الشرقي للجزيرة. ويُمكن لهذه المستشعرات المتخصصة، إذا وُضعت على العمق المناسب، الاستماع إلى الخارج واكتشاف الأصوات منخفضة التردد لسفن السطح الأمريكية على بُعد آلاف الأميال، مما يُمكّن بكين من تحديد مواقعها بدقة أكبر من استخدام الأقمار الصناعية، ومن ثَمَّ يمكن استهدافها بالصواريخ. وهذا أمر قد يُجبر الولايات المتحدة على تقييد سفنها السطحية في تلك المناطق.
كل هذه الافتراضات النظرية قد يتم تعزيزها إذا وقع سيناريو التدخل العسكري الصيني، وربما تتمكّن بكين من حصد مزايا جيوسياسية غير مسبوقة. وهنا يمكن الإشارة إلى وصف الجنرال الأمريكي "دوجلاس ماك آرثر" خلال إحدى مذكراته التي أرسلها إلى واشنطن في عام 1950، أثناء الحرب الكورية، حيث وصف تايوان بأنها "حاملة طائرات وغواصة غير قابلة للغرق".
استبعاد العسكرة:
بالنظر إلى الأهمية الجيوسياسية – في اللحظة الراهنة - لضم تايوان إلى الصين عسكرياً، ووفقاً للتقييم الأمريكي لمثل هذه الخطوة؛ هل يمكن أن تلجأ بكين إلى الخيار العسكري لضم تايوان في الفترة القادمة؟
على الصعيد الغربي، يبدو أن هذا الهاجس صار حاضراً وبقوة، ففي شهادته أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ الأمريكي في عام 2021، حذّر الأدميرال فيليب ديفيدسون، قائد القيادة الأمريكية في المحيطين الهندي والهادئ، من أن بكين قد تحاول الاستيلاء على تايوان في السنوات الست المقبلة. وتعزّزت هذه المخاوف منذ بداية الحرب الأوكرانية، وبات هناك تخوّفات أمريكية من أن تستغل الصين الظرف الدولي، وانهماك العالم مع أوكرانيا، لكي تتحرك عسكرياً نحو تايوان. إذ اعتبر الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة، في أغسطس 2021، أن الصعود الصيني العسكري الدراماتيكي هو بمنزلة "زلزال استراتيجي"، وأنه "واحد من أكبر التحولات في القوة الجيوستراتيجية التي شهدها العالم".
كذلك لابد من التأكيد أن لغة الخطاب الصيني تغيّرت كثيراً عمّا قبل، وباتت تشير بوضوح إلى مشروعية واحتمالية اللجوء إلى الخيار العسكري. ففي 10 أغسطس 2022، وبعد أيام من زيارة بيلوسي لتايوان، وما اتخذته الصين من إجراءات عسكرية تصعيدية؛ أصدر مكتب شؤون تايوان التابع لمجلس الوزراء الصيني، بياناً ذُكر في نسخته باللغة الإنجليزية أن "بكين ستعمل بأكبر قدر من الإخلاص لتحقيق إعادة التوحيد السلمي"، مشيراً إلى أن "الصين لن تتخلى عن استخدام القوة، وستحتفظ بخيار اتخاذ جميع الإجراءات اللازمة".
ولكن في ظل هذه الأجواء المشحونة، ثمة اتجاهات تستبعد لجوء الصين إلى الخيار العسكري حالياً، أو في المستقبل المنظور، ما لم يظهر عامل مؤثر جديد على الساحة العالمية. إذ رأى "أندرو ناثان"، أستاذ العلوم السياسية في جامعة كولومبيا، أنه بالرغم من التطورات الأخيرة، فإن الصين لا تزال تتبع نهج "الصبر الاستراتيجي" تجاه تايوان، وأنه من غير المُحتمل لجوئها قريباً إلى الخيار العسكري؛ وذلك استناداً إلى الحجج الآتية:
1. انتظار بلوغ نقطة "توازن القوة" مع واشنطن: يبدو أن القادة الصينيين واثقون من قدرتهم على التعامل مع مشاكلهم بشكل أفضل من قدرة الغرب على التعامل مع مشاكله، وأن بلادهم تمضي إلى عصر القوة والاستقرار، بينما يعيش الغرب في حال تدهور مدفوعة باقتصادات سيئة الإدارة وبطيئة النمو، وانقسامات اجتماعية متزايدة، وزعماء سياسيين ضعفاء.
ومع ذلك، لا ترى الصين أنها وصلت بعد إلى نقطة "توازن القوة" مع الولايات المتحدة والغرب. لذا سيكون من المُهم – بالنسبة لبكين- الانتظار حتى يميل ميزان القوة في اتجاهها بشكل حاسم، وتُدرك واشنطن أن تكلفة الدفاع عن تايوان باهظة ولا يمكن تحملها. وبالتالي فإن هذه الحجة تشير إلى أن الصين تميل إلى تأجيل الخيار العسكري.
2. التمسك بنهج "الصبر الاستراتيجي": على عكس الصورة الشائعة للصين على أنها تتوق إلى الحرب، أظهرت بكين صبراً استراتيجياً في سعيها لتحقيق أهدافها في مناطق صراع أخرى. ويُعد الصراع في بحر الصين الجنوبي نموذجاً واضحاً في هذا الصدد، فبدلاً من اللجوء إلى الخيار العسكري، قامت بكين ببناء سبع جزر رملية وعسكرتها من دون إشعال فتيل حرب مع واشنطن أو منافسيها الإقليميين.
كذلك اتجهت الصين إلى استغلال نفوذها الاقتصادي والدبلوماسي في أفريقيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط؛ لحصد الدعم الدولي في القضايا محل الخلاف، وهو ما يُسمى بـ "تكتيك المنطقة الرمادية".
3. الاستفادة من الحرب الأوكرانية: الدرس الذي من المُرجح أن تستخلصه الصين من الحرب الأوكرانية الحالية هو أن أي تحرّك عسكري حالي مُماثل لما قامت به روسيا بقيادة الرئيس بوتين، لن يمر دون عقاب عسكري واقتصادي غربي، وهو أمر مهما كانت الصين قادرة على مواجهته، سيكون مُكلِّفاً في مرحلة دقيقة على مستوى الاقتصاد العالمي.
والنقطة الأهم أنه مهما كانت ثقة العسكريين الصينيين في قدرتهم على خوض مغامرة عسكرية في تايوان، فإن الحرب لا يمكن التنبؤ بها، والقيام بعملية عسكرية برمائية هو أمر أكثر صعوبة وتعقيداً من التدخل العسكري البري الذي قامت به قوات بوتين في أوكرانيا.
4. استكمال مرحلة بناء وتطوير القوة المسلحة الصينية: تُدرك الصين أن قواتها العسكرية مازالت في مرحلة البناء والتطوير، وصحيح أنها تمضي خلال السنوات الأخيرة بقفزات نوعية في الاتجاهات كافة، بيد أن جائحة كورونا ثبّطت الكثير من هذه الجهود، وأجلّت بعضها.
أيضاً، لا يبدو أن بكين قد تمكّنت من تحقيق أهدافها الاستراتيجية التي حددّتها في "الكتاب الأبيض" الصادر في عام 2019، تحت عنوان "الدفاع الوطني الصيني في العصر الجديد". وفيه حددت ثلاثة أهداف استراتيجية أساسية، هي:
أ - تطبيق "الميّكنة" بشكل عام في عام 2020، مع تحسين القدرات المعلوماتية والاستراتيجية بشكل كبير.
ب- تحديث النظرية العسكرية والهيكل التنظيمي والأفراد العسكريين والأسلحة والمعدات بما يتماشى مع تحديث البلاد، وإكمال تحديث الدفاع الوطني والجيش بشكل أساسي بحلول عام 2035.
ج- تحويل القوات المسلحة الشعبية بالكامل إلى قوات ذات مستوى عالمي بحلول عام 2049.
وعلى الرغم من أن المتحدث باسم وزارة الدفاع الصينية قد صرّح في نوفمبر 2020 بأن القوة العسكرية الصينية قد أنجزت بالفعل مرحلة التحديث "لتحقيق الميّكنة" في فروع الجيش كافة، فإن وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) قد أشارت في تقريرها السنوي عن الجيش الصيني، في نوفمبر 2021، إلى أن بكين تهدف من خلال "المكينة" إلى تطوير قدرتها على خوض "الحروب الذكية" في عام 2027.
خيارات الصين:
في ضوء ما سبق، وفي حالة استبعاد الخيار العسكري، ولو نظرياً على الأقل حالياً، فإنه سيكون أمام الصين عدة خيارات أخرى للتعامل الجاد والمُكثف مع أزمة تايوان، وهي كالتالي:
1. الاستمرار في ممارسة الضغوط الاقتصادية: يعتمد اقتصاد تايوان على التجارة مع الصين بشكل أساسي، فهي الشريك التجاري الأكبر للجزيرة، مُتجاوزة الولايات المتحدة. ففي عام 2021، استحوذت الصين (بجانب هونغ كونغ) على 42% من صادرات تايوان، بينما كان نصيب الولايات المتحدة 15% فقط.
وخلال السنوات الخمس الماضية (2016-2021)، ارتفعت واردات تايوان من الصين بنحو 87% مقابل نمو 44% فقط في وارداتها من الولايات المتحدة. ونمت كذلك صادرات تايوان إلى الصين بنسبة 71%. كما تقوم العديد من الشركات التي تتخذ من تايوان مقراً لها بتشغيل مصانعها الأساسية في الصين.
لذلك، اتجهت الصين مباشرةً، بعد زيارة بيلوسي، إلى فرض عقوبات اقتصادية على تايوان؛ شملت حظر دخول البلاد لأكثر من 100 منتج غذائي تايواني. ولم يعد بإمكان تايوان استيراد الرمال من الصين التي تعتمد عليها صناعة البناء.
ونجد أنه على مدار السنوات السابقة، ضغطت بكين على العديد من دول العالم المُتقدم كي لا تُوقِّع اتفاقيات تجارة حرة مع تايوان، وخرجت دولتان عن هذه الرغبة الصينية، وهما نيوزيلندا وسنغافورة. كما دفعت بكين من أجل استبعاد تايوان من التكتلات التجارية مُتعددة الأطراف، بما في ذلك الاتفاقية الشاملة والمتقدمة للشراكة عبر المحيط الهادئ CPTPP، والشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة RCEP.
2. تهيئة المجال الجغرافي وممارسة "الحرب النفسية": لا يعني استبعاد الصين الخيار العسكري حالياً، التوقف عن أي ممارسة عسكرية، حيث يبدو جلياً أنها ترغب في شن "حرب نفسية" على تايوان، وحصارها بالآلات العسكرية، والوصول بالتدريبات والمناورات العسكرية إلى مرحلة "زرع الرهبة في نفوس تايوان"، وإظهار عدم قدرة واشنطن على حماية حليفتها. كذلك فإن هذه التحركات تُهيئ المجال الجغرافي أمام الصين، في حال اتخذت قرار بالتدخل العسكري مستقبلاً.
فمع احتدام التوترات، سرّعت الصين عملياتها العسكرية في محيط تايوان، حيث نفّذت 380 عملية توغل في منطقة تحديد الدفاع الجوي للجزيرة في عام 2020 وحده. وفي أبريل 2022، أرسلت الصين أكبر أسطولها على الإطلاق، المُكوّن من 25 مقاتلة وقاذفات قنابل، إلى منطقة تحديد الدفاع الجوي التايوانية.
وفي إطار تهيئة المجال الجغرافي في المنطقة، حرصت بكين على تقديم مساعدات عسكرية لجميع دول جزر المحيط الهادئ الأربع؛ فيجي وبابوا غينيا الجديدة وتونغا وفانواتو. كذلك اتجهت بكين إلى تطبيع وجودها العسكري في المنطقة من خلال الأنشطة غير العسكرية المُتزايدة التي يقوم بها جيش التحرير الشعبي، مثل الاستجابة للكوارث والمساعدات الإنسانية. فعلى سبيل المثال، شارك كل من سلاح الجو والبحرية بجيش التحرير الشعبي في تسليم إمدادات الإغاثة إلى تونغا في أوائل عام 2022 بعد ثوران بركاني وتسونامي. كما أرسلت الصين معدات لمكافحة الشغب وقدمت تدريباً للشرطة في جزر سليمان بعد اضطرابات عام 2021. وهذا ما يمنح بكين نفوذاً سياسياً وعسكرياً أقوى وأكثر رسوخاً في المحيط الهادئ.
3. تعزيز بكين تحالفاتها وتسريع عملية "ضبط النظام الدولي": في كلمته في افتتاح المؤتمر السنوي لمنتدى بواو لآسيا، في أبريل 2022، كشف الرئيس الصيني عن إطار عمل استراتيجي جديد، أطلق عليه اسم "مبادرة الأمن العالمي"؛ وهي مبادرة تدعم تصور بكين حول النظام العالمي، وتهدف إلى تغيير التصورات العالمية حول أن الولايات المتحدة هي المُزوِّد الأساسي للاستقرار الإقليمي والعالمي.
ويأتي هذا بالتوازي مع تحركات الصين لتعزيز شراكاتها مع البلدان التي تقع خارج المعسكر الغربي، أو ما تُعرف بـ "الجنوب العالمي"؛ إدراكاً منها أن هذه الشراكات ستكون جدار دفاع مُهماً في معركتها المستقبلية مع الغرب. وتمتد هذه الشراكة إلى مرحلة التعاون العسكري، حيث من المُقرر خلال عام 2022 أن تخوض الصين وروسيا وإيران – بجانب 10 دول أخرى- مناورات عسكرية في فنزويلا تُسمى Sniper Frontier.
وعلى صعيد التكتلات الاقتصادية الدولية، بدا أن الصين حريصة على تعزيز وتوسيع تكتل "البريكس"، وتُخطِّط الصين إلى ضم 9 دول إضافية. كما دعا الرئيس شي 13 من قادة العالم للمشاركة في حوار رفيع المستوى حول التنمية العالمية مع دول "البريكس". كذلك تسعى بكين إلى تحويل منظمة شنغهاي للتعاون (SCO)، إلى كتلة قوية يمكنها الاستفادة من العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية العميقة.
وتهدف كل هذه التحركات إلى تثبيت موقع الصين في النظام الدولي "الجديد" الذي تستهدف تأسيسه، بما يمنحها القدرة على التعامل مع ملف تايوان، من دون أن تتوقع حصاراً دولياً أو وضعاً مُشابهاً لما يحدث مع روسيا حالياً.
لذا نجد أن الصين أيضاً تحاول إقناع الدول الغربية، المُصطفة في المعسكر الأمريكي، بأن تايوان مسألة داخلية ويجب أن تظل بعيدة عن المساومات الأمريكية، حيث تُظهر استطلاعات الرأي أن معظم الأوروبيين يُقدِّرون علاقاتهم الاقتصادية مع الصين والولايات المتحدة تقريباً ولا يريدون الوقوع في الوسط. ومن ثم تعمل بكين على تحييد دول أوروبا، ومحاولة دفعها بعيداً عن موقف واشنطن من تايوان.
4. الاعتماد على "حرب المعلومات": في 17 مارس 2022، صدرت نشرة رسمية عن جيش التحرير الشعبي الصيني، تتحدث عن أهمية "حرب المعلومات" حالياً، واصفة إياها بأنها تلعب دوراً مركزياً في الحروب الحديثة، بجانب القوة العسكرية التقليدية؛ وذلك بهدف "إخضاع العدو". وكان "الكتاب الأبيض" للجيش الصيني قد شرح هذه النقطة بأنه يهدف إلى "حرمان العدو من التفوق المعلوماتي، مع تعزيز قدرات المعلومات الخاصة به من خلال بناء نظام قتالي قائم على المعلومات".
ويبدو أن تايوان واحدة من أهم أهداف حرب المعلومات الصينية. ففي 2018، أوصت وحدة الحرب النفسية في الجيش الصيني بالاستثمار في إجراء حملات رقمية لإنشاء رسائل ونشر الدعاية في تايوان؛ بغرض توجيه الرأي العام تجاه المرشحين السياسيين القريبين من بكين. وهو أمر تزداد خطورته مع اقتراب الانتخابات المحلية في تايوان في أواخر عام 2022، والانتخابات الرئاسية المُقبلة في عام 2024.
ويظل أحد أكثر السيناريوهات تهديداً لتايوان، هو الاعتداء الفعلي على خط معلومات رئيسي، فقد تقطع الصين كابل الإنترنت الموجود تحت سطح البحر، والذي يُعد حالياً المصدر الوحيد للجزيرة للوصول إلى الإنترنت؛ مما يُهدِّد معظم أجهزة الاتصالات التايوانية بالإغلاق، ويتسبّب في إحباط أي أنظمة أسلحة ذكية، وبالتالي يجعل جميع أنظمة الدفاع تقريباً غير صالحة للعمل.
كذلك هناك محاولات صينية لبث عدم الثقة في التحالفات الغربية بين الشعب التايواني. وتشير استطلاعات الرأي – بالفعل- إلى أن التايوانيين يشعرون بالقلق من الدعم المحدود الذي قدّمته واشنطن لأوكرانيا، وأن مصيرهم سيكون هو مصير كييف في حال قيام الصين بعمل عسكري ضد الجزيرة.
إجمالاً، قد يبدو بين اللحظة والأخرى أن الصين مُستعدة للدخول في مغامرة عسكرية وشيكة في تايوان، وهو ما تشير إليه تصريحات مسؤوليها الرسميين؛ ولكن الخبرة السياسية لبكين، واستراتيجيتها السياسية والعسكرية لإدارة أزماتها، تُرجح أن الصين مازالت تحاول تجنب "الخيار العسكري"، بالتوازي مع الاستعداد له مستقبلاً، وتهيئة المسرح الدولي، بحيث إذا ما قرّرت الصين التدخل العسكري في تايوان، فلا يكون مصيرها مثل روسيا حالياً، وإنما تكون بكين صاحبة اليد الطولى في هذا المشهد، من دون أن تكون الولايات المتحدة قادرة على إيذائها أو حصارها.