• اخر تحديث : 2024-11-22 10:05
news-details
أبحاث

جولة "لافروف" إلى إفريقيا: أبعادها الدولية وحساباتها الجيوسياسية


أجرى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، جولة تاريخية إلى أربع دول إفريقية، نهاية يوليو/تموز الماضي، في خضم حرب روسية-أوكرانية دخلت شهرها السادس، وفجَّرت أزمات إنسانية وأخرى اقتصادية عالمية، لا تزال تأثيراتها السلبية تتمدد من دولة إفريقية إلى أخرى، نتيجة تأثيراتها الحادة على الأزمة الغذائية العالمية الناجمة عن توقف تصدير القمح من أوكرانيا؛ ما دفع موسكو إلى طمأنة حلفائها في إفريقيا وكردٍّ مضاد على الدعاية الغربية بأن روسيا وراء استفحال الأزمة الغذائية العالمية، لكن زيارة لافروف التاريخية إلى عواصم إفريقية والتي تعد هي الأولى من نوعها منذ عقود في بعض العواصم، تأتي في إطار تعزيز حضور الكرملين في إفريقيا كقارة يتنافس فيها الكبار بشكل منقطع النظير، بين الكتلة الشرقية (الصين وروسيا) والدول الغربية، خاصة فرنسا وأميركا، اللتين تحاولان صدَّ تسلل الدُّب الروسي من ورائهما إلى عواصم القارة، واحدة بعد الأخرى.

تتناول هذه الورقة أبعاد زيارة لافروف، إلى مصر والكونغو وأوغندا وإثيوبيا، إلى جانب رصد مكامن بقاء موسكو في حاضناتها الإفريقية، ومستقبل تأثيرها في رسم معالم سياسات الدول الإفريقية، واستشراف مستقبل وجودها في القارة التي تشهد تكالبًا دوليًّا يكاد يفجِّر حربًا باردة جديدة بين الغرب من جهة وروسيا والصين من جهة ثانية.

العلاقات الروسية-الإفريقية: من الهامش إلى الواجهة

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي مطلع التسعينات من القرن الماضي، ظلت العلاقات الروسية-الإفريقية على مدى عقود محكومة بالهيمنة الغربية وسطوة الولايات المتحدة الأميركية التي تؤثر على معظم قرارات الدول الإفريقية تجاه إعادة تطبيع علاقاتها مع روسيا والصين؛ ما جعل روابط إفريقيا بروسيا تظل هشة بفعل تداعيات الحرب الباردة في ثمانينات القرن الماضي، إلى جانب بقاء القطبية الأحادية في النظام العالمي وتأثيراتها في رسم معالم السياسة الدولية، ضمن تكتلات جديدة في إفريقيا من جهة والغرب وأميركا من جهة ثانية.

وفي الفترة التي أعقبت سقوط الاتحاد السوفيتي، توسعت رقعة الهيمنة الغربية في إفريقيا، بما في ذلك التوسع تدريجيًّا نحو الدول التي كانت لها علاقة إستراتيجية ووثيقة مع السوفيت، كما أن الانقلابات العسكرية كانت الوسيلة النموذجية لدى الغرب لإسقاط باقي حصون حلفاء السوفيت في القارة السمراء؛ ما جعل الدول الإفريقية تدور في فلك الغرب، وشرعنت تبعية مطلقة للغرب وخاصة أميركا وفرنسا، وهو ما يجعل التموضع الروسي راهنًا في إفريقيا وحتى عالميًّا يواجه صعوبات متعددة من حيث إن نفوذ روسيا لا ينبع من استثمارات ضخمة في إفريقيا وإنما من كونه محصورًا في مجالي الأمن الغذائي (الحبوب) وتجارة الأسلحة (الكلاشنكوف) كما أن حجم تجارة موسكو في القارة لا يتعدى سنويًّا عتبة 20 مليار دولار أميركي بما يعادل حوالي عُشر حجم الاستثمارات الصينية في القارة الإفريقية (250 مليار دولار في عام 2021، مقابل 64.33 مليار دولار بين الولايات المتحدة وإفريقيا).

وعلى الرغم من الهجمة الإعلامية من الغرب وترويج خطابات التحريض ضد موسكو، خاصة من فرنسا والولايات المتحدة الأميركية، وهي الهجمة التي تعززت مع شنِّ روسيا هجومًا عسكريًّا على أوكرانيا في فبراير/شباط الماضي، وهي الأزمة التي عكست تباينًا حادًّا بين الغرب وروسيا، حول مستقبل وجود القطبية الأحادية في الساحة الدولية، وبروز بيجين وموسكو قوتين عظميين تشكِّلان تحالفًا إستراتيجيًّا لمواجهة الغرب في عالم متغير وحافل بتحديات جديدة، كما أن محاولة الغرب لمحاصرة روسيا في إفريقيا عقب امتناع 18 دولة إفريقية عن التصويت لصالح قرار يدين روسيا بعد غزوها أوكرانيا، هو استدراك غربي مفاده أن روسيا لديها تأثير متزايد في عواصم دولة عدة في إفريقيا.

تحاول روسيا منذ عام 2010 التموضع بشكل مختلف في الساحة الدولية واستعادة تأثيرها الجيوسياسي والعسكري ونفوذها في العالم، وقد أثبتت هذه الفرضية فعلًا بعد غزوها جزيرة القرم عام 2014، ومَثَّل ضمُّها بالنسبة لموسكو، منعطفًا في الانتقال خطوة إلى الأمام بسياستها الخارجية نحو إثبات حضورها كأحد اللاعبين الأساسيين على الساحة الدولية، تلا ذلك تدخلها العسكري في سوريا، 2015، الذي غيَّر بشكل راديكالي مسار الحرب في البلاد وأبرز قوة روسيا في الشرق الأوسط. كما أن غزوها أوكرانيا يعزز فرضية أن روسيا لم تعد متفرجة للعبة الدولية لمحاصرتها واستهدافها بل سعت للظهور كقوة عالمية في طريقها نحو تبديد القطبية الأحادية الناظمة للسياسة الدولية، وهو ما دفع موسكو للبحث عن حلفاء جدد لها في إفريقيا بعد فرض عقوبات اقتصادية صارمة عليها من قبل الغرب وأميركا بغية عزلها ماليًّا ودوليًّا، ونتيجة تلافي تلك العقوبات توسِّع روسيا عمقها الإستراتيجي نحو إفريقيا على غرار الصين وتركيا، ويتمركز النفوذ الروسي حاليًّا في إفريقيا الوسطى والسودان وجزر القمر وجنوب السودان، وتتجه أنظارها نحو تعميق علاقاتها مع مصر وأوغندا وإثيوبيا، وهذا هو الغرض الرئيس لزيارة سيرغي لافروف لأربع دول إفريقية ذات ثقل سياسي في المحافل الدولية والإفريقية، وهي زيارة تتزامن مع أزمة الغذاء العالمية التي تواجهها دول إفريقيا على نحو خاص، فما أهداف زيارة وزير الخارجية الروسي، وما أبعادها الجيوسياسية؟

زيارة "سيرغي لافروف" إلى إفريقيا: المحطات والأهداف

لمواجهة الضغوط الغربية ضد الدول الإفريقية من أجل العدول عن مواقفها تجاه حرب روسيا على أوكرانيا وإخراجها من دبلوماسية "الحياد" والاصطفاف وراء الغرب في مواجهة الخصم الرُّوسي، بدأ وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، لأول مرة بعد الحرب الروسية على أوكرانيا زيارة نحو إفريقيا، حملت أهدافًا وأبعادًا متعددة، ولعل من أبرزها طمأنة القادة الأفارقة في ما يتعلق بأزمة الحبوب العالمية، وخلق شراكة أكثر مصداقية وحيوية وذات مصالح مشتركة متبادلة مع الدول الإفريقية، فما أهمية الدول الإفريقية التي زارها لافروف بالنسبة لموسكو؟

أولًا: مصر

لم يكن اختيار مصر محطة أولية لجولة وزير الخارجية الرُّوسي عبثًا، بل جاءت لعدة اعتبارات، أولها أن العلاقات الروسية-المصرية قديمة، وتمتاز بالشراكة الإستراتيجية منذ دعم روسيا للقاهرة منذ الخمسينات من القرن الماضي، وأحداث عام 1967 و1976، كما أن العلاقات بين البلدين شهدت تطورًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة في مجال التعاون الاقتصادي والعسكري، وتعززت مسيرة التعاون الثنائي بين الجانبين المتمثلة في المشروعات الروسية في مصر في إطار العلاقات المصرية-الروسية، وفي مقدمتها إنشاء محطة الضبعة للطاقة النووية (بتكلفة تقدر بـ25 مليار دولار أميركي) والمنطقة الصناعية الروسية في محور قناة السويس وغيرها من المشروعات الاستثمارية والاقتصادية بين البلدين في كافة القطاعات.

وتناولت لقاءات لافروف مع الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، ملفات عدة، اقتصادية وأمنية وعسكرية، لكن التأكيد على أن مصر تعزف لحن الحياد في ما يخص الحرب الرُّوسية-الأوكرانية والتمسك بموقفها المحايد كان الغرض الرئيس من زيارة وزير الخارجية الروسي، وجاء التأكيد المصري على لسان الرئيس، عبد الفتاح السيسي، بأن القاهرة ترى أن الحوار بين روسيا وأوكرانيا هو السبيل الوحيد لإسكات البنادق ولجم فوهات الدبابات، دون الانخراط في أتون صراع العمالقة بين الشرق والغرب، وهو موقف تشيد به موسكو، لكن محاولات الضغط من القوى الغربية لثني القاهرة عن موقفها لا تزال تُطبخ في دهاليز السياسات الغربية المضادة للتمدد الروسي نحو إفريقيا.

كما أن وجود مواقف متباينة في الدول العربية تجاه الحرب الروسية-الأوكرانية وعدم وجود إجماع عربي على إدانة الغزو الروسي لكييف داخل المظلة العربية أو خارجها، مهَّد أيضًا لأن تعيد موسكو صياغة توجهها الخارجي نحو المنطقة العربية، وتحط بأنظارها على مصر كبوابة عبور نحو استمالة المواقف العربية لصالحها، إلى جانب تكثيف تعاونها مع الدول الإفريقية، وحشد التأييد لسياساتها عبر المحافل الدولية، وكانت الحرب الرُّوسية-الأوكرانية حاضرة في ملفات ومباحثات الجانبين، المصري والروسي، باعتبارها حاليًّا المدخل الوحيد لدى الدول الغربية لإثارة مواقف رافضة لموسكو وخلق اتجاهات إفريقية مضادة ضد النفوذ الروسي المتصاعد عالميًّا في السنوات الأخيرة.

ثانيًا: الكونغو

كانت برازفيل الوجهة الثانية لوزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، وأجرى مباحثات مع رئيس الكونغو، دينيس ساسو نجيسو، ووزير الخارجية، جان كلود جاكوسو، وأبرز اللقاء اهتمامًا متبادلًا لدى البلدين من خلال تطوير التعاون في المجال العسكري والتقني. وقال لافروف خلال مؤتمر صحفي مع نظيره الكونغولي: "لدينا آفاق كبيرة للتعاون الاقتصادي، كما أن هناك عدة شركات روسية تعمل في جمهورية الكونغو الآن، واتفقنا أيضًا على تطوير التعاون في المجال الطبي ومكافحة انتشار الأمراض المعدية الخطرة". وأكد لافروف دعم روسيا للكونغو في مكافحة مظاهر التمييز في إطار الأمم المتحدة، مرحِّبًا بدور جمهورية الكونغو في تسوية الأزمات في القارة الإفريقية، وعقد مؤتمر يجمع كافة أطراف النزاع الليبي.

من جانبه، أكد وزير الخارجية الكونغولي، أن زيارة سيرجي لافروف إلى جمهورية الكونغو حدث كبير وتاريخي، مشيرًا إلى أن موقف دولته لم يتغير جرَّاء الأزمة في العلاقات بين روسيا وأوكرانيا، لافتًا إلى أن جمهورية الكونغو كانت تريد أن توصل لكلا الطرفين، ضرورة وجود احترام متبادل وحل هذه القضية على أساس المفاوضات المشتركة.

وتأتي زيارة لافروف أيضًا للتأكيد على العلاقات الروسية-الكونغولية؛ ما يعزز مكانة موسكو في الكونغو وجمهورية إفريقيا الوسطى، وذلك من أجل سد احتياجاتها في مجال التعدين للحصول على مواد أولية أساسية تدخل في صناعة العديد من المنتجات الروسية المتنوعة؛ حيث تعمل الشركات الرُّوسية على توسيع نطاق أنشطتها في تنقيب الموارد مثل الكولتان والكوبالت والذهب والماس في إفريقيا الوسطى.

ثالثًا: أوغندا

حطَّ سيرغي لافروف رحاله في كمبالا لأول مرة منذ تعيينه وزيرًا في الخارجية الرُّوسية عام 2004، فهو أول مسؤول روسي رفيع المستوى يزور أوغندًا منذ عام 1960، وتأتي هذه الزيارة بعد أن امتنعت كمبالا عن التصويت لصالح قرار يدين روسيا بعد غزوها لأوكرانيا في فبراير/شباط الماضي، إلى جانب 17 دولة إفريقية لم تشاطر المنظومة الغربية قرار شجب التدخل العسكري الروسي في كييف.

وأجرى لافروف لقاء مع الرئيس الأوغندي، يوري موسيفيني، الذي يحكم البلاد 36 عامًا، وعقب المباحثات التي جرت بين الجانبين، صرَّح الرئيس الأوغندي في المؤتمر الصحفي الذي جمعه مع لافروف، "نريد أن نجعل أعداءنا لا يقاتلون أعداء الآخرين، وليس من وظيفتي أن أكون مؤيدًا للغرب أو مؤيدًا للشرق"، خطاب موسيفيني يشي بمدى قرب الرئيس الأوغندي من المعسكر الروسي، وذلك باعتبارها هي والصين دولًا لا تتدخل في الشؤون الداخلية للدول الإفريقية، ولا تسعى لتقرير مصيرها، بل تركز فقط على المبادلات التجارية والاقتصادية واحترام سيادة الدول بما يضمن مصالح الدول مع القوى الصاعدة عالميًّا.

وأكد موسيفيني أن العلاقات الروسية-الأوغندية تاريخية، وأن القوات الجوية لدى بلاده تدربت على يد نخبة عسكرية تشيكوسلوفاكية والتي كانت ضمن المعسكر الشرقي وحلف وارسو، وهو التعاون الأمني بين كمبالا والسوفيت لتعزيز قدرات القوات الأوغندية، مشيدًا بالدور الذي لعبه السوفيت في النضال الإفريقي ضد الاستعمار الغربي في فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي.

رابعًا: إثيوبيا

مع وصول آبي أحمد إلى رئاسة الحكومة في إثيوبيا، في فبراير/شباط عام 2018، وتقلص مستوى مشاركة الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي في النظام السياسي في أديس أبابا، أخذت العلاقات الإثيوبية الغربية انعطافة جديدة، بتراجع مكانة طبقة تيغراي داخل المكون السياسي، وأخذت العلاقات الأميركية-الإثيوبية بعدًا دراماتيكيًّا محكومًا بالتوترات مع تفجر أزمات إثيوبيا الداخلية، بما في ذلك حرب تيغراي عام 2020 والنزاع الثلاثي بين السودان ومصر وإثيوبيا على سد النهضة، وهي الأزمات التي دفعت أديس أبابا لمراجعة علاقاتها مع واشنطن التي لم ترَ نظام آبي أحمد خيارًا إستراتيجيًّا أكثر قربًا وتحالفًا من الجبهة التي مُرِّغ أنفها في التراب بفعل ثورات الجياع التي قلبت نظام الحكم رأسًا على عقب في إثيوبيا والتي اندلعت عام 2016، واستمرت تدريجيًّا حتى أطاحت بنظام الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي TPLF عام 2018.

وجاءت زيارة سيرغي لافروف في ظل توتر إثيوبي-أميركي متصاعد لتجسد موسكو حضورها في منطقة القرن الإفريقي من خلال الاستفادة من مكانة إثيوبيا ونفوذها في منطقة القرن الإفريقي، وتريد موسكو أن تنفذ مشروع طاقة نووية متجددة في إثيوبيا على غرار مصر ونيجيريا، وهي مشاريع ستسهم في التطور الاقتصادي لإثيوبيا التي تحتل المرتبة التاسعة عالميًّا من حيث التعداد السكاني بواقع أكثر من 115 مليون نسمة، كما أن جنوح أديس أبابا إلى الصين يأتي في خضم توجه إثيوبي خارجي للابتعاد عن الغرب تدريجيًّا والتوجه نحو كتلة شرقية صاعدة في النظام العالمي.

اللافت في زيارة وزير خارجية روسيا إلى إثيوبيا كان خطابه الذي ألقاه في سفارة بلاده في أديس أبابا بحضور مجموعة من سفراء دول الاتحاد الإفريقي، وهو خطاب أشبه بالرد المعاكس لخطاب قيادات الدول الغربية الموجه ضد روسيا واتهامها بالتسبب في أزمة غذاء عالمية، فقد نفى أن تكون أزمة الغذاء العالمية ناجمة عن الحرب الرُّوسية ضد أوكرانيا، مبينًا أن السبب يعود للعقوبات الغربية التي أعاقت توافر الغذاء في الأسواق، والتي حظرت دخول السفن الرُّوسية والأجنبية إلى موانئ البحر المتوسط​.

لا شك أن زيارة لافروف إلى أديس أبابا تحمل أبعادًا مختلفة فمن وجهة نظر الباحثين الإثيوبيين، فإن أديس أبابا لم تعد دولة تخضع للتبعية الأميركية المطلقة، على أساس أنها شرطي المنطقة بالنسبة لواشنطن، وأن الزمن الجميل الذي كان يربطها بجبهة "تيغراي" ولَّى من غير رجعة، وفي المقابل، تتجه أكثر نحو الصين وروسيا، لكن مدى قدرة أديس أبابا على الموازنة بين القوى الصاعدة التي تريد كسب ودها يثير علامات استفهام كبيرة في المدى القريب والبعيد.

أهداف زيارة لافروف إلى إفريقيا

تتلخص أهداف زيارة سيرغي لافروف إلى أربع دول إفريقية في المحاور التالية:

- إظهار أن روسيا ليست معزولة دوليًّا بفعل هجومها العسكري على أوكرانيا، وهي رسالة اطمئنان موجهة أولًا للداخل الروسي، بأن موسكو تمارس سياساتها الخارجية وفق ما تقتضيه مصالحها في إفريقيا وفي منطقة الشرق الأوسط، وطمأنة حلفائها في عمقها الإستراتيجي بأن أزمة الغذاء التي تواجهها الدول الإفريقية نتيجة نقص إمدادات القمح الروسي والأوكراني مجرد سحابة صيف عابرة.

- إبراز مكانة روسيا في الساحة الدولية وأنها لم تعد دولة تعاني من ثقل انهيار الاتحاد السوفيتي.

- إظهار أن روسيا صديق وشريك إستراتيجي مع دول إفريقيا وأن علاقتهما ذات منفعة متبادلة وليست نابعة من إرث استعماري برسم نكبات أليمة.

- دعم روسيا مقترح منح مقعد دائم لدول إفريقيا في الأمم المتحدة (مجلس الأمن) ما يمنحها نفوذًا أكبر في المنظمة الأممية.

أما بالنسبة للدول الإفريقية، فإن زيارة لافروف تمثل أهمية ذات قصوى ويمكن حصرها في النقاط التالية:

- الاستفادة من الاستثمارات الرُّوسية تجاه دول إفريقيا وعدم البقاء في أحضان الغرب وأميركا للفترة القادمة التي تحفل بتقلبات عالمية جيوسياسية.

- التأكيد على عدم الوقوع في فخ الصراعات بين القوى العظمى شرقًا وغربًا، والبقاء في منطقة الحياد (المسار المستقل) وفق تصريحات لافروف بعد انتهاء اجتماعاته مع قيادات الدول الإفريقية.

- استشعار لدى قيادات دول إفريقية كثيرة أن زمن الإمبريالية التي حكمت وهيمنت على مجريات الأوضاع في إفريقيا حان وقتها أن تأفل، ومن هذا المنطلق لابد من البحث عن حلفاء إستراتيجيين وشركاء دوليين في المعادلة العالمية لهم القدرة أكثر على الاستجابة لمتطلبات إفريقيا من جلب الاستثمارات الضخمة، ودون التدخل في شؤونهم الداخلية سواء من خلال ممارسة تدخلات عسكرية للإطاحة بالأنظمة الإفريقية، وخاصة تلك التي تقبع على الحكم لمدى عقود ولم تستجب بعد لشروط الديمقراطية الغربية أو عبر الضغط على الداخل وإثارة بلبلة تنتهي بإسقاط النظام من الداخل بثورات الجياع والناقمين على الديكتاتوريين الأفارقة.

المقاربات الروسية والغربية إزاء إفريقيا

تختلف نظرة روسيا الليبرالية وسياستها الخارجية إزاء إفريقيا عن تلك التي تتبناها الدول الغربية تجاه القارة، باعتبارها امتدادًا طبيعيًّا للدول الغربية مثل فرنسا وبريطانيا بحكم الإرث الاستعماري التقليدي، وليس من منظور إستراتيجي وفي عالم متغير تحدده تقلبات جديدة.

لا شك أن النظام الروسي الذي نهض مع وصول بوتين إلى سدة الحكم عام 1999، يرى أن موسكو باتت قوة عظمى جديدة في إفريقيا، وأن القطبية الغربية لم تعد لها ذات ثقل اقتصادي في القارة بالقدر الذي تلعبه روسيا الليبرالية، وأن العالم يعيش على إثر موجات الصدمة وارتداداتها العسكرية التي أحدثتها القطبية الأحادية الغربية في الساحة الدولية، ووصف الرئيس بوتين النظام الدولي الراهن بأنه أحادي القطب ولا يعكس توازن القوة الحقيقي في العالم، وأن العمل أحادي الجانب لم يعد مقبولًا، وأن الاستخدام المفرط للقوة غير خاضع للسيطرة. وبهذا، فإن الولايات المتحدة قد تجاوزت حدودها القومية، ونشر الوزير لافروف مقالًا، عام 2016، تناول فيه محاولة الولايات المتحدة والحلف الغربي المحافظة على الهيمنة العالمية بكافة الطرق المتاحة، والتي تتمثل في فرض العقوبات الاقتصادية والتدخل العسكري المباشر وشن الحرب السيبرانية والمعلوماتية، والتغيير غير الدستوري للحكومات.

وفي هذا الإطار، فإن المقاربة الروسية تجاه دول إفريقيا هي أنها لا تحمل إرثًا استعماريًّا، ولهذا فإن سياسة النأي بالنفس عن الشؤون الداخلية للدول الإفريقية، هي إحدى أهم ركائز السياسة الخارجية تجاه إفريقيا، لضمان مصالحها المتعددة الاقتصادية والأمنية والدبلوماسية والثقافية.

أما المقاربة الغربية إزاء إفريقيا فهي مختلفة تمامًا بحكم العلاقات التاريخية مع قادة الدول الإفريقية، باعتبار أن روسيا لا تمتلك أدوات اقتصادية كبيرة للاستثمار في إفريقيا، ويمثل استثمارها في إفريقيا واحدًا في المئة مقارنة بالاستثمارات الغربية، والاتفاقيات المشتركة مع دول إفريقيا؛ فحجم اقتصادها يوازي اقتصاد إسبانيا، ولا تقدم استثمارات أو تجارة كبيرة للقارة (بخلاف الحبوب والأسلحة)، وهي منفصلة بشكل متزايد عن النظام المالي الدولي نتيجة فرض عقوبات مالية عليها، وإبعادها عن نظام السويفت العالمي الذي أُدرجت فيه عام 1989، كسلاح مالي لمعاقبتها بفرض عزلة مالية عليها، وتشكل معاملاتها اليومية 1.5 في المئة من إجمالي المعاملات بهذا النظام.

والمقاربة الغربية الأخرى تكمن في سعيها الدؤوب إلى تغيير الأنظمة الإفريقية ذات النزعة السلطوية إلى أنظمة ديمقراطية تضمن حماية معايير حقوق الإنسان التي تكفلها المواثيق الدولية، وهو ما يحتم عليها التدخل دبلوماسيًّا أو حتى عسكريًّا لتحقيق شروط الديمقراطية بكبح جماح القادة الأفارقة المستبدين وممارسة الضغط عليهم للاستجابة لمتطلبات شعوبهم. بينما في المقاربة الروسية إزاء القارة السمراء، فإنها تغرد عكس ذلك، بالاقتراب والشراكة مع النخبة الحاكمة التي تستأثر بالامتيازات الخاصة، وأن روسيا يهمها مصالحها فقط عبر قيادات إفريقية تدوس على حقوق شعوبها بدعم روسي؛ ما يعني أن حدود شراكتها تبدأ وتنتهي مع النخبة الحاكمة التي تستأثر وحدها بالنفوذ والمكاسب دون أن ترث المجتمعات الإفريقية من ثروات بلادها شيئًا، سواء القمع والقتل والتصفيات المقصودة بشتى أنواعها.

لكن مقاربة روسيا هي جيوسياسية أساسًا ثم اقتصادية؛ إذ تحرص على نسج علاقات مع القوى الإفريقية التي في خلاف مع الغرب. فعلى سبيل المثال، اقتربت روسيا من الرئيس الزيمبابوي "روبرت موغابي"، في الوقت الذي تخضع فيه زيمبابوي لعقوبات اقتصادية من الغرب بعد مزاعم أن نظام "موغابي" مسؤول عن أعمال عنف وتعذيب لخصومه. فوقفت روسيا -إلى جانب الصين- مع زيمبابوي، واستخدمتا حق النقض ضد قرار مجلس الأمن بشأن حظر الأسلحة، عام 2008، منتقدتين العقوبات الغربية تجاه زيمبابوي. ولاحقًا، تطورت العلاقات إلى اقتصادية؛ حيث استأنفت روسيا تصدير عدد من المواد والسلع الجاهزة إلى البلاد، من الخشب والأسمدة إلى المواد المطبوعة وعربات السكك الحديدية والإلكترونيات. وتستورد روسيا من زيمبابوي البن والتبغ. كما زاحم الروس الشركات البريطانية -البلد الاستعماري السابق- في مشاريع تعدين الماس والذهب في البلاد؛ حيث تقاسم الشركات الروسية زيمبابوي، مشروعًا مشتركًا باسم (Darwendale) لتعدين وصهر أحد أكبر رواسب معادن البلاتين في العالم.

وبين الأخذ والشد تبقى دول إفريقيا تحت تأثير الضغوط الغربية وتهديداتها المحتملة بإذكاء الانقلابات العسكرية والسياسية التي ترافقها الفوضى الشعبية المسبَّبة بالهزات المعيشية العنيفة في البلدان الإفريقية التي تفك شفرة التبعية مع الغرب من جهة، وتنامي نفوذ كل من روسيا والصين وتركيا في المنشأ الإفريقي، سيما الدول التي تحظى بموقع إستراتيجي فريد أو تمتاز بحيازة ثروات هائلة في باطنها مثل المعادن والنفط من جهة ثانية. وطالما بقيت المقاربات الغربية والروسية مختلفة ومتباين إزاء إفريقيا، فإن الخيارات محدودة لدى كثير من الزعماء الأفارقة بين فك ارتباطهم مع قوى صاعدة تضمن لهم حيوية واستقلالية أكثر أو الانسلاخ من تحت عباءة القوة المهيمنة مثل فرنسا وأميركا اللتين تتمتعان بنفوذ عسكري وسياسي أكبر في إفريقيا منذ عقود.

مستقبل العلاقات الإفريقية-الروسية في ظل المتغيرات الدولية

يقول الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين: "إن تقوية العلاقات مع البلدان الإفريقية تعد إحدى أولويات السياسة الخارجية الروسية"(19)، جاء ذلك في خطابه في القمة الرُّوسية المنعقدة في سوتشي عام 2019 بحضور عدد من قيادات وممثلي الدول الإفريقية، وهي أول قمة إفريقية-روسية أبرزت اهتمام موسكو بالقارة بعد حقبة طويلة غابت خلالها عن المسرح الإفريقي، لكن مع عودة الكرملين إلى قلب إفريقيا ببطء يُلاحَظ أن حربًا باردة جديدة ستكشر عن أنيابها في الساحة الدولية، وخاصة في إفريقيا، التي مثَّلت ساحة للحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي وحلف شمال الأطلس (ناتو).

ويتحدد مستقبل التموضع الروسي في إفريقيا وأدوات تأثير الكرملين في الساحة الإفريقية من خلال تعزيز علاقاتها مع دول القارة، على الرغم من المنافسة الصينية البارزة في حواضر إفريقيا، ويمكن حصر محددات وآليات تأثير موسكو مستقبلًا في القارة في الجوانب التالية:

أولًا: تجارة الأسلحة

إذا كان التنين الصيني دخل عوالم إفريقيا من باب بضائعها التجارية الرخيصة واستثماراتها الضخمة في إفريقيا، فإن تجارة السلاح بالنسبة للكرملين، هي السحر الذي تجذب من خلاله الدول الإفريقية، فباتت تجارة الأسلحة الروسية تلقى رواجًا كبيرًا في القارة، أكثر من القوى المهيمنة؛ إذ تمكنت روسيا من أن تصبح أكبر مصدِّر للأسلحة إلى إفريقيا لتمثل نحو 49 في المئة من إجمالي صادراتها إلى القارة السمراء، كما تمثل حصتها نحو 37.6 في المئة من حصة سوق السلاح الإفريقية، تليها الولايات المتحدة 16 في المئة، وفرنسا 14 في المئة، والصين 9 في المئة، هذا بالإضافة إلى العلاقات الدفاعية التي تنمو بشكل مستمر بين إفريقيا وروسيا، فمنذ عام 2014، وقَّعت موسكو اتفاقيات تعاون عسكري مع حوالي 19 دولة إفريقية، وأبرمت روسيا اتفاقات مع أنغولا ونيجيريا والسودان ومالي وبوركينا فاسو وغينيا الاستوائية خلال عامي 2017 و2018. وتشمل هذه الاتفاقيات تصدير طائرات مقاتلة، وطائرات هليوكوبتر للنقل والقتال، وصواريخ مضادة للدبابات، ومحركات للطائرات المقاتلة.

وتتلخص أسباب الإقبال على الأسلحة الروسية من قبل دول القارة في البنود التالية:

1. تمتاز الأسلحة الروسية بأنها تناسب ميزانيات الدول الإفريقية، ولا تكلفها كثيرًا.

2. لا تلزم موسكو الدول الإفريقية، التي ترتبط معها باتفاقيات أمنية وتقتات بأسلحتها، بحماية حقوق الإنسان، ولا تتدخل في شؤونها الداخلية لتحقيق شروط الانتقال الديمقراطي في القارة؛ على سبيل المثال، في عام 2014، اتُّهم جنود حكوميون في نيجيريا بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان ضد المشتبه بهم في قتال البلاد ضد بوكو حرام، بعد ذلك، ألغت الولايات المتحدة شحنة من طائرات الهليوكوبتر الهجومية، على الرغم من توقيع الصفقة بالفعل. ولكن في نفس العام، قدمت نيجيريا طلبًا لروسيا وتلقت ست مروحيات قتالية من طراز Mi-35M منها. سيناريو مشابه حدث في مصر أيضًا بعد الانقلاب العسكري عام 2013؛ إذ بدأت الولايات المتحدة في قطع المساعدات العسكرية وإمدادات الأسلحة للبلاد. هذا ترك لروسيا مع فرنسا (مصدِّر رئيسي آخر للأسلحة) فرصة مفتوحة؛ ما دفعها لتكثيف نقل الأسلحة بسرعة إلى مصر، وقد شكَّلت صادرات روسيا ما نسبته 31% من واردات مصر من الأسلحة ما بين عامي 2009 و2018.

3. مطابقة السلاح الروسي المتوافر حاليًّا للأسلحة التي كان يزود بها الاتحاد السوفيتي دول القارة، لذا فإن إصلاح عيوبها سهل ولا يتطلب تقنيات عالية التكلفة.

ثانيًا: دبلوماسية المرتزقة (فاغنر)

تعد مجموعة فاغنر المنتشرة في دولة إفريقية عدة إحدى أدوات تأثير موسكو في حاضناتها في القارة، وتتعدد مهام المجموعة متمثلة في المجال العسكري الأمني المرتبط بالمشاركة في القتال وتدريب القوات وحماية المسؤولين، ويتركز وجودها في نحو عشر دول إفريقية، وهي: السودان وإفريقيا الوسطى وليبيا وزيمبابوي وأنغولا ومدغشقر وغينيا وغينيا بيساو وموزمبيق والكونغو الديمقراطية).

لكن انتشار فاغنر ظهر في الخارطة الإفريقية إلى العلن في الحرب التي شهدتها ليبيا بين اللواء خليفة حفتر والجيش الليبي، حيث كانت المصالح الرُّوسية تفرض عليها التدخل عسكريًّا لحسم المعركة لصالح حلفائها أو ممارسة أدوات دبلوماسية بديلة لتقريب المواقف، بغية حماية مصالحها؛ إذ تجاوز الاستثمارات الروسية في ليبيا خلال فترة عهد معمر القذافي سقف 15 مليار دولار، وسعت لإتمام صفقة التسلح البالغ قدرها 4 مليارات دولار في ظل حالة الحظر المفروضة على ليبيا من قبل الأمم المتحدة. إلا أن مساعيها فشلت بعد هزيمة خليفة حفتر في المعارك الدموية في طرابلس، عام 2020. تنتشر مجموعة فاغنر بشكل ملحوظ في كل من جمهورية إفريقيا الوسطى والسودان، بهدف تهريب الذهب والتنقيب عن المعادن، للظفر بنسبة محددة من الإيرادات التي تجنيها تلك الدول.

ثالثًا: مشاريع الطاقة والتعدي

جاء الاهتمام بالطاقة في إفريقيا في سانحتين تاريخيتين، الأولى: بُعَيْد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 بين الدول العربية وإسرائيل، عندما أعلنت ست دول عربية أعضاء في منظمة أوبك عن حظر الصادرات إلى الدول الداعمة لإسرائيل، ولاسيما الولايات المتحدة. وقتها تضاعف سعر النفط أربع مرات إلى 11.65 دولارًا للبرميل؛ والثانية في مارس/آذار 2014 بعيد ضم روسيا الاتحادية لشبه جزيرة القرم الأوكرانية إلى أراضيها. ففي الحالية الثانية أدركت الدول الغربية مدى خطورة اعتماد القارة الأوروبية على الغاز الروسي، وشرعت منذ ثماني سنوات في البحث عن بدائل، سرَّعت من وتيرتها الحرب الروسية مؤخرًا على أوكرانيا.

ومنذ بداية الألفية الثانية، بدأت الشركات الروسية في مجال الطاقة والتعدين تدخل منافسة شرسة مع مثيلاتها الأوروبية والصينية والأميركية في إفريقيا، ويتركز جُل أعمال تلك الشركات الرُّوسية في شمال وغرب إفريقيا، بحثًا عن صفقات تجارية، وتستثمر شركة "غازبروم" نحو 500 مليون دولار في مشاريعها الطاقوية في إفريقيا، من بينها إنتاج الغاز في ناميبيا، كما تنفذ شركة "لوك أويل" مشاريع إنتاج النفط في دول غرب إفريقيا، وخاصة في نيجيريا والكاميرون ودول خليج غينيا. ويقدر الحجم الإجمالي لاستثماراتها بأكثر من مليار دولار.

أما في مجال الطاقة النووية فينتشر العديد من الشركات الرُّوسية المملوكة للدولة مثل غاز بروم ولوك أويل وروستغ وروساتوم في الدول الإفريقية، وتتركز معظم مشاريع الطاقة لتلك الشركات في كل من الجزائر وأنغولا ومصر ونيجيريا وأوغندا. وعلى سبيل المثال، وقَّعت روساتوم مذكرات واتفاقيات لتطوير الطاقة النووية مع 18 دولة إفريقية، بما في ذلك مصر وغانا وكينيا وزامبيا ورواندا ونيجيريا وإثيوبيا، ووافقت هذه الشركة أيضًا على بناء أربعة مفاعلات نووية من نوع VVER بقوة 1200 ميجاوات في مصر، بقيمة تشييد وصيانة تبلغ 60 مليار دولار بقرض روسي يصل إلى 25 مليار دولار، وبفائدة سنوية تبلغ 3 في المئة من حجم الإيرادات.

أما في مجال التعدين، فتنشط الشركات الرُّوسية في التنقيب عن المعادن، نظرًا لحاجتها الماسَّة إلى الحصول على بعض المعادن الأساسية في تطوير صناعاتها، خاصة المنغنيز والبوكسيت والكروم، ففي غينيا تقوم شركة "روسال" الروسية لإنتاج الألمنيوم باستخراج البوكسيت من مكمن "فريغيا"، بالإضافة إلى استثمار مكمن "ديان ديان". وقد بلغ حجم مشاريع استثماراتها أكثر من 300 مليون دولار، كما تقوم شركة "رينوفا" باستخراج المعادن في جنوب إفريقيا والغابون وموزمبيق، ويبلغ الحجم الإجمالي لاستثماراتها أكثر من مليار دولار، وتمتلك شركة "روسال" حصة الـ85 بالمئة في شركة "ألسكون" لإنتاج الألومنيوم في نيجيريا، كما تستخرج شركة "نوردغولد" الذهب في بوركينا فاسو وغينيا.

ورغم التمدد الروسي في إفريقيا إلا أن هذا الحضور البارز لا يمر من دون تحديات كثيرة، فكلما توسع نفوذها العسكري والتجاري مع دول إفريقيا، ازدادت التحديات كالفطر، فعدم تحديد إطار زمني لتنفيذ بعض المشاريع خاصة مشاريع الطاقة النووية، سيحد من قدرات موسكو على التوسع مستقبلًا في القارة، كما أن تأثيرات غزوها لأوكرانيا ستفرض عليها قيودًا اقتصادية أكثر وتكبل حرية تحركاتها واستثمارها في إفريقيا، كما تؤثر سلبًا على إمكانية بقاء مجموعة فاغنر لمدة أطول في القارة إذا لم تُحسم المعركة الروسية المحتدمة مع الغرب في أوكرانيا سريعًا، فالنزيف الاقتصادي والعسكري لكلفة الحرب مع كييف التي دخلت شهرها السادس، ستكون باهظة بالنسبة للكرملين، هذا إلى جانب التحديات الأخرى التي تواجهها إدارة بوتين من الدول الغربية، ذات السطوة والنفوذ التاريخي في إفريقيا، فضلًا عن الاستثمارات الصينية الضخمة، والتي تمثل القلق الحقيقي لدى الغرب أكثر من الوجود الروسي المتمثل في مرتزقة فاغنر واستثمارات روسية لا تتجاوز واحدًا في المئة فقط مقارنة بحجم استثمارات الغرب.

خلاصة

في النهاية، عكست زيارة وزير الخارجية الروسي إلى دول إفريقية عدة ذات ثقل جيوسياسي وإستراتيجي في القارة، توجهًا روسيًا جديدًا نحو إفريقيا، وحملت أهمية كبيرة لدى الأفارقة يمكن ترجمتها بأن الدُّب الروسي، يتحلى بمصداقية أكثر في الالتزام بوعوده مع الدول الإفريقية، لكن تبقى قوة موسكو ومستقبل حضورها في القارة، مرهونة بمدى جدية طموحات بوتين في إفريقيا، وما إذا كانت روسيا مستعدة للقيام بالاستثمارات المالية الكبيرة التي وعدت بتنفيذها في قطاعات متعددة. لكن مستقبل موسكو وحضورها الصاعد في إفريقيا يبقى رهن تنويع علاقاتها مع الأفارقة دون التركيز على تجارة السلاح، والتحول أتوماتيكيًّا من آلات الدمار التي توزعها بأرخص الأثمان لأخرى ذات تأثير كبير تحت إطار وضع إستراتيجية جديدة، لتعميق شراكتها الاقتصادية بما فيها الطاقة وتسويق بضائعها من الحبوب والدواء ومجالات الرقمنة والتكنولوجيا وتنفيذ المشاريع التنموية والثقافية، وهذا ما يمكن أن يرسخ جذور مستقبلها في القارة السمراء ويضمن لها قبولًا إفريقيًّا، شرط أن تحسِّن موسكو خيارات وجودها وعوامل بقائها التي تتلاءم مع احتياجات الشعوب الإفريقية الكادحة.