• اخر تحديث : 2024-04-26 21:42

خلال حملتها لقيادة حزب المحافظين البريطاني أخبرت ليز تروس أصدقاء إسرائيل المحافظين (CFI) أنها ستفكر في نقل السفارة البريطانية من تل أبيب إلى القدس إذا تم انتخابها. وفي اجتماع لاحق في الأمم المتحدة، كررت رئيسة الوزراء تروس وعدها لـ "صديقها العزيز" رئيس الوزراء الإسرائيلي المؤقت يائير لابيد بإعادة النظر في الأمر.

إن مكانة القدس هي القضية الشائكة في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وهي واحدة من أكثر الصراعات الدولية مرارة وطول أمد واستعصاء على الحل في العصر الحديث. احتلت إسرائيل القدس الشرقية، إلى جانب بقية الضفة الغربية وقطاع غزة في حرب حزيران / يونيو 1967، ومنذ ذلك الحين ينظر إليها المجتمع الدولي على أنها أرض محتلة.

تدعي إسرائيل أن المدينة بأكملها هي عاصمتها الأبدية غير المقسمة، بينما يطالب الفلسطينيون بالجزء الشرقي كعاصمة لدولتهم المستقبلية المنشودة.

كان المسؤولون الإسرائيليون سعداء بطبيعة الحال لأن تروس طرحت فكرة نقل السفارة إلى القدس، وبالتالي الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على المدينة، كواحدة من أولى تحركاتها في السياسة الخارجية كرئيسة للوزراء. وحذر قادة فلسطينيون من أن نقل السفارة سيقوض حل الدولتين ويدمر علاقاتهم مع بريطانيا. قال السفير الفلسطيني في المملكة المتحدة حسام زملط "من المؤسف للغاية" أن تروس استخدمت أول ظهور لها في الأمم المتحدة كرئيسة للوزراء "للالتزام بانتهاك القانون الدولي".

انتهاك قرارات الأمم المتحدة

من الصعب التفكير في مسألة تتعلق بالسياسة الخارجية لا تحتاج إلى مراجعة بقدر حاجة موقع السفارة البريطانية في إسرائيل. إن نقل السفارة إلى القدس من شأنه أن ينتهك مجموعة من قرارات الأمم المتحدة ويصل إلى حد الانقلاب المفاجئ للسياسة البريطانية منذ العام 1967. وقد نصت هذه السياسة، وهي جزء من إجماع دولي واسع، على أن كل السفارات يجب أن تبقى في تل أبيب حتى يتم التوصل إلى اتفاق سلام شامل بين إسرائيل والفلسطينيين، والقدس كعاصمة مشتركة لدولتين.

لم تبذل تروس خلال فترة عملها كوزيرة للخارجية أي محاولة لنقل السفارة. لا يسع المرء إلا أن يتكهن بأنها حرضت على إعادة النظر لأسباب تتعلق بالنفعية السياسية: للتعبير عن امتنانها لإسرائيل وأنصارها في بريطانيا، وبشكل أكثر تحديدًا، مجموعة "أصدقاء إسرائيل" CFI التي تضم في عضويتها معظم الحكومة وحوالي 80 في المئة من نواب حزب المحافظين.

وصفت إحدى الصحف الإسرائيلية مؤخرًا تروس بأنها "رئيس الوزراء البريطاني الأكثر تأييدًا لإسرائيل على الإطلاق". لا شك في أن هذا كان يقصد به الثناء، لكنه يتجاهل مسؤولية بريطانيا التاريخية عن خلق المشكلة في المقام الأول. فالصراع الإسرائيلي الفلسطيني صنع في بريطانيا. بدأ كل شيء بوعد بلفور عام 1917 لدعم إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين على الرغم من أن اليهود كانوا يمثلون عشرة في المئة فقط من سكان البلاد في ذلك الوقت. وقد تجاهلت الحكومات البريطانية المتعاقبة الالتزام بأن هذا لن يكون على حساب "المجتمعات غير اليهودية" من قبل. وهكذا، مكّن الوعد من استيلاء استعماري صهيوني منظم على فلسطين، وهي عملية لا تزال مستمرة.

في حزيران / يونيو 1967، أكملت إسرائيل سيطرتها على كامل فلسطين التاريخية. بعد أسبوعين من صمت المدافع، ضمت إسرائيل من جانب واحد شرق القدس ودمجته مع غرب القدس. ندد مجلس الأمن الدولي على الفور بهذه الإجراءات ووصفها بأنها غير قانونية وباطلة. وفي العام 1980، عندما ضم الكنيست القدس الشرقية رسميًا انتقد مجلس الأمن إسرائيل "بأقوى العبارات". وصوتت المملكة المتحدة لصالح كل هذه القرارات.

الغضب والإدانة

كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أول زعيم عالمي يخرق اتفاق المجتمع الدولي القائم منذ زمن طويل بعدم إقامة سفارات في القدس حتى يتم التوصل إلى حل الدولتين للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. قوبل قراره بنقل السفارة الأميركية إلى القدس في العام 2018 بالغضب في العالم العربي وأثار إدانة دولية واسعة النطاق. كما أدى إلى تصعيد أعمال العنف قتل خلالها عشرات الفلسطينيين على أيدي القوات الإسرائيلية. انتقدت رئيسة الوزراء البريطانية في ذلك الوقت تيريزا ماي هذه الخطوة.

كانت "صفقة القرن" التي يتباهى بها ترامب محاولة فجة لإعادة تعريف حل الدولتين على أنه إسرائيل الكبرى، بما في ذلك حوالي ثلث الضفة الغربية والقدس بأكملها، ودولة فلسطينية صغيرة مجزأة محاطة بالمستوطنات الإسرائيلية والقواعد العسكرية. وقد رفضتها السلطة الفلسطينية وبازدراء.  وعلى الرغم من جهود ترامب ، فقد اتبعته ثلاث دول فقط في نقل سفاراتها إلى القدس: كوسوفو وغواتيمالا وهندوراس. واختارت الدول الـ 82 الأخرى التي لها بعثات دبلوماسية في إسرائيل الاحتفاظ بسفاراتها في تل أبيب. كما أن لبعض هذه الدول، بما في ذلك بريطانيا، قنصلية عامة في شرق القدس تعمل كقناة اتصال مع السلطة الفلسطينية في رام الله.

تنتمي تروس في موقفها الوحيد المؤيد لإسرائيل واللامبالاة الواضحة تجاه الحقوق الفلسطينية إلى التيار الرئيس في حزبها. فرؤساء الوزراء الثلاثة الذين خدمت في ظلهم من أشد المؤيدين لإسرائيل. وقد وصف ديفيد كاميرون نفسه بأنه "صديق شغوف" لإسرائيل وأصر على أنه لا شيء يمكن أن يكسر تلك الصداقة.

ربما كانت تيريزا ماي أكثر القادة تأييدًا لإسرائيل في أوروبا خلال رئاستها للوزراء. ووصفت إسرائيل بأنها "دولة رائعة ... ديمقراطية مزدهرة، ومنارة للتسامح، ومحرك للمشاريع ومثال يحتذى به لبقية العالم". وقد رفضت بشدة عريضة كنت من الموقعين عليها لإصدار اعتذار رسمي عن وعد بلفور.

علاقات متوترة 

قاد بوريس جونسون سياسة "إسرائيل أولا" في حزب المحافظين في خطوة وضعت إسرائيل فوق القانون الدولي. وقاوم محاولات تحميلها مسؤولية أعمالها غير القانونية وجرائم الحرب. ففي العام 2021، أعلن أنه يعارض تحقيق المحكمة الجنائية الدولية في جرائم الحرب المزعومة في الأراضي المحتلة، مشيرًا في رسالة إلى CFI إلى أنه بينما تحترم حكومته استقلالية المحكمة، فإنها عارضت هذا التحقيق بالذات.

  وكتب يقول: "يعطي هذا التحقيق انطباعًا بأنه هجوم متحيز ومضر لصديق وحليف للمملكة المتحدة". إن منطق هذا الموقف المنحرف هو أنه كونك صديقًا وحليفًا للمملكة المتحدة يضع إسرائيل خارج نطاق القانون الدولي والمساءلة الدولية.

تعتبر تروس مثل جونسون من المؤيدين المتحمسين لبريطانيا العظمى بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، فإن خرق القانون الدولي لن يفعل شيئًا للترويج لهذه العلامة التجارية - ولن يساعد في الحصول على اتفاقية تجارية مع الولايات المتحدة، والتي وُصفت بأنها إحدى الفوائد الرئيسة لسياسة خارجية مستقلة.  وكانت نية تروس المعلنة بصوت عالٍ ـ عندما كانت وزيرة للخارجية ـ إلغاء الاتفاقية من جانب واحد مع الاتحاد الأوروبي بشأن أيرلندا الشمالية ما أدى بالفعل إلى توتر علاقاتها مع الرئيس الأميركي جو بايدن الذي كان يعتقد أن هذا سيشكل خطرًا على اتفاقية الجمعة العظيمة.

 إن اتباع مثال ترامب بنقل السفارة البريطانية إلى القدس لن يكون جيدًا في البيت الأبيض. على الرغم من أن بايدن لم يتراجع عن نقل السفارة الأميركية، إلا أنه اتخذ سلسلة من الإجراءات للحد من الأضرار التي سببها بسلفه، وعاد إلى العمل مع الحلفاء من خلال الأمم المتحدة.

إن نقل السفارة البريطانية من تل أبيب إلى القدس سيكون أمرًا لا يمكن الدفاع عنه أخلاقياً ومشكوك فيه قانونياً ومضر سياسياً. سيكون واحدة من أكثر الضربات البريطانية وحشية للدولة الفلسطينية منذ وعد بلفور. كما أنه سيشجع إسرائيل على مواصلة العمل مع الإفلات من العقاب، مما يعزز غطرسة القوة. ومن المؤكد أن إسرائيل وأنصارها في هذا البلد سيرحبون بهذه الخطوة، على الرغم من الأضرار التي لحقت بمكانة بريطانيا في العالم.

بدلاً من إعادة النظر في مقر سفارتها، يجب على الحكومة البريطانية إعادة تقييم علاقتها مع إسرائيل في ضوء الحقائق الحالية. في العامين الماضيين، وقد خلصت تقارير ثلاث منظمات حقوقية رئيسة إلى أن إسرائيل أصبحت دولة فصل عنصري. وتوثق هذه التقارير بعناية التطهير العرقي الإسرائيلي المستمر، ومصادرة الأراضي، وهدم المنازل، واضطهاد المدافعين عن حقوق الإنسان، واحتجاز القصّر، والتسامح مع عنف المستوطنين.

الحقيقة المحزنة هي أن إسرائيل منذ العام 1967 أصبحت مدمنة على الاحتلال. والصديق الحقيقي لا ينغمس في الإدمان ولكنه يحاول أن يفطم المدمن عنه.

*آفي شليم - مؤرخ بريطاني إسرائيلي