• اخر تحديث : 2024-11-22 10:05
news-details
قراءات

في ضوء التحديات التي تفرض نفسها على الساحة السياسية والأمنية على الصعيدين الإقليمي والدولي، تصدرت الجزائر مؤخرًا المشهد كفاعل أفريقي حيوي ومؤثر، سواء بالنسبة لجيرانها الحدوديين، وبالأخص مالي، أو بالنسبة لأوروبا، وذلك بالاعتماد على موقعها الاستراتيجي المُتميز، الذي جعلها إحدى البوابات الرئيسية، والأكثر أمنًا للقارة الأفريقية، كونها الدولة الوحيدة التي تربط دول شمال المتوسط، بعمق القارة الأفريقية، حيث الصحراء الكبرى ودول الساحل الأفريقي الغنية بالموارد الطبيعية.

وفي هذا السياق، سبق وأن خصص الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، في إطار مساعيه لتعزيز دور الجزائر كقوة فعالة، ومُصدرة للسلم والأمن في منطقة الساحل، عددًا من المبعوثين الخاصين لقيادة النشاط الإقليمي والدولي، والعمل تحت السلطة المباشرة لوزير الشئون الخارجية، وفقًا لعدة محاور أساسية تعكس مصالح الأمة الجزائرية وأولويات قيادتها السياسية.

ملفات شائكة

انخرطت الجزائر- التي تستضيف القمة العربية يومي 1 و2 نوفمبر القادم (2022)، مؤخرًا في عدد من الملفات الإقليمية والدولية الهامة، والمؤثرة بشكل خاص في مستقبل علاقاتها السياسية، والاقتصادية والأمنية على المدى الطويل، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:

1. أزمة مالي: مع انحسار الدور الفرنسي في منطقة الساحل، وخاصة في مالي، تنامى الدور الجزائري في إدارة ملفات أزمة دولة مالي، لاسيما أن البلدين يرتبطان بحدود شاسعة تبلغ حوالي 1376 كيلومتر، ما يجعلهما يُمثلان عمقًا استراتيجيًا بالنسبة لبعضهما البعض، حيث شدد وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة في أكثر من مناسبة، على وصف علاقة بلاده مع مالي بـ "المحورية"، مؤكدًا على أن الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني في الجارة الجنوبية للجزائر، هو امتداد لاستقرارها، واستقرار منطقة الساحل بشكل عام. وانطلاقًا من هذا الأساس، يتجلى الدور الجزائري في أزمة مالي في 3 محاور أساسية:

أ- الوساطة بين الحكومة والحركات الانفصالية المسلحة في الشمال: في إطار جهود الجزائر الرامية لتعزيز الأمن والاستقرار في دولة مالي منذ انقلاب مايو عام 2021، لتسهيل مسار إنهاء الفترة الانتقالية والعودة إلى الحكم الدستوري، تشهد العلاقات الدبلوماسية الجزائرية – المالية مؤخرًا تصاعدًا ملحوظًا، خاصة من حيث الزيارات الرسمية المُتبادلة بين كبار المسئولين من البلدين، وذلك على خلفية التوقيع على إعادة العمل باتفاق السلام والمصالحة في 5 أغسطس 2022، بين الحكومة المالية، والحركات الانفصالية المسلحة في الشمال (إقليم أزواد).

فمن جانبها، قادت الجزائر في عام 2015، تحت رعاية أممية، جهود الوساطة بين الجانبين، على مدار عدة أشهر، وقعت الحكومة المالية خلالها مع مجموعات من الأزواد اتفاقًا تضمن إنهاء الحرب في الشمال، ووضع آلية تفاهم وتنسيق، تشمل جهود نزع السلاح والتسريح وإعادة دمج المقاتلين الأزواد في صفوف الجيش والشرطة المالية، فضلاً عن التركيز بصورة أكبر على اتخاذ إجراءات تنموية تشمل الرعاية الاجتماعية والاقتصادية لمجتماعات الشمال، وذلك بما يضمن إعادة توحيد وتكثيف جهود الطرفين في مواجهة الأنشطة الإرهابية والتجارة غير الشرعية على الحدود الشمالية للبلاد، الأمر الذي سيُسهم بطبيعة الحالة في الحد من التهديدات والتحديات الأمنية التي تشهدها الحدود الجنوبية للجزائر، نتيجة اضطراب الأوضاع الأمنية في الشمال المالي.

ب- مكافحة الإرهاب: انطلاقًا من استضافة الجزائر لهياكل تعزيز الأمن القاري،  المُمثلة في المركز الأفريقي للدراسات والبحوث حول الإرهاب (CAERT)، والآلية الأفريقية للتعاون في مجال الشرطة (AFRIPOL)، وفي إطار كونها مُنسق الاتحاد الأفريقي في مجال مكافحة الإرهاب، جاءت دعوة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، إلى إنشاء قوة أفريقية لفرض السلام ومكافحة الإرهاب في مالي، بتفويض من مجلس الأمن، استجابة للطرح الجزائري بشأن ضرورة إيجاد حلول أفريقية تابعة للاتحاد الأفريقي، بديلة للتدخل العسكري الأجنبي في منطقة الساحل، وفي مالي تحديدًا تحت ستار مكافحة الإرهاب والتطرف في المنطقة.

ويأتي اهتمام الجزائر بمسألة دعم جهود مكافحة الإرهاب والتطرف في مالي بصورة خاصة نتيجة ما تواجهه حدود البلدين، القريبة من مواقع نفطية استراتيجية في جنوب الجزائر، على مدار السنوات الأخيرة، من تدهورٍ في الأوضاع الأمنية، ما جعلها بؤرة للأنشطة الإرهابية، والتهريبية، والهجرة غير الشرعية. فقد سبق وأن ضبط الجيش الجزائري على الحدود المالية ترسانات أسلحة مختلفة الأنواع، فضلاً عن إحباط العديد من محاولات تسلل عناصر إرهابية إلى الأراضي الجزائرية، تتمركز تنظيماتها في الشمال المالي، حيث تتنافس الجماعات التابعة لتنظيمي "القاعدة"، و"داعش" على بسط النفوذ والاستيلاء على ثروات الإقليم.

ج- مواجهة العقوبات الاقتصادية: برز الدور الجزائري في خضم الأزمة الاقتصادية التي واجهتها مالي مع المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (الإيكواس) منذ يناير 2022، بعد فرض قادة الدول الأعضاء في المجموعة عقوبات اقتصادية ومالية على مالي، وإغلاق حدود دولهم معها، على خلفية تراجع المجلس العسكري عن تسليم السلطة لحكومة مدنية مُنتخبة في الموعد الذي كان مُحددًا له في فبراير 2022، وتمديد فترة المرحلة الانتقالية.

فمن ناحية، أعربت الجزائر عن رفضها الشديد للعقوبات المُطبقة على مالي، وسعت للعب دور الوسيط بين الطرفين داعية إياهم لضبط النفس، والحوار من أجل التوصل إلى خطة تفضي إلى الخروج من تلك الأزمة. ومن ناحية أخرى، قامت الجزائر بكسر الحصار المفروض على مالي وأرسلت إليها 4 طائرات شحن عسكرية في 24 يناير 2022 مُحملة بالمساعدات الإنسانية، وبـ 108 طن من المواد الغذائية، و400 ألف جرعة من لقاح كوفيد – 19.

ويأتي ذلك الموقف إعمالاً لرؤية الجزائر الرافضة لإلحاق إي أضرار سياسية أو اقتصادية بجارتها الجنوبية، والتي من شأنها أن تزيد حجم الاضطرابات، والتحديات الأمنية والإنسانية التي تشهدها البلاد، سواء من حيث تنامي قوة ونفوذ التنظيمات الإرهابية، وانتشار انشطتها على الحدود الجزائرية، أو بالنسبة لارتفاع معدلات التهريب، والهجرة غير الشرعية نحو الجزائر بما يهدد أمنها واستقرارها الداخلي.

2. أزمة الطاقة في أوروبا: مع احتداد أزمة الطاقة العالمية، في ظل الحرب الروسية – الأوكرانية، تستغل الجزائر تلك الأزمة كونها في المركز الـ 11 عالميًا من حيث احتياطات الغاز الطبيعي، والمُقدرة بـ 159 تريليون قدم مكعب، في إقامة شبكة علاقات مُتوازنة تضمن مصالحها وتُنمي مكاسبها الاقتصادية. فبينما تسعى أوروبا للتخلص التدريجي من واردات الغاز الروسي، وتنويع مصادر إمدادات الطاقة، وجدت الجزائر الفرصة سانحة لتصدر المشهد العالمي من خلال لعب دور محوري ورئيسي في توفير الغاز الطبيعي لأوروبا، لاسيما أن الانظار بالفعل قد اتجهت نحو الجزائر، كونها أكبر مُصدر للغاز في أفريقيا، بنحو 55.2 مليار متر مكعب في عام 2021، وتعتبر من أهم مُصدري الغاز الطبيعي لدول الاتحاد الأوروبي.

وبعد عقدين من وضع المشروع التأسيسي لمشروع الأنبوب العابر للصحراء (TNGP)، وعلى هامش الاجتماعات التي عُقدت في العاصمة النيجيرية أبوجا يونيو 2022، أعلن وزراء الطاقة بالجزائر والنيجر ونيجيريا توقيع مذكرة تفاهم لوضع اللبنات الأولى من المشروع في 28 يوليو 2022. ومن المفترض أن ينطلق خط النقل من نيجيريا إلى الجزائر مرورًا بالنيجر لنقل الغاز الطبيعي من الدول الثلاث إلى أوروبا عبر خطوط أنابيب جزائرية، وتُقدر السعة التخزينية للمشروع بما يصل إلى 30 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنويًا.

إضافة إلى ذلك، وقعت كل من شركة "إيني" الإيطالية، وشركة "سوناطراك" الجزائرية في أبريل عام 2022 على اتفاقية جديدة للتعاون بمجال تصدير الغاز، من خلال زيادة حجم الغاز المُصدر عبر خط أنبوب الغاز "إنريكو ماتيي" (ترانسمد)، الذي يربط البلدين عبر تونس والبحر الأبيض المتوس، بمقدار 9 مليارات متر مكعب إضافية سنويًا خلال عامي 2023 و2024، وتسريع وتيرة تطوير مشروعات إنتاج الغاز الطبيعي بين البلدين. وقد جاءت تصريحات الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون خلال لقائه في روما يوم 25 مايو 2022 بمُمثلين عن الجالية الجزائرية المُقيمة في إيطاليا، لتؤكد رغبته في أن تصبح إيطاليا هي الموزع الرئيسي للغاز الجزائري في أوروبا.

وتأتي تلك المشاريع ضمن مساعي الجزائر للحفاظ على موقعها ودورها الاستراتيجي كمصدر أساسي للغاز الطبيعي إلي أوروبا، خاصة بعد اضطراب العلاقات الجزائرية – الإسبانية، على خلفية دعم إسبانيا لموقف المغرب بشأن خطة الحكم الذاتي المغربية في ملف الصحراء الغربية في مارس 2022، ما أسفر عن توقف نسبي في تصدير الغاز الطبيعي إلي إسبانيا والبرتغال عن طريق خط غاز "المغرب العربي – أوروبا" الذي يمر عبر المغرب، حيث يتم الآن تسليم شحنات الغاز إلى إسبانيا من قبل شركة النفط والغاز الجزائرية "سوناطراك"، عبر خط أنابيب "ميدغاز" البحري الذي يربط مباشرة بين البلدين.

أوراق مساومة

تسعى الجزائر من خلال سياستها تجاه ملفات أزمتي مالي، والطاقة، إلى إدارة ملف الصحراء، بما يضمن مصالحها وأهدافها، في ضوء محاولة موازنة علاقتها بين كل من الجانب الأوروبي والروسي، واستغلال تلك العلاقات كأوراق مساومة لكسب دعم الطرفين في قضية الصحراء، وذلك على النحو التالي:

1. بالنسبة لأوروبا: من المُتوقع أن تُسهم أزمتا مالي والطاقة، في كسب الجزائر للدعم الأوروبي في ملف الصحراء. فمن ناحية، تحاول الجزائر تقديم نفسها كفاعل مؤثر ومحوري في تأمين حدود القارة الأوروبية الجنوبية ضد التحديات والتهديدات المُتدفقة إليها من مالي ومنطقة الساحل، من خلال لعب دور رئيسي وهام في إرساء استقرار مالي السياسي والاقتصادي، بما يدعم ويُعزز أمنها الداخلي، وأمن الساحل الأفريقي بشكل عام، ويُقلل من مخاطر وتهديدات الأنشطة الإرهابية، والتهريبية، فضلاً عن تدفقات الهجرة غير الشرعية التي تؤرق دول الاتحاد الأوروبي، وتُزعزع أمنها واستقرارها الداخلي.

ومن ناحية أخرى، تقدم الجزائر نفسها إلى دول أوروبا كبديل، وحليف اقتصادي موثوق به في توفير امدادات الغاز الطبيعي، وحل أزمة الطاقة التي تشهدها أوروبا منذ اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية. ولعل هذا الدور من شأنه أن يدفع بعض الدول الأوروبية إلى تهدئة الأوضاع في علاقتها مع الجزائر، لتجنب تكرار الأزمة القائمة الآن بين الجزائر وإسبانيا، نتيجة دعم الأخيرة لموقف المغرب في ملف الصحراء، كما ذكر آنفًا.

ففرنسا، التي تعتبر حتى الآن داعمًا رئيسيًا للمغرب في ملف الصحراء، قام رئيسها إيمانويل ماكرون بزيارة الجزائر في 25 أغسطس الجاري (2022)، كخطوة نحو تخفيف حدة التوترات والاضطرابات التي تشهدها علاقة بلاده مع الجزائر، وكمحاولة لفتح مجالات جديدة للتعاون الاقتصادي والاستثماري في مجالات إنتاج وتصدير الطاقة، الأمر الذي قد يُعزز من موقف الجزائر، ويمنحها ورقة ضغط رابحة في مواجهة الدعم الفرنسي للمغرب في قضية الصحراء، خاصة في ظل الحديث عن وجود مؤشرات تدل على برود وتوتر العلاقات الفرنسية – المغربية مؤخرًا.

2. بالنسبة لروسيا: بينما يرى المراقبون للمشهد أن التقارب الجزائري – الأوروبي في إطار مشروعات، واتفاقيات الطاقة، التي تهدف في الأساس لاستبدال روسيا بالجزائر كمُصدر رئيسي للغاز إلى القارة الأوروبية، قد يُنذر بتوتر العلاقات بين الجزائر وروسيا، إلا أن الجزائر تسعى من خلال عدة محاور إلى استمرار متانة وعمق العلاقة بين الجانبين، خاصة لضمان استدامة الحصول على الدعم الروسي لها في ملف الصحراء.

فمن جانبها، تعتبر الجهود الدبلوماسية، والأمنية التي تتبناها الجزائر لفرض الأمن والاستقرار في مالي، داعمًا إقليميًا رئيسيًا للدور الأمني الذي تلعبه شركة "فاغنر" الروسية في مالي منذ أواخر عام 2021، لاسيما في ظل الشكوك حول مدى قدرة روسيا على ملء الفراغ الأمني في مالي، وسط ما تشهده البلاد من اضطرابات سياسية وهشاشة أمنية، وأنشطة إرهابية وتهريبية مُتنامية، وفي ضوء ما تواجهه روسيا نفسها من تحديات أمنية واقتصادية وسياسية على خلفية حربها مع أوكرانيا، والعقوبات المفروضة عليها بموجبها.

وبذكر العقوبات المفروضة على روسيا، تُعتبر الجزائر ثالث مستوردي السلاح الروسي، وتُقدر نسبة المعدات العسكرية البريه والبحرية والجوية التي استوردتها الجزائر من روسيا خلال الثلاث سنوات الماضية بحوالي 81% من إجمالي وارداتها من السلاح، وهو الأمر الذي يجعل الجزائر شريكًا اقتصاديًا استراتيجيًا بالنسبة لروسيا خاصة في الوقت الحالي، سواء بالنسبة لوضع روسيا المُضطرب، أو بالنسبة للانتعاشة الاقتصادية التي من المُـوقع أن تشهدها الجزائر خلال الفترة القادمة على خلفية تنامي حجم ووتيرة استثماراتها في صادرات الطاقة.

فقد أبدت الجزائر مؤخرًا رغبتها في الانضمام إلى مجموعة "بريكس" الاقتصادية، التي تضم كلاً من الصين، وروسيا، والبرازيل، والهند، وجنوب إفريقيا، وهي منظمة تشجع التعاون التجاري والسياسي بين الدول الأعضاء، بما يُعزز من دورها في إدارة الاقتصاد العالمي، والتأثير فيه. ومن المُتوقع أن يُمثل انضمام الجزائر إلى تلك المجموعة نقلة نوعية في حجم وطبيعة علاقاتها الاقتصادية مع تلك الدول، بما يوفر للجانبين تحقيق مكاسب، ومصالح مشتركة، لاسيما من حيث تعزيز التبادل التجاري السريع عبر معاملة تفضيلية بين أعضاء المجموعة، وتنفيذ مشروعات، واستثمارات مشتركة، عابرة للقارات.

ختامًا، يمكن القول إن جوهر السياسة الخارجية للجزائر خلال المرحلة القادمة يكمن في الأساس في مدى قدرتها على موازنة سياستها الخارجية بين المعسكرين الأوروبي والروسي، على كافة الأصعدة الدبلوماسية والأمنية والاقتصادية في مختلف الملفات الإقليمية والدولية، بما يضمن تحقيق أهدافها، وتعظيم مكاسبها، دون الإضرار بمصالحها المرتبطة بحلفائها التقليدين.