• اخر تحديث : 2024-11-22 10:05
news-details
تقدير موقف

لماذا تزايدت مؤشرات الهجرة العكسية في العالم؟


على عكس الاتجاهات التقليدية للهجرة، سواء على المستوى الدولي من الدول النامية والفقيرة إلى الدول الغربية وبخاصة الدول الأوروبية، أو على المستوى الداخلي من المناطق الريفية إلى العواصم والمدن الكبرى؛ يمكن ملاحظة تصاعد مؤشرات “الهجرة العكسية” خلال السنوات الأخيرة؛ الأمر الذي يرتبط بعدد من العوامل والأسباب، ويترك عدداً من الانعكاسات والنتائج على المناطق والدول المرتبطة بموجات الهجرة العكسية، ويعيد رسم خريطة الهجرة المحلية والدولية، وما يرتبط بها من نتائج وتأثيرات. وقد مثَّلت جائحة كوفيد–19 أحد العوامل والمحطات البارزة في تسليط الضوء على الهجرة العكسية المحلية والدولية، خاصةً في فترة الإغلاق، فضلاً عن الدور الذي لعبته الاعتبارات الصحية والبيئية بخلاف الاقتصادية والسياسية.

مؤشرات الظاهرة

ثمة عدد من المؤشرات تشير إلى بروز ظاهرة الهجرة العكسية بأشكال ودوافع ومختلفة في عدد من دول العالم، وتتمثل أهم هذه المؤشرات فيما يأتي:

1. العودة من العواصم والمدن الكبرى إلى المناطق الريفية: في حين أن الهجرة من الريف إلى الحضر هي الاتجاه السائد في الهجرة الداخلية، فإنه يمكن ملاحظة بروز اتجاه للهجرة العكسية من العواصم والمدن الكبرى والعودة إلى البلدات الصغيرة أو المناطق الريفية في بعض الدول. وعلى سبيل المثال، تشير تقارير إلى موجة هجرة عكسية في السنوات الثلاث الأخيرة من مدينة إسطنبول إلى الداخل التركي، خاصةً بعد أن تفاقمت المشكلات اقتصادية والاجتماعية في المدينة، وزيادة الضغط على خدماتها وبنيتها التحتية. ويلاحظ هنا أن السلطات الرسمية حاولت تشجيع الهجرة العكسية من المدينة؛ وذلك بتقديم مساعدات لبعض العائلات تعزز قدرتها على الاستقرار في الأماكن الجديدة التي ينتقلون إليها.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن فيروس كورونا كان له تأثير بارز في هذا الإطار؛ فمع فرض العديد من الدول حالة الإغلاق خلال الجائحة، وتعطُّل مختلف الأنشطة، نشطت موجات الهجرة العكسية من المدن الكبرى إلى البلدات الريفية. فعلى سبيل المثال، تشير تقديرات إلى عودة أكثر من 15 مليوناً في الهند من المدن والمراكز الصناعية، كما تفيد دراسة أجراها مركز التفوق للإحصاء الاقتصادي في المملكة المتحدة، قارنت الفصل الثالث من عام 2019 بنظيره في عام 2020، بمغادرة ما يصل إلى 1.3 مليون مهاجر من المملكة المتحدة بسبب جائحة كوفيد–19 والأضرار التي ألحقتها بقطاعات مثل الضيافة، وخسارة العاملين في تلك القطاعات وظائفهم، وهو ما يُعَد أكبر انخفاض لأعداد السكان في البلاد منذ الحرب العالمية الثانية. وغادر قرابة 700 ألف من المهاجرين العاصمة البريطانية لندن؛ ما أدى إلى تراجع حجم السكان بنسبة 8% تقريباً.

2. الانتقال إلى البلدات الصغيرة غرب الولايات المتحدة: تشهد الولايات المتحدة الأمريكية موجة هجرة عكسية داخلية بانتقال العاملين من المدن الكبرى إلى البلدات الصغيرة. ولعل هذا ما يتَّضح في ولايات أيداهو ويوتا ومونتانا. وفي هذا الصدد اختارت مؤسسة “أكسفورد إيكونوميكس” للاستشارات، بحسب تقرير لصحيفة الشرق الأوسط، مدينة “بويز” بولاية أيداهو، باعتبارها المدينة الأكثر تكلفةً لأصحاب المنازل في الولايات المتحدة، بعدما أصبحت الأكثر طلباً لدى الراغبين في تملك المنازل، بفضل تدفُّق العاملين الجدد إليها من المدن الساحلية المرتفعة التكلفة مثل سياتل وسان فرانسيسكو.

3. استقطاب تركيا العلماء والباحثين من الدول التكنولوجية: وفي الوقت الذي فقدت فيه تركيا عدداً من علمائها الذين سافروا إلى الخارج للتعلم والتدريب واستمروا في الدول التي سافروا إليها بفضل ما حصلوا عليه من مزايا؛ فإن الحكومة التركية نفذت برامج لاستعادة علمائها وباحثيها من الخارج، ومنها “برنامج الباحثين الدوليين الرائدين 2232″، الذي تم تفعيله في عام 2018، وتضمن توفير دعم مالي من أجل استقطاب العلماء البارزين على المستوى العالمي لمواصلة دراساتهم في تركيا. وتشير التقديرات إلى أنه تقدم للبرنامج نحو 243 عالماً.

4. توقعات بمعاناة إسرائيل من الهجرة العكسية: ثمَّة مخاوف إسرائيلية كبيرة من تنامي ظاهرة الهجرة العكسية إلى الخارج. وعلى سبيل المثال، توقع أستاذ الدراسات المستقبلية الإسرائيلي بجامعة بار إيلان “ديفيد باسيج”، في حواره مع هيئة البث الإسرائيلية “كان”، في مايو 2021، أن تشهد إسرائيل حالة من التفكك والانهيار بعد ثلاثة أجيال، على المدى القريب، وبعدها تتعدَّد حالات الاغتيال لشخصيات يهودية بارزة، ثم انتفاضة داخلية بين الإسرائيليين أنفسهم، وهو ما يؤدي في النهاية إلى الهجرة العسكرية للنخب اليهودية والكفاءات الإسرائيلية إلى الخارج.

كما أشارت صحيفة “معاريف” العبرية، في تقرير لها نهاية شهر يناير 2022، إلى تخلي أعضاء بارزين وكبار في المنظمات اليسارية مثل “بتسيلم” و”البنك الجديد لإسرائيل” عن الفكرة الصهيونية ومغادرتهم إسرائيل إلى دول أخرى. وتشير إحصاءات رسمية إسرائيلية نُشرت العام الماضي إلى مغادرة 720 ألف مستوطن إسرائيلي واستقرارهم في الخارج بصفة رسمية منذ مطلع عام 2020.

أسباب رئيسية

ثمة عدد من الأسباب والعوامل يمكن عبرها تفسير تنامي ظاهرة الهجرة العكسية في السنوات الأخيرة، ومنها:

1. التأثيرات الاقتصادية والصحية والاجتماعية لكورونا: مثّلت جائحة كوفيد–19 أحد الأسباب الهامة التي شجعت على الهجرة العكسية، سواء على المستوى الدولي من الدول الصناعية والتكنولوجية الكبرى ودول المهجر إلى الوطن الأصلي، أو على المستوى الداخلي من المدن الكبرى إلى القرى أو المدن الصغيرة الأصلية؛ وذلك بسبب إجراءات الإغلاق وفقدان الوظائف وتعطل مختلف الأنشطة، وعلى رأسها النشاط الاقتصادي، أو حتى بسبب الاعتبارات الصحية والأسرية. اللافت أن هذا الاتجاه ارتبط بتأثير الجائحة على نمط الحياة؛ إذ سعى الكثيرون إلى البحث عن الأمان المتوافر في المناطق الريفية بعيداً عن ازدحام المدن وحالة القلق التي باتت تسيطر على قاطنيها.

2. انخفاض مُعدَّلات الشعور بالأمان في دول الهجرة: تمثِّل إسرائيل، بوصفها دولة هجرة، نموذجاً واضحاً لانخفاض معدلات الشعور بالأمان لدى المهاجرين في دول الهجرة؛ حيث ترتبط مخاوف الهجرة العكسية في إسرائيل بدرجة رئيسية بالبعد الأمني، والتهديدات التي تواجه إسرائيل نتيجة موجات الحروب والاشتباكات التي تندلع بين تل أبيب والفصائل الفلسطينية بوتيرة متكررة، أو حتى تهديدات حزب الله على الحدود اللبنانية، وكذلك التظاهرات والاحتجاجات العنيفة والعمليات المسلحة الفردية في مدن الداخل.

ولذلك يلجأ الإسرائيليون إلى الهجرة العكسية خارج إسرائيل بحثاً عن الأمان؛ وذلك فضلاً عن اتساع دائرة الخلافات داخل الكتل السياسية الإسرائيلية وتنامي الاستقطاب الداخلي بالقدر الذي ينعكس على قدرات وأداء الدولة في مختلف المجالات، وتعاملها مع المشكلات والتهديدات الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، بالإضافة إلى ما يثار حول مشكلات الدمج الثقافي والقومي لبعض الشرائح داخل المجتمع الإسرائيلي والخلافات بين تلك الشرائح اليهودية.

كما تمثل الولايات المتحدة نموذجاً آخر لتراجع معدلات الأمن الداخلي، في ظل مشكلات العنف الداخلي الناتجة عن انتشار السلاح أو التمييز الشرطي المؤسسي العنيف؛ حيث يتم إطلاق النار على 316 شخصاً، ويُقتل 106 أشخاص؛ منهم أطفال يومياً بسبب العنف المسلح بالولايات المتحدة، بحسب تصريحات للرئيس الأمريكي جو بايدن. وهو الأمر الذي يمكن مع تزايده، بالإضافة إلى تأثيرات الانقسام السياسي الحاد، أن يعزز الهجرة العكسية، خاصةً عند استهداف فئات محددة بالعنف أو بالسياسات.

3. البحث عن فرص عمل أفضل في الدول النامية: في الوقت الذي تواجه فيه قطاعات كاملة من الاقتصاد في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الغنية، أزمات أثرت على معدلات التشغيل في ظل جائحة كوفيد–19، ومن بعدها تداعيات الحرب الأوكرانية، بالدرجة التي جعلت أكثر من 44 مليون أوروبي عاطلين عن العمل في تلك الدول، ومعاناة الشباب في دول مثل إسبانيا وإيطاليا من البطالة؛ فإن الشباب ذوي الأصول الأفريقية والآسيوية واللاتينية الأمريكية يتأثَّرون تأثراً أكبر بتلك الأزمات التشغيلية والاقتصادية، ويعانون من قلة الفرص المتاحة في سوق العمل الأوروبية. وعلى الجانب الآخر، تُرحِّب البلدان النامية التي تسجل معدلات نمو اقتصادي إيجابية بالمهاجرين المهرة، وتضع سياسات تهدف إلى توفير حوافز لتشجيع التنقل الداخلي أو عودة المهاجرين.

4. المعاناة من العنصرية وقوانين الهجرة غير العادلة: يشتكي مهاجرون أفارقة سافروا إلى أوروبا للعمل والدراسة وهرباً من الظروف الصعبة في دولهم، من صعوبة الحياة في الدول الأوروبية التي هاجروا إليها، ومن العنصريين وقوانين الهجرة غير العادلة. وبحسب ما نشرته تقارير صحفية على لسان بعض هؤلاء المهاجرين، فإن هناك كثيرًا من الجهات والأشخاص يتربَّصون بالمهاجرين الأفارقة في أوروبا. وبحسب شبكة “مهاجر نيوز”، فإن "أكبر تحدٍّ يواجهه المهاجر الإفريقي في أوروبا هو أن يتم تقبله هناك كما هو، دون أن يُضطَر إلى شرح أنه ليس شخصاً سيئاً في كل مناسبة، بل أنه شخص جيد متعلم وأنه في نهاية الأمر إنسان".

وفي حين مثَّلت الدول الأوروبية، وخاصةً ألمانيا، وجهة رئيسية ومُفضَّلة للاجئين السوريين، رصدت تقارير عودة المئات من اللاجئين السوريين بهجرة عكسية من ألمانيا إلى تركيا، وهو ما يرتبط بآمال “لمِّ الشمل” لدى هؤلاء اللاجئين؛ حيث سعى هؤلاء إلى لقاء عائلاتهم بعد سنوات من البُعد نتيجة تعليق قرار لمِّ شمل عائلات الحاصلين على الحماية الثانوية. وبوجه عام، ربما يُحفِّز التمييز العنيف ضد المهاجرين في بعض دول الاتحاد الأوروبي على الهجرة العكسية، بعدما كانت أوروبا الوجهة الرئيسية للمهاجرين واللاجئين، خاصةً من دول الصراع والأزمات العربية.

5. تقديم حوافز مالية للتشجيع على الانتقال إلى الريف: تقدم بعض الدول حوافز مالية وأشكال دعم أخرى لتشجيع المواطنين على العودة من العواصم والمدن الكبرى إلى البلدات الصغيرة والقرى الريفية؛ فعلى سبيل المثال، تُقدِّم اليابان حوافز مالية وأشكالاً أخرى من الدعم للمساعدة في تنشيط المناطق الريفية، وتقليل تركيز السكان في العاصمة اليابانية طوكيو؛ إذ تمنح الحكومة اليابانية وسلطات الولايات والبلديات المحلية حوافز مالية كبيرة لتشجيع الأشخاص على الانتقال؛ حيث يمكن – على سبيل المثال – لمن ينتقلون إلى المناطق الريفية، مع الاستمرار في العمل عن بُعد مع أماكن عملهم الموجودة في العاصمة، الحصول على منحة تصل إلى مليون ين ياباني، كما تتوافر منح تصل إلى 3 ملايين ين ياباني لمن أسَّسوا أعمالًا تجارية جديدة لتكنولوجيا المعلومات في الريف.

وغالباً ما تكون السلطات المحلية في أمسِّ الحاجة إلى جذب سكان جدد. وبالإضافة إلى المِنَح المباشرة، تُقدِّم العديد من البلديات المحلية دعماً مكثفاً لمساعدة الوافدين الجدد في العثور على عمل؛ حيث تساعد بعضُ البرامج روادَ الأعمال المحتملين إما على إنشاء شركة جديدة أو تولي شركة محلية قائمة تحتاج إلى إدارات جديدة، فضلاً عن تقديم تلك البلديات المحلية في اليابان دعماً مالياً للوافدين؛ لمساعدتهم في العثور على منزل جديد.

6. تزايد المصاعب الاقتصادية في المدن الكبرى: فخلال السنوات الأخيرة تزايدت المصاعب الاقتصادية التي تواجهها المدن الصناعية والكبرى، وهو الأمر الذي انعكس على مستويات المعيشة وفرص العمل في هذه المدن، وهو الأمر الذي جعل هذه المدن تفقد – ولو جزئياً – بعض المزايا النسبية التي كانت تجعلها وجهة مُفضَّلة لسكان المناطق الريفية والمدن الصغيرة. وقد شجَّعت هذه المتغيرات بعض السكان على التفكير في العودة إلى القرى والأرياف والمدن الأصلية لهم التي غادروها من أجل العمل والدراسة.

7. تطوير الإمكانات والخدمات في القرى والمدن الصغيرة: يساعد على تعزيز التوجُّه نحو الهجرة العكسية من المدن إلى القرى والأرياف، تطوير إمكانات القرى والبلدات الصغيرة وتحسين البنية التحتية، وسعي الحكومات نحو رفع مستوى جودة الحياة فيها، وتوفير الخدمات من تعليم وصحة وغيرهما؛ فالكثير من الحكومات بدأت تتبنَّى خططاً وسياسات للتنمية المتوازنة تستهدف تطوير المناطق المختلفة في الدولة، ومن ثم توفير مزايا تشجع الأفراد على البقاء في المدن والقرى الصغيرة.

مردود إيجابي

ختاماً، على المستوى الداخلي، من المُتوقَّع أن يكون للهجرة العكسية مردود إيجابي من عدة نواحٍ على المواطنين في المدن والقرى؛ فعلى سبيل المثال، من المُفترَض أن تساعد الهجرة العكسية من المدن الكبرى، وتراجع حجم السكان في تلك المدن، على إحداث توازن في العرض والطلب، خاصةً في القطاع العقاري؛ ما ينعكس على أسعار العقارات ويُعِيدها إلى مستويات متوازنة، فضلاً عن تخفيف الضغط على شبكات الخدمات والبنية التحتية. ومن جانب آخر، من المُفترَض أن تنعكس الهجرة العكسية إيجابياً على قطاعات الإنتاج الحيواني والزراعي في الريف، وعلى تنمية وتطوير البنية التحتية في المدن الصغيرة والقرى، وعلى مستويات معيشة المواطنين أنفسهم.

وعلى المستوى الدولي، فإن بعض الدول ستستفيد من موجات الهجرة العكسية لاجتذاب بعض الفئات التي تساعد اقتصادها، مثل العلماء والباحثين والمطورين التكنولوجيين ورواد الأعمال وغيرهم، فضلاً عن بروز بعض المبادرات المجتمعية التي ينشط من خلالها المهاجرون العائدون إلى أوطانهم الأصلية بعد عودتهم للمساعدة في تحسين جودة الحياة ومعالجة العوامل التي كانت طاردة لهم للحد من ظاهرة الهجرة.