يقول المفكر الكاميروني الكبير أخيلي ميمبي، مع "دخولنا القرن الحادي والعشرين، يبدو للكثيرين، بمن فيهم أولئك العاملون في القطاع المالي الدولي، أن إفريقيا هي في الواقع آخر الحدود التي يمكن أن تلوذ بها الرأسمالية. لقد أصبح من الواضح أكثر فأكثر أن مستقبل كوكبنا يتم التخطيط له في إفريقيا، سواء كان المرء يتعامل مع مسائل الأزمات البيئية وتغير المناخ واللاجئين والطاقة المتجددة وما إلى ذلك، فإن إفريقيا أضحت على قائمة جدول أعمال العالم". ولعل الاعتقاد السائد اليوم هو أن القرن الحادي والعشرين سيكون قرنًا أفريقيًا. ليس بمستغرب إذن أن يتسابق الجميع مرة أخرى على أفريقيا. في 8 أغسطس الماضي أطلق وزير الخارجية أنطوني بلينكين الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى بمناسبة زيارته إلى جنوب إفريقيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا. فما هو الجديد الذي بشر به بلينكن الشعوب الأفريقية هذه المرة؟ وهل تمثل الوثيقة الجديدة تحولا عن نمط الوضع القائم منذ بداية الحرب الباردة؟
يبدأ نص الوثيقة باقتباس من وزير الخارجية أنطوني بلينكين، الذي قال في نوفمبر 2021 إن "أفريقيا ستحدد المستقبل، ليس مستقبل الشعوب الأفريقية فحسب، بل العالم بأسره". وربما يعكس ذلك – ولوعن غير قصد - ما قاله مفكرنا الكبير ميمبي. قد يبدو هذا غير عادي وخروج عن المألوف إلى حد ما، لأن الإدارات الأمريكية السابقة كانت تعتمد بشكل كبير على حلفائها من القوى الاستعمارية السابقة. على أي حال، ستواجه واشنطن الجهات الفاعلة الأخرى النشطة في إفريقيا. نحن نتحدث هنا عن الصين وروسيا، اللتين تم تحديدهما صراحة على أنهما يشكلان تهديدا لمصالح الولايات المتحدة في المنطقة. وتجدر الإشارة إلى أن الصين ذكرت في نص الوثيقة مرتين، وروسيا سبع مرات. ومع ذلك سوف يتعين على الولايات المتحدة أولاً مقاومة الوجود الصيني في المنطقة، حيث أن بكين تنفذ مشاريع البنية التحتية في الدول الأفريقية منذ فترة طويلة، كما أنها تعطي قروضًا بدون أي مشروطية سياسية، وهو الأمر الذي ترحب به الحكومات الأفريقية.
الأهداف الأربعة الكبرى الجديدة
تحدد استراتيجية الولايات المتحدة تجاه إفريقيا جنوب الصحراء أربعة أهداف استراتيجية للشراكة مع إفريقيا، وتحدد العديد من الأساليب للتعامل مع الدول الأفريقية كشركاء، وتستكشف كيف يمكن تنشيط الأدوات والمؤسسات القائمة بالفعل من أجل "شراكة أمريكية أفريقية في القرن الحادي والعشرين". وتتمحور هذه الأهداف حول:
1. تعزيز وجود مجتمعات عادلة ومنفتحة: تدعو الاستراتيجية إلى مزيد من المساءلة داخل الدول الأفريقية من خلال دعم الضوابط والتوازنات التي تشتمل على استقلال القضاء والصحافة الحرة، وتشجيع الشفافية، بما في ذلك مكافحة الفساد. وتجادل الإستراتيجية بأن المجتمعات المنفتحة من المرجح أن تحقق أهدافًا مشتركة مع الولايات المتحدة في نفس الوقت الذي تبتعد فيه عن كل من روسيا والصين وغيرهما.
2. تعزيز الجهود الديمقراطية ومعالجة التحديات الأمنية: تؤكد الاستراتيجية دعم الولايات المتحدة للديمقراطيات في القارة من خلال دعم منظمات المجتمع المدني، وتمكين الفئات المهمشة، ودعم الانتخابات العادلة، وتوظيف العديد من الأدوات لمعالجة التراجع الديمقراطي. وتؤكد الاستراتيجية أيضًا على النهج ثلاثي الأبعاد (الدفاع والتنمية والدبلوماسية) لجهود بناء السلام، مثل استراتيجية الهشاشة العالمية لمعالجة أسباب الصراعات في أفريقيا. كما تعطي الإستراتيجية الأولوية لمقاربات مكافحة الإرهاب الناعمة التي يقودها المدنيون حيثما أمكن، واستخدام "القوة الأحادية" بشكل مباشر وقانوني عندما يكون التهديد أكثر حدة.
3. تعزيز الانتعاش واستغلال الفرص الاقتصادية بعد الجائحة: تؤكد الاستراتيجية على التعافي من فيروس كورونا في إفريقيا من خلال دعم جهود التطعيم المستمرة وبناء المرونة الصحية على المدى الطويل من خلال توسيع البنية التحتية للصحة العامة وقدرة الدول الأفريقية على الاستجابة بسرعة لقضايا الصحة العامة. وسوف تعمل الولايات المتحدة مع الشركاء لدعم جهود التعافي الاقتصادي من خلال برامج معينة مثل الشراكة من أجل البنية التحتية العالمية والاستثمار، وهي مبادرة استثمار في البنية التحتية من قبل مجموعة الدول الصناعية السبع بهدف تمويل بقيمة 600 مليار دولار لمنافسة مبادرة الحزام والطريق الصينية.
4. تشجيع التكيف مع المناخ وتحولات الطاقة الخضراء: ستدعم الولايات المتحدة الدول الأفريقية في تأسيس البنية التحتية المقاومة لتغيرات المناخ، وجهود التكيف مع المناخ، والحفاظ على النظم البيئية في إفريقيا، وهي حصن مهم ضد التأثيرات السلبية للمناخ. وعليه تدعم الاستراتيجية برامج الطاقة الخضراء كوسيلة لتلبية الطلب المتزايد على الطاقة في القارة.
ويمكن تحقيق هذه الأهداف الأربعة من خلال الشراكات عبر القارة، حيث تقدم الاستراتيجية عدة مناهج لبناء المزيد من الشراكات التعاونية المتكافئة مع الجهات الفاعلة الأفريقية. ويشمل ذلك الحوار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والدول الأفريقية، وتوسيع نطاق المشاركات رفيعة المستوى، ودعم مؤسسات المجتمع المدني، وتعميق العلاقات مع الاتحاد الأفريقي والهيئات الإقليمية، وتشجيع مشاركة القطاع الخاص الأمريكي في أفريقيا. كما تحدد الاستراتيجية أيضًا مجموعة من المبادرات الحالية والمحتملة التي يمكن استخدامها لتنفيذ الاستراتيجية وإعادة تنشيطها لتلائم نموذج شراكة القرن الحادي والعشرين. ويتضمن ذلك تجديد النهج ثلاثي الأبعاد (الدفاع – التنمية الدبلوماسية). وتدعو الاستراتيجية إلى تحديث وتطوير الأدوات الدبلوماسية وزيادة رأس المال البشري والموارد المالية. كما سوف تدعم الولايات المتحدة الاتفاقيات والمبادرات التجارية القائمة مثل "طاقة أفريقيا "و"أفريقيا المزدهرة" لتوسيع الاستثمار والتجارة الأمريكية في إفريقيا.
المصالح الاستراتيجية
هناك مصالح موضوعية -وفقا لمبدأ الرشادة الاقتصادية- للولايات المتحدة تتعلق بحقيقة أنه، وفقًا للتوقعات، بحلول عام 2050، سيكون عدد الأفارقة 25٪ من سكان العالم. وهذا يعني أكبر سوق استهلاكي وقوة عاملة. وإذا طبقنا قانون الأعداد الكبيرة، فهذا يعني أيضا الإمكانات الفكرية والتكنولوجية. كما تمتلك إفريقيا أيضًا ثاني أكبر منطقة غابات مطيرة في العالم وتحتوي على 30٪ من أهم المعادن. ومن حيث النفوذ السياسي، تمثل دول جنوب الصحراء الكبرى 28٪ من الأصوات في الأمم المتحدة. ولا شك أن توظيف هذه الأصوات أمر بالغ الأهمية لواشنطن. في تصويت الأمم المتحدة في وقت سابق من هذا العام لإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، لم تكن الكتلة الأفريقية، وهي واحدة من أكبر الكتل في الجمعية العامة للأمم المتحدة، موحدة في أصواتها. فقد صوتت 28 دولة، من أصل 54 دولة أفريقية عضوًا، لصالح القرار وامتنعت 35 دولة عن التصويت (أبرزها جنوب إفريقيا، وهي قوة إقليمية كبرى). وتغيبت ثماني دول عن التصويت ودولة واحدة فقط هي إريتريا صوتت ضد القرار. وربما دفع ذلك الإدارة الأمريكية إلى إدراك أهمية الصوت الأفريقي في المحافل الدولية. ومن هنا جاء الاهتمام الاستراتيجي بالدول الأفريقية. على الرغم من عدم الاستقرار في عدد منها والاضطراب السياسي وعدم اليقين، فإن واشنطن تريد أن يكون لها دور في تشكيل مستقبل القارة. ويلاحظ نفس الاهتمام أيضًا بأفريقيا من جانب كل من الاتحاد الأوروبي وبعض أعضائه، مثل ألمانيا وفرنسا التي فقدت مؤخرًا بعض نفوذها، بينما تحاول برلين دفع خارطة طريق خاصة بها بنفس أهداف واشنطن.
الاحتواء المزدوج
من الواضح أن تصريحات أنطوني بلينكن أثناء اطلاقه هذه الاستراتيجية كانت معادية لروسيا بطبيعتها. تحدث بشكل نقدي عن تصرفات الشركات العسكرية الروسية الخاصة في كل من مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى على وجه التحديد. ومع ذلك فإن بكين تمثل مشكلة أوسع للبيت الأبيض. لقد كانت الصين لسنوات عديدة أكبر شريك تجاري مع إفريقيا، حيث يصل حجم التجارة إلى 200 مليار دولار سنويًا. كما تعمل أكثر من 10 آلاف شركة صينية في الدول الأفريقية. وفي عام 2020، تم إطلاق صندوق تطوير البنية التحتية لمبادرة الحزام والطريق بقيمة مليار دولار، تلته حزمة مساعدات أفريقية بقيمة 60 مليار دولار. وتعد الصين منذ عام 2011، بمثابة المانح والمستثمر الرئيسي في مشاريع البنية التحتية في إفريقيا، ومن غير المرجح أن تتمكن الولايات المتحدة من اللحاق ببكين وتجاوزها بسرعة في هذا الصدد. بالإضافة إلى ذلك، سبق للصين أن سددت ديون عدد من الدول الأفريقية والخاصة بالتزاماتها الدولية، وهو ما ينظر إليه بإيجابية من قبل الدول الأفريقية، على الرغم من الدعاية الغربية المعادية للصين التي تصف نهجها في إفريقيا بالاستعمار الجديد. تاريخيا، لا يحمل الأفارقة أي ذاكرة سلبية فيما يتعلق بالوجود الصيني، وماضي الصين نفسه يعطي الأمل للدول الأفريقية من أجل التنمية. فيما يتعلق بالبنية التحتية السيبرانية، تنفذ الصين مشروع طريق الحرير الرقمي في إفريقيا. ويتم معظم ذلك من خلال "زد تي إي"، التي تلقت سابقًا قروضًا بقيمة 2.7 مليار دولار أمريكي. ورغم ذلك تختلف تقديرات مراكز الرأي الأمريكية على مخاطر الوجود الصيني في أفريقيا. أشارت مؤسسة راند في دراسة لها حول هذا الموضوع إلى أن الصين لا تشكل بالضرورة تهديدًا استراتيجيًا لمصالح الولايات المتحدة. ولكن في ظل إدارة دونالد ترامب، اشتدت حدة الخطاب المناهض للصين داخل الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن الديمقراطيين كانوا ينتقدون ترامب بشدة في العديد من قضايا السياسة الخارجية، إلا أن نهج المواجهة مع الصين استمر على حاله. وتفصح الوثيقة الجديدة أن إدارة الرئيس بايدن تتبني سياسة الاحتواء المزدوج لمواجهة النفوذ المتزايد لكل من الصين وروسيا في أفريقيا.
الخاتمة
على الرغم من أن نفوذ الولايات المتحدة وحلفائها لا يزال قويا في أفريقيا فإنه يواجه العديد من التحديات التي يمكن فهمها من نصوص الوثيقة الجديدة. إذ يطرح النهج الأمريكي على الرغم من اختلاف اللغة عن وثائق السياسة الخارجية الأمريكية السابقة العديد من التساؤلات حول الإصلاح الديموقراطي وإمكانية تصدير نمط الثورات البرتقالية، وإذا كانت واشنطن تدعم ما يسمى بـ "الجماعات المهمشة"، ومن بينها المثلية الجنسية، فمن الواضح أن هذا يؤدي في نهاية المطاف إلى التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأفريقية. وفي المجال الأمني، فإن القيادة الأفريقية للبنتاغون، المسؤولة عن القارة، لها قواعدها ومنشآتها في عدد من البلدان. ومن جهة أخرى فإن المشروطية السياسية المرتبطة بالقروض الأمريكية والغربية تجعل القروض الصينية أكثر جاذبية. بالإضافة إلى ذلك، هناك فرص إضافية للأفارقة، مثل بنك بريكس (حيث تعد جنوب إفريقيا أحد أعضاء هذا التجمع الذي يضم كذلك روسيا والصين والهند والبرازيل) أو من خلال الجهات الفاعلة الأخرى في المنطقة، مثل بعض القوى الشرق أوسطية الصاعدة.
وإدراكًا لذلك، من المرجح ألا تتنافس الولايات المتحدة بشكل مباشر مع الصين، لكنها ستحاول احتلال منافذ وفضاءات فارغة وتوسيع وجودها حيث تتمتع بمكانة موثوقة. ومن المحتمل كذلك أنه بالتوازي مع ذلك، ستوظف الولايات المتحدة وحلفاءها حربًا إعلامية ضد الصين، بكل طريقة ممكنة لتشويه سمعة أي مبادرات لبكين. وهناك احتمال كبير لاستخدام المجتمعات الأفروأمريكية، داخل الولايات المتحدة كرصيد إضافي لتحقيق غايات هذه الاستراتيجية. ومع ذلك، فإن مثل هذه الإجراءات، وإن بدت محدودة من قبل واشنطن يمكن أن تنال من سيادة الدول الأفريقية بطريقة أو بأخرى. كما أن استمرار الوجود العسكري وأجهزة المخابرات الغربية بحجة ضمان الأمن سيشكل تهديدًا لاستقرار المنطقة. ولعل ذلك كله يدفع إلى أهمية تبني مقاربات أفريقية إقليمية وقارية لتحقيق الأمن والاستقرار لشعوب القارة.