في أول جولة له خارج الصين منذ تفشي فيروس كورونا؛ أي قبل أكثر من عامين ونصف، زار الرئيس الصيني “شي جين بينج”، ما بين 14 و16 سبتمبر 2022، كلاً من كازاخستان وأوزبكستان؛ لعقد جلسة مباحثات موسعة مع نظيره الكازاخي في نور سلطان، ثم حضور قمة “منظمة شنجهاي للتعاون” في سمرقند؛ وذلك في إطار مساعي بكين إلى زيادة نفوذها في منطقة آسيا الوسطى، التي تضم كلاً من (كازاخستان، وأوزبكستان، وتركمانستان، وطاجيكستان، وقيرغيزستان)، باعتبارها عقدة مهمة في مشروع البنية التحتية العالمية “الحزام والطريق”، فضلاً عن محاولتها إعادة تأكيد نفوذها العالمي خلال فترة الاحتكاك المتزايد مع الغرب، على خلفية أزمتي تايوان والحرب الروسية–الأوكرانية.
دوافع رئيسية
ثمة أهداف متعددة قد تفسِّر دوافع جولة شي في منطقة آسيا الوسطى لتعزيز أطر التعاون المشتركة مع جمهورياتها الخمسة، خاصةً خلال هذه الفترة الحرجة التي تمر بها المنطقة والعالم. ويمكن الإشارة إلى أبرز تلك الدوافع فيما يلي:
1. الأهمية الجيوسياسية لمنطقة آسيا الوسطى: إن اختيار “شي” لآسيا الوسطى يهدف إلى إرسال رسالة واضحة حول أولويات السياسة الخارجية لبكين، خاصةً في ظل تصاعد التوترات مع الغرب حول جزيرة تايوان؛ إذ عادة ما تلجأ الصين إلى زيادة اعتمادها على أسواق دول المنطقة عند حدوث أي توتر مع تايبيه، لا سيما اعتماد “شي” على توسيع طريق الصين التجاري البري إلى الغرب، من خلال مبادرة “الحزام والطريق”، الذي أكد أهميتها في سياسته الخارجية، فضلاً عن محورية دور المنطقة في تنفيذها. ويعد اختيار الرئيس الصيني كازاخستان محطةً أولى في جولته الخارجية، بمنزلة إشارة إلى هذا الإرث؛ حيث أعلن عن هذه المبادرة هناك في عام 2013، بعد أقل من عام من توليه السلطة.
هذا ومع تزايد حدة الأزمات الاقتصادية العالمية، على خلفية الحرب الأوكرانية وتعطل سلاسل الإمداد العالمية، تسعى بكين إلى تعميق الاتصال بجمهوريات آسيا الوسطى لمواصلة التعاون في مبادرة الحزام والطريق، من أجل ضمان انسياب حركة تجارتها مع أوروبا عبر الاستثمار في الجسور والطرق البرية ومشروعات السكك الحديدية المنفذة والجاري تنفيذها مع شركائها الإقليميين، ومن ثم ربط عشرات الدول بالصين، وهو ما يعد مشروعاً فريداً للزعيم الصيني، ومتوافقاً مع طموحاته لإعادة تشكيل النظام الاقتصادي العالمي.
2. الاستفادة من مصادر الطاقة: تسعى الصين إلى تأمين الحصول على كافة احتياجاتها من مصادر الطاقة، على أساس أن دولاً مجاورةً لها – أو على مقربة منها – تمتلك احتياطيات مؤكدة من النفط (31.5 مليار برميل) والغاز (16.7 تريليون متر مكعب)؛ هذا بجانب إشارة تقديرات الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى استحواذ كازاخستان على أكثر من ربع احتياطي اليورانيوم العالمي، فضلاً عن تصدرها قائمة دول العالم من حيث حجم الإنتاج السنوي له، وهو مورد متزايد الأهمية مع تحول الدول المتقدمة إلى الطاقة الذرية مصدراً للطاقة على المدى الطويل، ومن ثم أصبح للمنطقة أهمية استثنائية لأمن الطاقة بالصين، لا سيما في ظل حرصها على زيادة وتيرة النمو والتصنيع؛ من أجل ضمان استمرارية قوة النمو الاقتصادي للبلاد.
3. تأمين الحدود الغربية للصين: تكثف الصين جهودها، بالتشارك مع جمهوريات آسيا الوسطى، لتأمين استقرار حدودها الغربية، وضمان الوصول إلى تلك الأسواق والاستفادة من مواردها الغنية، واستخدامها محطات لنقل تجارة الصين نحو الغرب، وهو أمر يتسق مع رغبة الصين في نقل كامل تركيزها إلى حدودها الشرقية، في ظل اشتداد حالة التنافس الاستراتيجي مع الولايات المتحدة في منطقة الهندو–باسيفيك، على خلفية زيادة نشاط تحالفَي “الرباعية” و”أوكوس” المناهضَين للصعود الصيني في المنطقة.
4. دعم صورة الرئيس الصيني قبل انعقاد مؤتمر الحزب الشيوعي: تأتي هذه الجولة في وقت حرج بالنسبة إلى الرئيس الصيني “شي جين بينج”؛ حيث جاءت قبل شهر واحد فقط من انعقاد مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني، الذي يعقد مرة كل خمس سنوات. ومن المُتوقَّع أن يأخذ الزعيم الصيني فترة ولاية ثالثة غير مسبوقة، لتُعَد بمنزلة خطوة ستعزز دوره كأقوى زعيم للصين منذ عقود. ومن ثم فإن شعور “شي” بالراحة الكافية للسفر خارج الصين خلال هذه الفترة يدل على ثقته بقبضته على السلطة، وربما يسعى خلال تلك الزيارة إلى صقل أوراق اعتماده في ملف السياسة الخارجية الصينية.
أدوات التحرك
تسعى الصين إلى تأسيس علاقات استراتيجية مع مختلف بلدان منطقة آسيا الوسطى؛ للتأكد من عدم تقاربها مع شركاء جدد، وخاصةً الدول الغربية، خوفاً من استغلالها الأزمات الاقتصادية والأمنية التي تتعرض لها المنطقة، على خلفية التداعيات السلبية للأزمات الإقليمية والعالمية الراهنة. وفي هذا الإطار، لجأت بكين إلى أدوات تهدف من خلالها إلى جذب دول المنطقة إليها. ويمكن إيجاز أبرزها على النحو التالي:
1. الدعم الأمني لدول المنطقة: قبل زيارته إلى المنطقة، تعهَّد الرئيس الصيني بالدفاع عن الأمن المشترك للصين ومنطقة آسيا الوسطى، معلناً عن استعداد بكين للعمل مع الجمهوريات الخمس لتعميق التعاون في مجالات إنفاذ القانون والأمن والدفاع، لا سيما مكافحة تهريب المخدرات والجريمة المنظمة العابرة للحدود، وكذلك ما تسميه الصين “الشرور الثلاثة”، التي تُعرَف بالإرهاب والانفصالية والتطرف الديني؛ إذ تعمل بكين على استخدام منظمة شنجهاي منصةً إقليميةً لتعزيز التعاون الأمني مع دول المنطقة، فضلاً عن استخدامها لتأمين أفغانستان كأولوية ضرورية، في ظل استمرار حالة عدم الاستقرار الأمني بها، خاصةً أن بكين تنظر إليها باعتبارها مفتاح التنمية المستقرة في المنطقة، باعتبارها أحد الشركاء الإقليميين المساهمين في طريق الحرير البري.
2. توريد أسلحة إلى دول المنطقة: فبحسب تقديرات منشورة في مايو 2022 من قبل مركز ويلسون الدولي، نجحت الصين في زيادة حصتها من المعدات العسكرية التي توردها إلى دول آسيا الوسطى خلال خمس سنوات إلى 18%، بعد أن كانت النسبة 1.5% خلال الفترة 2010–2014. وتلقَّت دول المنطقة أسلحة متطورة تقنياً من الصين، بما في ذلك طائرات بدون طيار، ومعدات اتصالات؛ فعلى سبيل المثال، كانت أوزبكستان أول دولة تستقبل الطائرات المسيرة Wing Loong–I من الصين في عام 2014. وهذا الأمر تزامن مع تقارير تتحدث عن مساعٍ صينية لتعزيز العلاقات العسكرية مع دول المنطقة؛ ففي عام 2019 ذكرت تقارير صحفية غربية وأمريكية، على وجه الخصوص، أن الصين أقامت منشأة عسكرية في طاجيكستان.
3. استخدام الأدوات الاقتصادية والتجارية: تمتلك بكين جملة من المصالح الاقتصادية والتجارية في آسيا الوسطى، ولعل أبرزها البحث عن أسواق كبيرة للسلع والخدمات الصينية، فضلاً عن تأمين مصادر الطاقة، وتسهيل حركة تجارتها البرية مع شركائها في الغرب؛ لذا اتخذت بكين خطوات متسارعة لتعزيز حضورها في هذه المنطقة من خلال مشروعات خطوط الطاقة والبنية التحتية مع مختلف جمهوريات المنطقة، وكذا ضخ المزيد من الاستثمارات الصينية التي كانت قد وصلت إلى 40 مليار دولار بنهاية 2020، كما يعمل هناك أكثر من 7700 شركة صينية في عدة مجالات مختلفة.
هذا بجانب توجهها نحو تعزيز حركة التبادل التجاري مع دول المنطقة، حتى استطاعت الصين اعتلاء قائمة الشركاء التجاريين للدول الخمس، عن طريق وصول حجم التبادل التجاري بين الجانبين إلى نحو 42 مليار دولار عام 2021، مقابل نحو مليار دولار فقط عام 2001؛ الأمر الذي يعني تفوق السلع الصينية على نظرائها الغربية في أسواق تلك الدول، بل تسعى إلى زيادة حجم تجارتها مع المنطقة ليصل إلى نحو 70 مليار دولار.
4. تقديم مساعدات لمكافحة وباء كورونا: واصلت الصين العمل مع جمهوريات المنطقة لمكافحة تفشي وباء كورونا، لا سيما التعاون في مجال أبحاث وتطوير اللقاحات والأدوية، بجانب تدشين مركز للطب التقليدي الصيني في آسيا الوسطى؛ حيث سعت بكين إلى توفير لقاحَي سينوفارم وسينوفاك، في وقت كان يُنظَر فيه إلى الغرب على أنه يخزن الإمدادات من اللقاحات، ويرغب في إعادة بيعها بأسعار مرتفعة؛ ما أكسبها نفوذاً وحضوراً أكبر في تلك البلدان، وهي درجة من الثقة فقدها الغرب والولايات المتحدة على وجه الخصوص، داخل المنطقة.
تداعيات محتملة
تظل التحركات الصينية في منطقة آسيا الوسطى مرهونة بعدة عوامل إقليمية ودولية، بل قد يتعلق الأمر بمواقف شعوب المنطقة نفسها من تلك التحركات؛ لذا قد تشهد المنطقة عدة تداعيات محتملة إثر سياسات بكين تجاهها، ومن أبرزها:
1. إثارة المخاوف الروسية: بالرغم مما تشهده العلاقات الروسية–الصينية مؤخراً من زخم كبير، فإن من المحتمل حدوث بعض التوترات بين الجانبين في إطار دورهما داخل منظمة شنجهاي للتعاون؛ إذ تحاول بكين استغلال الفراغ الذي خلَّفه الاتحاد السوفييتي في المنطقة بعد تفككه عام 1991، لتعزيز دورها ومكانتها إقليمياً ودولياً، في المجالات الاقتصادية والسياسية والأمنية، وهو ما أثار حالة من عدم الارتياح لدى موسكو التي تحاول إعادة بناء الاتحاد السوفييتي، وتعزيز بعض مصالحها التي لا تتوافق دائماً مع بكين في المنطقة، بيد أنه في ظل الأوضاع الراهنة، قد لا نشهد تناقضات قوية بين الجانبين في المنطقة، على الأقل خلال المدى القريب، بل قد نشهد تعاوناً بينهما لتكوين جبهة مشتركة ضد نفوذ الغرب في المنطقة، حتى في الوقت الذي تسعى فيه بكين إلى اختراق مجال نفوذ روسيا التقليدي في آسيا الوسطى.
2. محاولات غربية لتحجيم التحركات الصينية: من الطبيعي أن الدول الغربية، خاصةً الولايات المتحدة، ستحاول مناهضة الحضور الصيني المتصاعد في المنطقة، وخصوصاً أن الغرب سعى إلى كسب مزيد من النفوذ هناك على مدار العقود الثلاثة الماضية، من خلال مواصلة تشجيع المسارات التي تقلل الاعتماد الاقتصادي للمنطقة على روسيا والصين، فضلاً عن العمل مع دول المنطقة في القضايا الأمنية ومكافحة الإرهاب، والتعاون معها في تحفيز النمو الاقتصادي ومكافحة التغيرات المناخية، بجانب تقديم مساعدات اقتصادية من قبل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية تقدر بنحو 9 مليارات دولار للأسر الضعيفة في بلدان آسيا الوسطى، خلال الفترة من عام 1991 حتى عام 2021، ومن المتوقع أن تشهد تلك المساعدات زيادة مضطردة خلال السنوات المقبلة.
3. توظيف دول آسيا الوسطى الدعم الصيني: من المتوقع أن يقابل التحرك الصيني حماسٌ من دول آسيا الوسطى لقبول هذا الوجود، بل تطوير العلاقات معها على كافة الأصعدة؛ نظراً إلى ما تمثله الصين من نموذج تنموي ناجح يتمتع بقوة اقتصادية وعسكرية وتكنولوجية متقدمة، فضلاً عن إمكانية الاستفادة من المميزات والمحفزات التي ستوفرها بكين لدول المنطقة، سعياً منها إلى تحقيق التنمية الاقتصادية والمستدامة، إلا أن البعض يعتقدون أن مشروعات البنية التحتية وخطة الاستثمارات الصينية تجعل دول المنطقة أكثر اعتماداً على الصين، ومن ثم يخشون من أن يمنح الاعتماد الاقتصادي لبلدانهم عليها بكين نفوذاً أكبر، ومن ثم يمنحها مزيداً من التبعية للسياسات والتوجهات الصينية إزاء مختلف القضايا الإقليمية والعالمية.
4. احتمالية تنامي الاستياء المجتمعي تجاه النفوذ الصيني: نتيجة لسياساتها الاضطهادية ضد مسلمي الإيجور في مقاطعة شينجيانج الصينية المتمتعة بالحكم الذاتي، قد تواجه الصين تحدياً كبيراً في طريقها لزيادة انفتاحها على أسواق جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية، في ظل احتمالات رفض شعوبها التقارب معها، خاصةً كازاخستان التي تتمتع بحدود واسعة مع هذه المقاطعة الصينية؛ إذ ضغط بعض السكان الكازاخيين على الرئيس الكازاخي قاسم جومارت توكاييف لإثارة قضية السياسات التمييزية والعنصرية تجاه أشقائهم المسلمين في الصين، خلال لقائه الرئيس الصيني، ومطالبته بالإفراج عنهم، بيد أن الشرطة المحلية في كازاخستان ألقت القبض على بعض الكازاخيين المحتجين، فضلاً عن عدم اهتمام توكاييف بمطالب شعبه إزاء تلك القضية، ومن ثم قد ينظر المحتجون إليه بأنه متواطئ في اضطهاد الإيجور في الصين؛ بسبب اعتماد كازاخستان الاقتصادي الهائل على بكين.
خلاصة القول: مما لا شك فيه أن الصين تتمتع بمزايا تنافسية تجعلها أكثر قدرةً على السيطرة والحضور في منطقة آسيا الوسطى؛ نظراً إلى ما تتمتع به من مقومات اقتصادية وعسكرية وتكنولوجية هائلة، لا سيما أن دول المنطقة في أمس الحاجة إلى المحفزات والمساعدات التي تقدمها بكين لها؛ وذلك في ظل ما تشهده المنطقة من اضطرابات سياسية واقتصادية وأمنية على خلفية الأزمات الإقليمية والعالمية التي نشهدها خلال الفترة الأخيرة، بيد أن بكين قد تواجه بعض التحديات المتمثلة في ضرورة التنسيق مع موسكو فيما يخص تحركاتها في إحدى مناطق نفوذها التاريخية، فضلاً عن احتمالات تزايد نفوذ بعض الدول الغربية المناهضة للوجود الصيني والروسي في المنطقة، وعلى رأسها الولايات المتحدة، مستغلةً في ذلك المتغيرات الناجمة عن الحرب الأوكرانية وانشغال موسكو بالحرب.