• اخر تحديث : 2024-05-15 19:58
news-details
قراءات

تأتي الانتخابات التشريعية التي انتظمت في السنغال يوم الأحد 31 يوليو 2022، في مرحلة تستعد فيها كل الأطراف السياسية البارزة للانتخابات الرئاسية، المزمع إجراؤها بعد 14 شهراً من الآن؛ أي عام 2024.  لذلك، فإن نتائج الانتخابات التشريعية الحالية تحدد الأوزان الشعبية لكل الأطراف، ومن ثم توحي بطبيعة التوازنات السياسية التي على أساسها ستتضح ملامح الخريطة السياسية الجديدة في البلاد، ومن ثم التحالفات الممكنة والإستراتيجيات المتوقعة في سباق الانتخابات الرئاسية للعام المقبل. لكنّ ما يجدر بالمتابع ملاحظته أن تشريعيات 31 يوليو جاءت في ظل أزمة اقتصادية وتوتر سياسي.

 وتتمثل الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية في موجة ارتفاع أسعار المواد الأساسية والمحروقات، تحت وقع الحرب الروسية – الأوكرانية، هذا إلى جانب التداعيات الاجتماعية للفيضانات التي شهدتها البلاد مؤخراً، وخلفت غضباً اجتماعياً. أما التوتر السياسي فقد تسبب فيه إقصاء القائمة الأساسية، التي تتضمن شخصيات ورموزاً بارزة لأكبر قوى المعارضة، واعتماد قائمة بديلة لأسماء أقل وزناً سياسياً لدى الناخبين؛ ما أدى إلى تنظيم تظاهرات عنيفة، أسفرت عن وقوع عدد من القتلى والجرحى في صفوف المحتجين.

من جهة ثانية، تأتي الانتخابات التشريعية بوصفها اختباراً ثانياً، بعد هزيمة المعسكر الرئاسي بالانتخابات البلدية، يناير 2022، في كبريات المدن؛ مثل: دكار، وتِياس (غربي البلاد)، وزيغنشور (جنوبي البلاد)، وكاولاك، وديوربال، لصالح المعارضة.

 واليوم تراهن المعارضة، عبر هذه الاستحقاقات، على فرض المساكنة السياسية على الرئيس ماكي صال، في حين سعى التحالف الحاكم لإثبات قدرته على الاحتفاظ بأغلبية مريحة تقترب مما كان قد حصل عليه في انتخابات 2017، وهي 125 مقعداً، من إجمالي عدد مقاعد البرلمان البالغة 165، وهي الغالبية التي تُمكِّن الرئيس من الاستمرار في السلطة، واستكمال تنفيذ برنامجه من جهة، ومن جهة أخرى، تضمن له ولاية ثالثة، في حال قرر الترشح عام 2024، وهو أمر ترفضه المعارضة وتعمل على قطع الطريق أمام الرئيس للمضيّ في هذا الاتجاه.

إذن، ثمة أسئلة عدة تُطرح كمؤشرات، ولها دلالات سياسية واجتماعية؛ منها: ما نسبة المشاركة؟ (كانت نسبتها 54% في الانتخابات الماضية)، وما نسبة إقبال الشباب، خاصة؟ وإلى أي الأطراف تتجه أصواتهم؟ لكنَّ تداعيات هذه الانتخابات تتجاوز في الحقيقة حدود السنغال، وترسل مؤشرات عن توجهات مجتمعات غرب أفريقيا وشعوبها، في سياق عدم استقرار إقليمي وتنافس دولي حاد.

أولاً- مسار التحالفات السياسية للانتخابات التشريعية في السنغال

يواجه التحالف الرئاسي معارضة قوية أثبتت قدرتها على التعبئة الشعبية، والاستقطاب لإطارات سياسية عالية المستوى، في محطات انتخابية ومناسبات مختلفة، بما فيها تحريك الشارع، ودفعه لمواجهة الآلة الصلبة التي تستخدمها الدولة؛ مثل قوات الأمن… هذا، علاوة على مواجهة القضاء، الذي بدوره تستخدمه السلطة في ملفات عدة لتصفية الخصوم، أو تحجيمهم سياسياً.

 لكن ذلك لا يمنع من أن التحالف الملتف حول الرئيس، ويؤمّن له الاستمرارية في الحكم برغم الظروف الدولية والإقليمية الصعبة، مازالت له القدرة على حشد الأنصار والتفوق في الاستحقاقات الانتخابية، بما يضمن له الاحتفاظ بمفاتيح دوائر الحكم، وإن بحضور قوي للمعارضة الراديكالية. وقد أثبتت ذلك الانتخابات البلدية (المحلية) في يناير عام 2022؛ إذ استطاع تحالف بينو بوك يكار Benno Boll Yakaar الحاكم، من الفوز في 483 بلدية، من مجموع 553 بلدية.

 والجدير بالذكر أن هذا التحالف الذي التف حول الرئيس ماكي صال، منذ عام 2012 وأوصله إلى الرئاسة، شهد أطواراً مختلفة من الانشقاق والتململ والانحسار والتوسع. لكنه في النهاية تحول تدريجياً إلى قاعدة استقطاب للطامحين والطامعين في المناصب والامتيازات، والمتنقلين من ضفة سياسية إلى أخرى، لتحقيق مصالح فئوية وحزبية أو شخصية، عبر الاحتفاظ بالمناصب العليا في هياكل الدولة ومؤسساتها. فالحزب الحاكم “التحالف من أجل الجمهورية” تشقُّه خلافات كثيرة، تجعل من الحفاظ على وحدته مسألة صعبة، وهذا مع طول مدة الحكم، التي وصلت الآن إلى عشر سنوات؛ ما أصاب التحالف الرئاسي بكل التشوهات والأعراض السياسية السلبية، التي أفقدته حيويته وشعبيته، وعزَلته خاصة عن فئة الشباب. كما أن القيادات الروحية التقليدية لا يبدو أنها تفاعلت إيجابياً مع التحالف الحاكم، ولاسيما منها المُرِيدية؛ وقد تكون أصوات أتباعها قد ذهبت لصالح المعارضة، وخاصة تحالف الرئيس السابق عبدالله واد.

 لقد تم إجازة ثماني قوائم حزبية، أو تحالفات، لخوض الانتخابات، أهمها – بطبيعة الحال – التحالف الرئاسي القائم حول الرئيس ماكي صال، والتحالف المعارض الذي حول عثمان سونكو، الذي كان قد حلَّ بالمرتبة الثالثة في الانتخابات الرئاسية لعام 2019، ونسق في الانتخابات الأخيرة مع الرئيس السابق عبدالله واد.

 أما المعسكر المناهض للسلطة فقد جمع أقطاب المعارضة في شكل جبهة، تضم تحالفات وأطرافاً عدة، سواء التي يمثلها حزب باستيف (بزعامو سونكو)، ويطلق عليه بلغة الوولوف “يوّي إسكان وي” Yewwi Askan Wi، أي “تحرير الشعب”، أو تحالف “إنقاذ السنغال” (والو سنغال – Wallu Senegal)، بزعامة الرئيس السابق عبدالله واد وابنه كريم واد، إلى جانب أنصار خليف صال عمدة دكار الأسبق، الذي جُرّد من حقوقه المدنية سابقاً في عهد الرئيس ماكي صال بسبب الفساد، والعمدة الحالي لمدينة دكار، منذ الانتخابات البلدية الأخيرة، في يناير 2022، بارتيلمي دياز، وهو أحد أبرز قيادات الحزب الاشتراكي.

 وعلى مستوى القيادات الروحية، يبدو أن تحالف سونكو استقطب بعض أتباع الطريقة التيجانية والمريدية؛ لكن على العموم، فإن أتباع الطريقة المريدية، ولاسيما في مدينة طوبى، يقفون تقليدياً مع الرئيس السابق عبدالله واد، في حين تقف التيجانية مع الرئيس ما كي صال. لكن مواقف القيادات الروحية الصوفية عادة ما تكون مع الرئيس الحاكم، إلا أن المريدين والأتباع، كثيراً ما كانت مواقفهم وانحيازهم الفعلي، في مثل هذه المناسبات، تخضع لحسابات مغايرة.  فتوجُّه الشبيبة الحضرية، عموماً، مناهض للتحالف الرئاسي. وبدا ذلك واضحاً في الانتخابات البلدية السابقة، وأثبتته التظاهرات التي حدثت في المدن الكبرى أيضاً، سواء منها الأخيرة في شهر يونيو الماضي، أو التي حدثت العام المنصرم، عندما تم الاستهداف القضائي لعثمان سونكو.  أما بقية التحالفات غير المذكورة آنفاً فثقلها محدود جداً؛ فتحالف “البديل من أجل مجلس القطيعة”(AAR) مثلاً، جمع بين أحزاب وحساسيات سياسية وشخصيات متنوعة، تجمعها قيم ومبادئ مشتركة، ولها تعلق بالنظام الجمهوري. ونجد من بينهم قضاة ونواباً، مثل شيخ عمر سي، وعلى العموم يصنَّف تحالف "البديل" ضمن المعارضة المعتدلة.

ثانياً – نتائج الانتخابات وخيار التعايش السياسي:

 أعلنت النتائج الأولية يوم 4 أغسطس 2022 من قبل اللجنة الوطنية للانتخابات، وقام المجلس الدستوري بتأكيدها لاحقاً. وبذلك يكون التحالف الحاكم قد فاز في هذه الانتخابات بأغلبية محدودة، ويكون قد فقد الأغلبية المطلقة، التي كانت قاعدة شرعية الحكم في المرحلة السابقة.  وحصل تحالف الرئيس ماكي صال، بينو بوك يكار: "الاتحاد مع الاشتراك في الاعتقاد"، على 82 مقعداً من 165 مقعداً، هي إجمالي مقاعد البرلمان. وبذلك تكون الأغلبية الحاكمة، قد فقدت الغالبية المطلقة لأول مرة، منذ استقلال البلاد عام 1960. وفي المقابل حصل تحالف المعارض عثمان سونكو ويوي آسكان وي: "تحرير الشعب"، على 56 مقعداً، وفاز حليفه التابع لعبدالله واد، والمسمى والو سنغال إنقاذ السنغال بـ 24 مقعداً. وبذلك يكون تحالف المعارضة قد حصل على 80 مقعداً، وتوزعت بقية المقاعد على ما تبقّى من القوى السياسية، ليحصل كلٌّ منها على مقعد واحد.

 وقد قُدرت نسبة المشاركة بـ 46.60%، وهي أقل من النسبة المسجلة في انتخابات يناير الماضي. وهذا التراجع في الإقبال على الانتخابات قد يفسَّر بعدم ثقة الناخبين، ولاسيما الشباب منهم، بالعملية السياسية، لكنه كان أيضاً بسبب بعض الإجراءات التي اتُّخذت قبل موعد الاستحقاق، بخصوص اقتراع الطلاب في مناطقهم ومدنهم الأصلية، وليس في العاصمة أو المدن الجامعية الكبرى، وكذلك بسبب تعبئة المعلمين، وأعدادهم قد تصل إلى 40 ألفاً، للإشراف على مكاتب الاقتراع؛ ما حرم معظمهم من المشاركة في عملية الاقتراع.

 وقد مثلت هذه النتائج نكسة للتحالف الحاكم وبينت تراجع شعبيته، لكنها لم تفقده القدرة على الاستمرار في السلطة، وصار عليه أن يبحث عن تحالفات جديدة تمنحه الأغلبية المطلقة؛ فهل يتجه نحو البحث عن ذلك خارج تحالف المعارضة القوي؟ أو يتجه إلى استقطاب بعض نواب تحالف الرئيس عبدالله واد؟ هذه هي الخيارات المتاحة أمام تحالف الحكم اليوم. أما نواب المعارضة المعتدلة فيبدو أنهم الأقرب للتحالف الحاكم، وقد يكونون هم الأكثر استعداداً للتعامل معه، وخاصة أن بقية الأحزاب الراديكالية في معارضتها للحكم لها “ثأر سياسي تاريخي” مع الرئيس ماكي صال نفسه، باعتبار أن مساره السياسي كان تحت جناح عبدالله واد، لكنه في مرحلة ما انشق عنه، واتجه نحو إطاحته، والحلول محله. وظل يتابع محاصرة النفوذ السياسي لعائلة واد باستهداف كريم واد، خليفة الرئيس السابق عبدالله واد.

 من جهة ثانية، لا يمكن أن يحدث تقارب سياسي بين عبدالله سونكو والرئيس ماكي صال؛ فالأول، ومن البداية، قامت مسيرته وشرعيته السياسية على التعارض التام مع حكم الرئيس الحالي، وأنه لا يرى نفسه حليفاً أو متعاوناً معه، بقدر ما هو البديل للوضع القائم. وهذا التعارض له مضامينه السياسية والأيديولوجية، وامتداداته الإقليمية والدولية. فعثمان سونكو يقدم نفسه بوصفه وريثاً تقليدياً لتيار أفريقي مناهض للاستعمار والتبعية، دون أن يكون قادماً من معسكر يساري، وإنما كانت بداياته العمل في المجتمع المدني، وهو قريب من العائلات الفكرية المحافظة، لكنه نشأ داخل مؤسسات الدولة وإدارتها، وله اطلاع كبير على ملفات الفساد، باعتبار عمله لعدة سنوات في إدارة الضرائب والجباية. لكن هل يمكن التعايش السياسي بين الحكم والمعارضة؟ وهل يمكن مشاركة المعارضة في حكومة يرأسها ماكي صال؟

 قد يكون مفهوم التعايش السياسي، أو بتعبير آخر المساكنة السياسية، مفهوماً عملياً في مجال تقاسم السلطة بين خصمين سياسيين، أكثر من أن يكون مفهوماً دستورياً. والمقصود به هنا أن تكون الحكومة بيد أغلبية برلمانية، لا تنتمي للمعسكر الحزبي التابع للرئيس. وفي كل الحالات نحن أمام وضع جديد، فقد فيه الرئيس الأغلبية البرلمانية، وسيضطر للتعاون بصورة أو بأخرى مع المعارضة. وستكون هذه فرصة أمام القوى الحزبية، التي أمّنت لنفسها حضوراً مهماً في البرلمان؛ لإعاقة استكمال الرئيس تنفيذ برنامجه وإنجازه، فيما تبقى له من الوقت في منصب الرئاسة، كما أنها سوف تسعى إلى اختبار مشاريعها وبرامجها في الحكم، ولو بصورة نسبية. هذ إلى جانب أنها ستعيق المصادقة على بعض القرارات المهمة، التي كان التحالف الرئاسي يمررها بسهولة في البرلمان، وخاصة مسألة “رفع الحصانة البرلمانية ” على خصوم الرئيس. وهو السلاح الذي استُخدم بفاعلية طوال العهود البرلمانية المنقضية، ضد رموز المعارضة.

ومن جهة ثانية، وفي ظل عدم حصول الرئيس على الأغلبية المطلقة، فإنه ربما لا يقدر على تعيين حكومة، دون التنسيق والتشاور مع المعارضة البرلمانية. كما أنه لن يتمكن من تمرير مشاريع القوانين، مثلما كان ممكناً له في السابق. وهذه الفرضية ليست حتمية، باعتبار أن تحالف الرئيس قريب جداً من احتمالية الحصول على الأغلبية المطلقة. لذلك، فإن المعارضة خسرت الرهانات السياسية القريبة المدى، وهي منع الرئيس من الاستمرار في الحكم، عبر فريق حكومي موالٍ له. ولم يعد بمقدور المعارضة افتكاك الحكومة من الرئيس؛ لأنها لم تحصل على الأغلبية المطلقة في البرلمان، إلا أن تحالف سونكو/ واد حقق تقدماً كبيراً على طريق إمكانية منع الرئيس من الترشح لولاية ثالثة، وهذا إن تم فعلاً فسوف يفتح أبواب المنافسة على مرشح التحالف الحاكم للرئاسة عام 2024، وهو أمر قد يؤدي إلى انشقاقات كثيرة، وفقدان زمام المبادرة السياسية، لكن المعارضة بدورها، ليست بمنأى عن مثل هذا الأمر، وحظوظ عثمان سونكو تبقى كبيرة حقيقة.

خاتمة

 لقد غلبت على الحملة الانتخابية السنغالية الحسابات السياسية الضيقة لأهم التشكيلات الحزبية والتحالفات؛ فالمعارضة ركزت نقدها للسلطة القائمة تحت عنوان: “لا للولاية الثالثة التي ينوي الرئيس التقدم لها سنة 2024″، وأن هذا يمثل تجاوزاً دستورياً، في حين انشغلت الأغلبية الحالية بإبراز منجزات حكم الرئيس منذ توليه هذا المنصب سنة 2012. وأهمل الجميع المطالب الآنية، والمعاناة اليومية للسكان، كما تجنبوا أيضاً الحديث عن الإصلاحات التي يتطلبها نظام الحكم؛ مثل مركزية السلطة، وضعف دور بقية مؤسسات الدولة، مثل المجلس التشريعي، وقطاع القضاء.

 ومهما يكن من أمر، فإن تقدم المعارضة بهذا الشكل في السنغال، والأحداث التي تشهدها بعض بلدان غرب أفريقيا، ودول الساحل الأخرى؛ مثل مالي، وبوركينا فاسو، وغينيا، وتشاد، والنيجر، وغينيا بيساو، والتململ الشعبي العام من سيطرة بعض الدول الغربية على عدد من الدول الأفريقية، علاوة على انتشار ظاهرة التطرف والإرهاب، وتدهور الظروف الاقتصادية والاجتماعية، بفعل تداعيات سنتين من انتشار جائحة كوفيد-19، ثم انعكاسات الحرب الروسية الأوكرانية – في مثل هذه السياقات العامة، يبيّن بروز جيل جديد من المعارضة أن الطبقة السياسية التقليدية المتنفذة قد تجد صعوبة في مقارعته، والتعامل معه.