تشهد العلاقات بين روسيا وإيران في المرحلة الحالية تعاوناً غير مسبوق فرضته مصالح البلدين في مواجهة ضغوط غربية متزايدة على كل منهما، بينما شكلت الحرب الأوكرانية فرصة مهمة لتوطيد هذا التعاون، والبناء على مجالات التفاهم المشتركة المتاحة بالفعل، لاسيما في ما يخص البرنامج النووي، بالرغم من انعدام الثقة المتجذر بينهما تاريخياً، والمنافسة في العديد من الملفات السياسية والاقتصادية.
إذ أعادت تداعيات هذه الحرب صياغة محددات المصالح بينهما ليشكل فيها العامل الاقتصادي محوراً مهماً، بعد أن طغى المحدد السياسي، والتقني، والعسكري، على العلاقات بين البلدين لسنوات طويلة، وهو ما ظهر جلياً من خلال توقيع البلدين على عدد من الاتفاقيات الاقتصادية، والتركيز حالياً على دراسة بنود اتفاق إطاري طويل المدى على غرار اتفاق إيران مع الصين، فيما يرى الخبراء أن الاقتصاد سيكون قاطرة هذا الاتفاق.
وفي إطار تلاقي مصالح البلدين، يشير تصريح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خلال لقائه مع وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان على هامش قمة عشق أباد، في 31 أغسطس 2022، بأن "روسيا تدعم عضوية إيران في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي"، إلى مدى ارتباط مصالح البلدين خلال هذه الحقبة، وما يمكن أن يتحقق لهما من مكاسب مشتركة حال كان كل منهما تحت مظلة أطر اقتصادية دولية وإقليمية مهمة.
أهمية الاتحاد الاقتصادي الأوراسي
تأسس الاتحاد الاقتصادي الأوراسي كمنظمة دولية للتكامل الاقتصادي، في منطقة وسط آسيا وشمالها وفي أوروبا الشرقية، من قبل روسيا وكازاخستان وبلاروسيا، وانضمت إليه لاحقاً أرمينيا وقرغيزيا، وفيتنام. فيما تتمتع مولدوفا وأوزبكستان وكوبا بوضع مراقب فيه. إذ وقع قادة بيلاروسيا وكازاخستان وروسيا معاهدة الاتحاد في 29 مايو عام 2014، ودخلت حيز التنفيذ في 1 يناير عام 2015. ويوفر الاتحاد لأعضائه حرية تنقل السلع والخدمات ورؤوس الأموال والأيدي العاملة، وانتهاج سياسة متفق عليها في قطاعات التجارة والطاقة والصناعة والزراعة والنقل وفق اتفاقيات مؤسسة لهذه السياسات. وقد أعربت أكثر من 40 دولة من بينها الصين واندونيسيا وأغلب دول أمريكا اللاتينية عن رغبتها في الانضمام إلى الاتحاد، كما يُجري الأخير مفاوضات مع كوريا الجنوبية ومصر والهند للانضمام لعضويته إلى جانب إيران.
ويشكّل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي كمنظمة سوقاً موحدة تضم حوالي 180 مليون شخص يمثلون قوام هذا السوق، فيما يبلغ الناتج المحلي الإجمالي لدوله الأعضاء حوالي 5 تريليون دولار أمريكي، حسب إحصائيات عام 2020. ويمثل الاتحاد أرضية انطلاق لدوله الأعضاء نحو الاتفاق على عملة موحدة ومزيد من إجراءات التكامل في المستقبل. فيما تجدر الإشارة إلى أن الاتحاد كان نواة للاتحاد الجمركي لبيلاروسيا وكازاخستان وروسيا، الذي يعرف حالياً باسم الاتحاد الجمركي الأوراسي، في 1 يناير عام 2010. وكانت أولويات الاتحاد الجمركي هي إلغاء التعريفات الجمركية بين الدول المكونة له، وكذلك إزالة الحواجز غير الجمركية بين الدول الأعضاء. وقد كان إطلاقه خطوة أولى نحو تشكيل سوق موحدة على غرار الاتحاد الأوروبي.
وتقود روسيا الاتحاد الأوراسي، الذي يعمل من خلال مؤسسات فوق وطنية. وتعد أكبر دولة بين أعضائه، حيث يشكل اقتصاد روسيا وحده 80% من إجمالي الناتج المحلي لدول الاتحاد الحاليين، وهو ما يُحّمل روسيا مهمة إنجاز عملية اندماج اقتصادات دوله. ويتضح ذلك من خلال المساعدات التي تقدمها روسيا لبلاروسيا وقرغيزيا وأرمينيا.
وحسب العديد من الخبراء، فإن روسيا بحاجة إلى منظمات دولية، كي تشعر بأنها "دولة قوية"، تمارس من خلالها نفوذها، كما هو الحال في الاتحاد الأوراسي، حيث تمنح روسيا الأعضاء مساعدات ووعوداً بالحفاظ على الحدود، والدعم السياسي، مثل ما حدث مع الرئيس الكازاخستاني نور سلطان نزارباييف الذي حصل على ضمانات من روسيا بعدم المس بحدود كازاخستان كدولة.
وبالنسبة لإيران، فإن الاتحاد الأوراسي يمثل فرصة ذهبية لها لتوسيع مجال علاقاتها السياسية، وفك عزلتها الاقتصادية، في مواجهة العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من قبل الولايات المتحدة الأمريكية.
مصالح موسكو
تتعدد المصالح التي يمكن أن تتحقق لروسيا من انضمام إيران للاتحاد الاقتصادي الأوراسي، ومن بين هذه المصالح:
1. الحفاظ على النفوذ الروسي: خططت روسيا لبناء الاتحاد الاقتصادي الأوراسي في البداية كمثيل لتجربة الاتحاد الأوروبي، مع احتفاظ روسيا بأدوات وآليات النفوذ داخل هذا الكيان، من خلال البدء باتحاد جمركي مع بيلاروسيا وكازاخستان، ثم إضافة أغلب جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق. إذ تسعى روسيا إلى إنشاء منظمات دولية موازية للمنظمات الدولية الكبرى، تقوم بنفس دورها مع الأخذ في الاعتبار مكانة روسيا في هذه المنظمات، على غرار ما تقوم به روسيا في مجموعة البريكس – التي تضم كلاً من: الهند، والصين، والبرازيل، وجنوب أفريقيا، حيث تسعى إلى إنشاء بنك للتنمية من شأنه أن يخدم الدول الأعضاء في الاتحاد كبديل لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي الخاضعين لسيطرة الغرب بشكل كبير.
وفي هذا الإطار، تمثل إيران فرصة لروسيا للإفلات من العقوبات الاقتصادية التي يرجح أن يطول مداها على الأخيرة، إذا لم تحدث توافقات خلال موسم الشتاء القادم مع أوروبا حول إمدادات الطاقة والغذاء، من خلال التعاون الوثيق ضمن اتفاقيات الاتحاد والإعفاء الجمركي، لاسيما في ظل التعاون الذي أبدته إيران مع روسيا في مجال سبل وآليات تلافي العقوبات الغربية المفروضة على روسيا على خلفية حرب أوكرانيا، الأمر الذي من شأنه في النهاية دعم موقف روسيا الاقتصادي بشكل عام، وداخل الاتحاد بشكل الخاص.
2. إنشاء طرق تجارية بديلة بعيدة عن سيطرة الغرب: ويعد هذا الهدف من أهم دوافع دعم روسيا لانضمام إيران للاتحاد، حيث تسعى موسكو إلى تطوير الممر التجاري الرابط بين الشمال والجنوب، والذي يبدأ من ميناء أستراخان الروسي مروراً ببحر قزوين، ثم ميناء أنزلي في إيران، وينتهي بميناء نهافا شيفا الهندي، كوسيلة لإيجاد البديل للممر الشرقي الغربي، وممر سوفالكي البري، نظراً لهيمنة الغرب عليهما. وبالتالي البعد عن نفوذ أوروبا على نقاط هذه الطرق الحيوية، لاسيما عقب الحرب الأوكرانية، وتصاعد أزمة إمدادات الغذاء، وفرض عقوبات أوروبية على روسيا. وفي ظل رغبة روسيا في إنشاء مسارات بديلة للأسواق التجارية التقليدية لها، لاسيما في منطقة الشرق الأوسط، فإن التعاون الموسع مع إيران في هذا المجال أصبح أمراً لا غنى عنه.
حسابات طهران
على الجانب الآخر، يمكن لإيران تحقيق عدد من المكاسب من انضمامها للاتحاد الاقتصادي الأوراسي تتمثل في:
1. تعزيز الوجود في المنظمات الدولية والإقليمية: تحاول إيران تنشيط تحركاتها الدولية من خلال تفعيل وجودها في الأطر والتنظيمات الدولية والإقليمية. ويظهر ذلك في حرص القادة الإيرانيين على حضور القمم والاجتماعات الدولية والإقليمية المختلفة، كما يظهر أيضاً في سعيها للحصول على عضوية دائمة لدى العديد من المنظمات، ومثلما سعت إيران مؤخراً إلي عضوية منظمة شنغهاي للتعاون طوال 15 عاماً، بدأتها بصفة مراقب، تسعى حالياً للعضوية الدائمة في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، بعد أن نجحت في 28 أغسطس 2022، في عقد اتفاق مهم مع الاتحاد، يقضي بتشكيل منطقة تجارة حرة، على أن يدخل حيز النفاذ بنهاية أكتوبر القادم، لتنضم إلى قائمة قصيرة من الدول التي عقدت مع الاتحاد الاتفاق نفسه وهي دول: فيتنام وسنغافورة وصربيا، وهو ما يُنتظر منه أن يمثل نقلة جديدة للنظام التجاري الإيراني.
وتساعد روسيا إيران في الحصول على هذه الميزة الاقتصادية المهمة في هذا التوقيت الحرج، نظراً لقيادة روسيا للاتحاد الأوراسي ومكانتها المهمة فيه، ضمن تعاون اقتصادي وسياسي وعسكري باتت ملامحه أوضح بين البلدين. كما يأتي الدعم الروسي لتوقيع إيران اتفاقية منطقة تجارة حرة مع الاتحاد، متسقاً مع رغبة روسيا وإيران في تعزيز العلاقات التجارية، وسعيهما للوصول لسقف الـ 40 مليار دولار خلال عام ونصف، تنتهي بنهاية العام المالي الإيراني الحالي، أي في مارس 2023، وتأكيد المسئولين ذوي الصلة على أن نمو التجارة بين البلدين يرجح أن يصل إلى نسبة 60% بنهاية العام المالي الإيراني الحالي أيضاً.
2. محاولة الخروج من العزلة الاقتصادية: يتوقع أن تسمح العضوية الكاملة في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي لإيران بفك العزلة التي تفرضها العقوبات الاقتصادية الأمريكية من خلال علاقات اقتصادية متنامية مع أعضاء الاتحاد بموجب اتفاقيات اقتصادية وتكنولوجية، تفرض التعاون في إطار سياسات نقدية ومالية خاصة بدول الاتحاد، فضلاً عن تسهيلات المنطقة الحرة، والإعفاء الجمركي بين أعضائه، وهو ما يضيف لجهود إيران في عقد اتفاقيات طويلة الأجل مع حلفائها الاقتصاديين لاسيما الصين. وعلى الأرجح سيعزز ذلك مكانتها التفاوضية مع الغرب، حال تم الإبقاء على مفاوضات إحياء الاتفاق النووي، وعدم التوصل إلى قرار بإنهاء هذه المفاوضات وإعلان فشل الاتفاق.
في النهاية؛ يمكن القول إن ثمة مصالح مشتركة بين البلدين تلتقي بحصول إيران على عضوية كاملة في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وأن يتطور التعاون بين البلدين في مجالات التعاون المختلفة تحت المظلة الموسعة للاتحاد الاقتصادي الأوراسي، مما يضفي على الاتحاد طابع العالمية، وينفي كونه اتحاداً بين دول ما بعد الاتحاد السوفيتي، وهو اتجاه حاولت روسيا ترسيخه بضم دول من خارج المنطقة بصفة مراقبين، وبتوقيع فيتنام وإيران وسنغافورة وصربيا اتفاقيات إنشاء مناطق تجارة حرة مع الاتحاد. وبالتالي سيكون الضم الرسمي لإيران بمثابة فتح المجال أمام توسع الاتحاد خارج حدوده الإقليمية التقليدية، وهو ما يمثل إضافة إلى روسيا في النهاية باعتبارها قائدة الاتحاد، والدولة الأكبر داخله.