• اخر تحديث : 2024-05-02 13:29

قام وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، في الفترة من 8 إلى 11 أغسطس الجاري (2022)، بجولة أفريقية بدأها من جنوب أفريقيا. وقد جاءت هذه الجولة عقب جملة من الزيارات التي قام بها عدد من المسؤولين الروس والغربيين إلى بعض دول القارة، حيث قام وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بزيارة إلى أربع دول أفريقية خلال شهر يوليو 2022، وتزامنت زيارة لافروف مع جولة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في ثلاث دول في غرب أفريقيا، ومع زيارتين لرئيسة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية سامانثا باور، وسفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد، إلى بعض دول القارة.

هذه الجولات المكوكية طرحت العديد من التساؤلات حول أهدافها ومدى ارتباطها بالسياسات الغربية الجديدة، حيث تعمل الإدارة الأمريكية الجديدة في عهد الرئيس جو بايدن على تصحيح الإخفاقات التي نتجت عن السياسة التي تبنتها إدارة ترامب في أفريقيا. كما يعيد ماكرون ترتيب مصالح بلاده في القارة الأفريقية عقب نجاحه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. وجاءت الحرب الروسية-الأوكرانية لتفرض على المسؤولين الروس والغربيين تدعيم روابطهم بدول القارة الأفريقية واستغلال الكتلة التصويتية الأفريقية في تحقيق أهدافهم. وبين هذا وذاك، برز تساؤل آخر إلى الواجهة ومفاده: أين تقف دول القارة الأفريقية من كل هذه التحركات، وكيف ترى مصالحها ولأي من هذه القوى ستنحاز؟

مظاهر التدافع الدولي الراهن على أفريقيا  

ربما تراجعت أهمية القارة الأفريقية ضمن أولويات التوجهات الخارجية للعديد من القوى الدولية خلال العامين الأخيرين، فالولايات المتحدة الأمريكية في نهاية فترة حكم الرئيس ترامب أعلنت انسحاب قواتها المتمركزة في الصومال والتي كانت تعمل بسرية، كما أصدر بايدن في مارس 2021 قراراً بفرض قيود على استخدام الطائرات المسيرة خارج مناطق قتال الإرهابيين فى الشرق الأوسط وأفغانستان على الرغم من أن إدارة ترامب قد ضاعفت من استخدام الطائرات المسيرة في الصومال في استهداف عناصر حركة الشباب.

أما فرنسا فقد حرص رئيسها على تبنى قرار بانسحاب قوات برخان من منطقة الساحل والصحراء أو ما أطلقت عليه الحكومة الفرنسية إعادة انتشار لهذه القوات مع تقليص أعدادها لتدعيم موقفه في الانتخابات الرئاسية، مما أدى إلى وجود فراغات أمنية في مدن رئيسية في مالي استغلتها التنظيمات الإرهابية فى تصعيد عملياتها، حيث أصبحت الجيوش الوطنية ومنها الجيش المالي تواجه هذه التنظيمات دون دعم خارجي ما عدا عناصر من مجموعة فاغنر الروسية والتي بالطبع لا يمكن مقارنة كفاءتها القتالية بقوة برخان الفرنسية.

إلا أن الشهور الأخيرة تشهد اهتماماً متصاعداً من جانب القوى الغربية المختلفة وروسيا بالتعاون مع دول القارة، ففضلاً عن الزيارات المتلاحقة التي يقوم بها المسئولون في هذه الدول للقارة الأفريقية، يتضمن التقارب الأمريكي مع دول القارة اتجاهات تتراوح ما بين الأمني والاقتصادي والإنساني، فمن ناحية أعلنت الولايات المتحدة في مايو 2022 عن نشر قوات في الصومال بما يتناقض مع الاتجاه الذي تبناه الرئيس السابق ترامب بسحب الجنود الأمريكيين من القارة. ومن ناحية أخرى تتعالى أصوات المسئولين الأمريكيين للحديث عن الكوارث البيئية التي تعانى منها مناطق في القارة وخاصة إقليم شرق أفريقيا، حيث من المرجح أن يتضرر ما يقرب من 15 مليون مواطن في الصومال وكينيا وإثيوبيا من انتشار موجة الجفاف الراهنة، ووصلت المساعدات الإنسانية الأمريكية إلى دول القارة إلى 592 مليون دولار خلال شهر يوليو 2022، وقدمت الولايات المتحدة، اعتباراً من 8 أغسطس 2022، ما يقرب من مليار دولار مساعدات طارئة للأمن الغذائي على وجه التحديد لبلدان في أفريقيا كجزء من التزامها البالغ ملياري دولار، بما في ذلك جمهورية أفريقيا الوسطى وجمهورية الكونغو الديمقراطية وإثيوبيا وكينيا ومالي وموزمبيق ونيجيريا والصومال وجنوب السودان وأوغندا.

وعلى الجانب الآخر، سعى الرئيس الفرنسي إلى مناقشة مجموعة من الملفات التي تؤثر على علاقات بلاده مع دول القارة أهمها مكافحة الإرهاب والأمن الغذائي، وخلال جولته الأخيرة في دول في غرب أفريقيا قدم الرئيس الفرنسي مبادرة جديدة لتجاوز أزمة القمح في أفريقيا ارتكزت على عدد من المحاور، منها مساعدة القطاع الزراعي الأفريقي، وإقامة شراكة مفيدة مع أوروبا، وتمكين الدول الأفريقية من ما يسمى "السيادة الغذائية".

في الوقت الذي تسعى روسيا لتدعيم علاقاتها مع حلفائها في القارة الأفريقية لمواجهة الحصار التي تحاول الدول الغربية فرضه عليها في أعقاب العملية العسكرية في أوكرانيا، وتعتمد في هذا التوجه على العلاقات التاريخية التي تربطها بعدد من دول القارة، كما تستثمر الإخفاقات الغربية في أفريقيا وكذلك انتهاكات الحقبة الاستعمارية في تدعيم حضورها.

وجاءت جولة وزير الخارجية الروسي لافروف الأفريقية الأخيرة بعد توقيع كل من روسيا وأوكرانيا وتركيا بإسطنبول على "وثيقة مبادرة الشحن الآمن للحبوب والمواد الغذائية من الموانئ الأوكرانية"، برعاية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وهي رسالة روسية للدول الأفريقية بأنها تهتم بالأمن الغذائي في القارة.

أهداف التقارب مع دول القارة

تعددت الأهداف التي تسعى الدول الغربية وروسيا للوصول إليها عبر التقارب مع دول القارة، وعلى الرغم من أن الحرب الروسية-الأوكرانية فرضت تداعيات قوية ومباشرة على التحركات الخارجية فى القارة خلال الشهور الاخيرة، إلا أنه لا تزال هناك أهداف أخرى متنوعة ترتبط بالمصالح الحيوية للأقطاب الدولية فى القارة الأفريقية، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:

1. تعزيز النفوذ في القارة: لم تخف الوثائق الأمريكية المخاوف من الصعود الروسي والصيني بالقارة الأفريقية، وتعد استراتيجية إدارة بايدن الجديدة بشأن أفريقيا، والتي صدرت في 8 أغسطس 2022 بالتزامن مع زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن للقارة، جزءاً من جهود إعادة بناء مشاركة الولايات المتحدة في جميع أنحاء أفريقيا لمواجهة الخصمين الجيوسياسيين (الصين وروسيا).

وقد حذرت الوثيقة من أن الصين ترى في أفريقيا "ساحة مهمة لتحدي النظام الدولي القائم على القواعد، وتعزيز مصالحها التجارية والجيوسياسية الضيقة، وتقويض الشفافية والانفتاح، وإضعاف علاقات الولايات المتحدة مع الشعوب والحكومات الأفريقية".

كما أن روسيا والتي ذكرتها الوثيقة سبع مرات تنظر إلى المنطقة على أنها "بيئة مواتية" لشركاتها العسكرية الخاصة للعمل فيها، و"غالبا ما تثير عدم الاستقرار من أجل المنفعة الاستراتيجية والمالية". كما ذكرت الحكومة الأمريكية أن موسكو تستخدم العلاقات الأمنية والمعلومات المضللة "لتقويض معارضة الأفارقة المبدئية للغزو الروسي الإضافي لأوكرانيا".

ورغم ذلك، فإن واشنطن تصر في تصريحات مسئوليها على أن تركيزها المتجدد على أفريقيا لا يستند على التنافس بين القوى العظمى، حيث أكد وزير الخارجية الأمريكي بلينكن للصحفيين في بريتوريا بجنوب أفريقيا قائلاً: "التزامنا بشراكة أقوى مع أفريقيا لا يتعلق بمحاولة التفوق على أي طرف آخر".

كما يأتي إطلاق الاستراتيجية الجديدة أيضاً بعد أيام قليلة من زيارة السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد، لغانا وأوغندا، حيث لم تكن روسيا بعيدة عن جدول أعمالها خلال الزيارة، وقالت غرينفيلد: "يمكن للدول شراء المنتجات الزراعية الروسية، بما في ذلك الأسمدة والقمح"، مضيفة أنه "إذا قررت دولة التعامل مع روسيا، حيث توجد عقوبات، فإنها تخرق تلك العقوبات".

ولا تتوقف مخاوف تصاعد النفوذ الروسي والصيني في القارة على الولايات المتحدة فقط، بل يشكك القادة الأوروبيون في أهداف الدولتين في القارة، فخلال اجتماع قادة الناتو في مدريد أواخر شهر يونيو 2022، حذر الأمين العام للكتلة ينس ستولتنبرغ من أن روسيا والصين تواصلان "السعي لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية وعسكرية عبر جوارنا الجنوبي". وقال ستولتنبرغ، مشيراً إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: "تستخدم كل من موسكو وبكين النفوذ الاقتصادي، والإكراه، والأساليب الهجينة لتعزيز مصالحهما في المنطقة".

ومن دون شك، فإن مخاوف الناتو بشأن النفوذ المتزايد في أفريقيا لروسيا والصين، اللتين ضختا المليارات في البنية التحتية للقارة، دفعت الكتلة إلى توجيه المزيد من اهتمامها إلى أفريقيا.

2. استقطاب الدعم الأفريقي: تمثل الدول الأفريقية (54) كتلة تصويتية لها تأثيرها الكبير في المنظمات الدولية، هذا فضلاً عن الأهمية الحيوية التي تحتلها القارة في ميزان الاستثمارات والموارد الطبيعية. وقد استهدفت زيارات المسئولين الغربيين والروس عدداً من الدول الأفريقية التي تباينت مواقفها من إدانة روسيا في حربها ضد أوكرانيا، واختار بعض هؤلاء المسئولين الدول التي تقاربت مواقفها مع مصالح دولهم، في حين سعى مسئولون آخرون للتقارب مع الدول الداعمة لروسيا في محاولة لجذبها للمعسكر الغربي.

وربما يعد اختيار بلينكن لجمهورية جنوب أفريقيا لتكون أول وجهة لجولته الأفريقية في إطار مجموعة من المحددات أهمها، موقف الدولة من الحرب الروسية-الأوكرانية، والعلاقات الاستراتيجية التي تجمعها مع روسيا وخاصة في إطار مجموعة البريكس (التي تتألف من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، وهي دول يُنظر إليها على أنها اقتصادات السوق الناشئة الرائدة في العالم)، فضلاً عن أنها تمتلك اقتصاداً مؤثراً في القارة وتعد فاعلاً إقليمياً قوياً في إقليم جنوب أفريقيا، وكذلك فاعل مؤثر على المستوى القاري، كما أن الولايات المتحدة ثاني أكبر شريك تجاري لجنوب أفريقيا في عام 2021.

فضلاً عن ذلك، تسعى الولايات المتحدة لإعادة إشراك حكومة جنوب أفريقيا في سياق إطار الحوار الاستراتيجي الذي تمت صياغته في عهد إدارة باراك أوباما في عام 2010 لتعميق العلاقة بين الجانبين.

بينما تعد الصين الشريك التجاري الأكبر لجنوب أفريقيا وتتطلع الدولة إلى روسيا للحصول على إمدادات الغذاء والنفط في خضم الاضطرابات الاقتصادية العالمية الحالية إلى جانب علاقاتها التاريخية الطويلة مع تلك الدولة.

أما جمهورية الكونغو الديمقراطية فهي أغنى دولة بالموارد المعدنية في أفريقيا وأكبر مورد حالي للكولتان والكوبالت للشركات الأمريكية الكبرى، إلا أن الدولة تعانى من اضطرابات فى الشرق ولم تتمكن حكومتها وبعثة الأمم المتحدة من الحد منها، بينما تواجه رواندا اتهامات مستمرة بدعم المتمردين فى الكونغو الديمقراطية مما يثير مشكلات بين الدولتين، لذلك من المتوقع أن تسعى الولايات المتحدة إلى استعادة أدوار الوساطة وتسوية الصراعات في القارة الأفريقية، خاصة بعد أن أيدت الكونغو الديمقراطية وروندا قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا.

3. تجنب تحمل مسئولية أزمة الغذاء العالمية: تضمنت تصريحات المسئولين الغربيين وكذلك وزير الخارجية الروسي لافروف رفضاً للاتهامات التي وجهت إلى دولهم بالتسبب في أزمة الغذاء التي نجمت عن الحرب الروسية-الأوكرانية، حيث ألقى كل مسئول باللوم على الطرف الآخر، وقال الرئيس الفرنسي ماكرون في الكاميرون: "يلومنا البعض الذين يقولون إن العقوبات الأوروبية هي سبب أزمة الغذاء العالمية، بما في ذلك في أفريقيا. هذا خطأ تماماً. الغذاء، مثل الطاقة، أصبح أسلحة حرب روسية".

في الوقت الذي لم تخل زيارة وزير الخارجية الروسي سيرجي في لافروف إلى الدول الأفريقية من رسائل طمأنة بشأن إمدادات الغذاء. وفي رحلته الأخيرة للدول الأفريقية في يوليو 2022، نفى لافروف أي مسئولية روسية عن نقص الغذاء العالمي، وألقى باللوم على العقوبات الغربية على روسيا لمنعها من الوصول إلى الأسواق.

4. استعادة الثقة: فقدت فرنسا الكثير من شعبيتها في أفريقيا خلال السنوات الثمانية التي تواجدت قواتها خلالها في منطقة الساحل والصحراء، هذا فضلاً عن تركيزها على التعاون مع دول أفريقية دون غيرها.

ومع إعادة انتخاب ايمانويل ماكرون لفترة رئاسية جديدة، يسعى الرئيس الفرنسي إلى إعادة صياغة السياسات الفرنسية تجاه القارة الأفريقية للتخلص من "العداء الشعبي" الذي تواجهه فرنسا وخاصة في مستعمراتها السابقة في القارة بما يضمن حماية المصالح الاقتصادية الحيوية لفرنسا في القارة، حيث تسعى هذه السياسات إلى نقل التركيز العسكري والأمني الفرنسي إلى النيجر وبوركينافاسو في منطقة الساحل والصحراء بدلاً من مالي وتشاد مع الاستمرار في تقليص عدد القوات، والاهتمام بالبؤر الجديدة لنمو التهديدات الإرهابية. لذلك قام الرئيس الفرنسي بزيارة دولة بنين التي تواجه في الآونة الاخيرة تهديدات إرهابية متصاعدة، حيث يعمل على طمأنة دول الساحل وغرب أفريقيا والتأكيد على أن تقليص عدد القوات الفرنسية في المنطقة لا يعنى تخلى فرنسا عن دعم دولها حتى لا تتجه مزيد من هذه الدول إلى تطوير علاقاتها مع روسيا.

هذا فضلاً عن محاولة التقارب مع دول أخرى في القارة لتجاوز مشكلات تركيز السياسات الفرنسية على دول بعينها، ولذلك قام الرئيس الفرنسي بزيارة الكاميرون وغينيا بيساو ضمن جولته الأخيرة فى القارة، كما أن الدول الثلاثة لم تعارض القرار الدولي بإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، حيث تغيبت الكاميرون وغينيا بيساو عن التصويت، في حين أيدت بنين التي تستورد 100% من احتياجاتها من القمح من روسيا القرار وأصبحت في جانب فرنسا والغرب.

5. دعم المصالح الاقتصادية: تتنافس القوى الخارجية المختلفة وخاصة الولايات المتحدة وروسيا لخلق فرص للاستثمارات وحماية الموارد الطبيعية فى القارة، فمن المتوقع أن تصبح أفريقيا خامس أكبر كتلة تجارية في العالم، وتسعى القوى الدولية لتصبح الشركاء المفضلين لدول القارة وتوفير فرص للشركات.

ردود الفعل الأفريقية على محاولات الاستقطاب  

أصبحت الدول الأفريقية تدرك جيداً أهداف التقارب الدولي منها، وعلى الرغم من الأزمات التي تعانى منها العديد من هذه الدول والحاجة الماسة لديها للحصول على الدعم الخارجي سواء فيما يتعلق بالجوانب الأمنية أو الاقتصادية والإنسانية، في ظل وجود عدد من النخب السياسية الموالية للغرب في العديد من الدول الأفريقية وانتشار واسع للفساد بين هياكل الدول ومؤسساتها، إلا أن المواقف الأفريقية بدت (حتى اليوم) متوازنة ومؤكدة على الرفض الأفريقي الجماعي للزج بدول القارة ضمن  الصراع الدولي، وخاصة في ظل تفضيل الكثير من دولها  للتعددية القطبية المنضبطة.

ويمكن توضيح السمات التي تميزت بها المواقف الأفريقية من الهرولة الدولية عليها في التالي:

1. محاولة التزام الحياد: عملت غالبية الدول الأفريقية على الحفاظ على موقف محايد إزاء الحرب الروسية-الأوكرانية، إذ كان لهذا الموقف تأثير كبير على نتائج التصويت على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بإدانة روسيا في مارس 2022، حيث كان للدول الأفريقية (54 دولة) نسبة 27.97٪ من مجموع الأصوات.

فبينما صوتت 27 دولة تربطها علاقات عسكرية واقتصادية مع الغرب لصالح قرار إدانة روسيا، امتنعت 17 دولة أفريقية عن التصويت واختارت نحو 9 دول أفريقية التغيب عن الجلسة وصوتت دولة أفريقية واحدة ضد القرار (إريتريا).

وكانت جمهورية جنوب أفريقيا من الدول التي رفضت إدانة موسكو لغزوها لأوكرانيا، لأنها وجدت أخطاءً من كلا الجانبين، واعتبرت أن توسع الناتو كان أحد أسباب الحرب. وأعلن حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم، الذي يتولى السلطة منذ عام 1994، أنه يريد البقاء على الحياد من أجل تشجيع السلام بشكل أفضل.

كما تشعر جنوب أفريقيا بأنها مدينة لموسكو لدعمها في الحرب ضد حكم الأقلية البيضاء. أما أوغندا فمن المقرر أن تتولى رئاسة حركة عدم الانحياز، وهي هيئة عالمية تشكلت خلال الحرب الباردة من قبل الدول التي أرادت تجنب الوقوع في فخ التنافس بين القوى الغربية والكتلة الشيوعية.

وفي مؤتمر صحفي مع وزير الخارجية الروسي، كرر الرئيس الأوغندي يويري موسيفيني موقفه الحيادي بشأن الصراع في أوكرانيا.

كما لم تستطع جنوب أفريقيا تغيير موقفها تجاه أوكرانيا على إثر زيارة وزير الخارجية الأمريكي لها. وبدلاً من ذلك، انتقدت ناليدي باندور، وزيرة العلاقات الدولية في جنوب أفريقيا، في مؤتمر صحفي مشترك، الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى لتركيزها على الصراع فى أوكرانيا على حساب القضايا الدولية الأخرى. وقالت باندور في إيجاز صحفي عقب الاجتماع مع بلينكن: "يجب أن نشعر بالقلق بنفس القدر إزاء ما يحدث لشعب فلسطين".

2. رفض الوصاية الدولية: بعد زيارة توماس غرينفيلد ممثلة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة لأربع دول أفريقية مؤخراً، قال الرئيس الأوغندي يويري موسيفيني على تويتر: "إذا كانوا يريدون حقاً مساعدة أفريقيا، فعليهم التفكير في فصلنا عن العقوبات في حرب لا نشارك فيها". وحمل المنشور صورة له مع غرينفيلد.

ويأتي الجهد الدبلوماسي الجديد بعد عدة سنوات بدت خلالها واشنطن غير مهتمة بأقاليم أفريقيا جنوب الصحراء، كما انتقدت وزيرة العلاقات الدولية والتعاون في جنوب أفريقيا ناليدي باندور، مشروع قانون أمريكي وصفته بـ "التشريع العدواني" - ما يسمى بقانون مكافحة الأنشطة الروسية الخبيثة في أفريقيا الذي صدر في أبريل 2022 - والذي سيحدد ويراقب الحكومات الأفريقية التي تعمل مع الكيانات الروسية الخاضعة للعقوبات من قبل الولايات المتحدة. ولاقى مشروع القانون رد فعل عنيفاً من الحكومات والمواطنين الأفارقة لكونه يذكر بأجواء "الحرب الباردة".

استنتاجات

على الرغم من محاولات غالبية الدول الأفريقية النأي بنفسها عن الصراع الدولي وحالة الاستقطاب ورفضها الانخراط في "حرب باردة جديدة" بين الولايات المتحدة وروسيا، إلا أن هناك مجموعة من المتغيرات التي لن تتيح للدول الأفريقية التزام الحياد في هذه الحرب ومن هذه المتغيرات:

1. حالة الضعف والأزمات المختلفة التي تعاني منها العديد من الدول الأفريقية والتي تتطلب الحصول على المساعدات والدعم الخارجي.

2. عدم قدرة المنظمات الإقليمية وفى مقدمتها الاتحاد الأفريقي، وكذلك المنظمات الإقليمية الفرعية، على القيام بالأدوار التي تتولاها القوى الخارجية وخاصة في مجالات تسوية ومنع الصراع وحفظ السلام والتنمية، وعلى الرغم من اتجاه هذه المنظمات لتطوير هياكلها الأمنية والسياسية والاقتصادية، إلا أن نقص الموارد المالية واللوجستية يمثل عقبة رئيسية أمام إحلال المنظمات الأفريقية محل القوى الخارجية.

3. صعوبات التوافق بين الدول الأفريقية حول الأهداف القارية ودور أفريقيا في النظام الدولي، فهناك العديد من المشكلات التي تحول دون التقارب بين الدول الأفريقية وتشكيل تكتل واحد، يمتلك مساراً واحداً في النظام الدولي.

على الجانب الآخر تظل القوى الخارجية وخاصة الغربية تتعامل مع القارة وفقاً لمجموعة من المحددات المصلحية التي تتمثل في:

1. لا تزال القوى الخارجية تواصل منح الأولوية لمصالحها الجيوسياسية على مصالح الشعوب الأفريقية، فتتجاهل هذه القوى ومنها الولايات المتحدة، على سبيل المثال، سجل حقوق الإنسان لنظام الرئيس الأوغندي يويري موسيفيني، الذي قال تعقيباً على زيارة لافروف: "كيف يمكن أن نكون ضد شخص لم يؤذنا قط؟"، مضيفاً: "إذا ارتكبت روسيا أخطاءً فإننا نقول لهم".

يأتي هذا بينما تدعم الولايات المتحدة إدارته بالمساعدة المالية، وتمتعت هذه الادارة بدعم ست إدارات أمريكية، وفي الوقت نفسه كان موسيفيني-الذي ظل في السلطة منذ 36 عاماً-يشتري الأسلحة الروسية ويؤمن التدريب الروسي لقواته العسكرية.

2. تتبادل القوى الدولية الاتهامات بارتكاب انتهاكات جسيمة في حق المدنيين في الدول التي تتواجد فيها، حيث تتهم الولايات المتحدة مجموعة فاغنر الروسية بارتكاب انتهاكات في أفريقيا الوسطى ومالي، في الوقت الذي تُتَّهم واشنطن بقتل المدنيين ضمن عملياتها لمكافحة الإرهاب في الصومال.

3. ترى اتجاهات أفريقية أن "الاستعلاء" لا يزال يفرض تأثيره على سياسات القوى الغربية في أفريقيا، فالسياسة الخارجية الأمريكية غير مستقرة وتعتمد إلى حد كبير على خلفية رئيس الولايات المتحدة، فالرئيس ترامب كان يرى أن أفريقيا ليس لها أهمية في سياسة الولايات المتحدة الخارجية. كما تعاني السفارات الأمريكية في القارة من نقص حاد في عدد الموظفين، وعلى الرغم من خطابها حول الحقوق الاقتصادية والإنسانية والسياسية، لم تندد الولايات المتحدة في مجلس الشيوخ أو الجمعية العامة للأمم المتحدة بالمظالم التي ارتكبت ضد القارة الأفريقية تاريخياً وحتى الآن.

ورغم الاتجاهات الإيجابية لإدارة بإيدن إزاء التعاون بين الولايات المتحدة وأفريقيا والتي تختلف بشكل واضح في الصيغة والأداء عن نهج الإدارة الأمريكية السابقة برئاسة ترامب، إلا أن استعادة العلاقات بين الولايات المتحدة وأفريقيا في عالم متعدد الأقطاب يواجه العديد من التحديات من أهمها الحاجة إلى استعادة الثقة بين الجانبين وتلبية احتياجات الدول الأفريقية، كما تواصل فرنسا، وفقاً لهذه الاتجاهات، هيمنتها الاقتصادية الإمبريالية في أفريقيا الفرنكوفونية في مواجهة لامبالاة الولايات المتحدة والدول الغربية.

4. يرى المواطنون الأفارقة أن الصين تقدم لهم مزايا ملموسة أكبر من أي قوة متواجدة في القارة، وتشير البيانات إلى أن الصين وروسيا تزيدان من تأثيرهما الاقتصادي وبالتالي السياسي في القارة الأفريقية. إذ تمول الصين حالياً برامج البنية التحتية الرئيسية مثل الطرق والسكك الحديدية والسدود والمطارات والموانئ في معظم الدول الأفريقية والتي تجاهلتها الدول الغربية خلال سنوات عديدة من الاستعمار والعلاقات ما بعد الاستعمار. وفي عام 2021، ارتفعت التجارة بين الصين وأفريقيا بأكثر من 35 في المائة لتصل إلى 254 مليار دولار عن العام السابق.

خاتمة

في بعض الأحيان، توفر المناسبات والأزمات العالمية فرصاً تستغلها الكثير من الدول والكيانات في الوصول إلى أهدافها وتحقيق مآربها، وتمثل الحرب الروسية-الأوكرانية لحظة فارقة في مسار العلاقات الدولية  يمكن استثمارها في تأكيد مواقف الدول من التغيرات التي يشهدها النظام الدولي، وينقلنا هذا التفكير إلى القارة الأفريقية التي تدور الكثير من دولها في دوائر مفرغة من الأزمات الهيكلية، فتضم أضعف الدول وأكثرها فشلاً في الاستجابة والتكيف مع الأزمات والكوارث على الرغم من محاولات وجهود تبذلها للخروج من هذه الدوائر والتأكيد على رفض التدخلات الخارجية، التي تسببت، وعلى مدار عقود من تاريخ القارة، في أزمات مختلفة وزادت من تعقيدات وتشابكات المشهد الأمني والسياسي والإنساني في ربوع القارة.

إلا ان حالة التراجع وضعف القدرة على الاستجابة للأزمات التي تعاني منها غالبية دول القارة سمحت للقوى الخارجية بتعزيز نفوذها لتكون القارة مسرحاً للتنافس والمعارك بين القوى المختلفة. وعلى الرغم من أن عصر الحرب الباردة بكل كوارثه قد انتهى مخلفاً العديد من الأزمات التي لا تزال الدول الأفريقية تعمل على معالجتها حتى اليوم، إلا أن القوى الخارجية لم تتراجع عن سياستها تجاه القارة، حيث تبادر هذه القوى باستدعاء حرب باردة جديدة ستكون أراضي القارة ساحة لها، في الوقت الذي تسعى دول القارة بكل وسائلها للنأي بنفسها عن هذه الحرب، حيث لا تستطيع هذه الدول الانخراط في هذه الحرب، خاصة أن سياسات الاصطفاف التي تفرضها القوى الخارجية لن تستطيع غالبية الدول الأفريقية دفع فاتورتها أو تحمل خسائرها.