مقدمة:
شهدت الشهور الأخيرة استخداماً متزايداً لمفردات من قبيل "الحرب النووية"، "الابتزاز النووي". والاستخدام هنا في معظمه لم يكن في جانب العمل على تجنب أي منهما بقدر ما كان توصيفاً لواقع بالنسبة للثانية، وتحذيراً أو تهديداً من وقوع الأولى. وربما كانت الأولى مترتبة على الثانية، وهذا منزلق خطير، وتزيد خطورته مع الوضع في الاعتبار أنه يأتي بين أطراف تمتلك الجزء الأكبر من الترسانة النووية في العالم.
ليس هذا فحسب، بل إنه يأتي في ظل تراجع حاد في العلاقات فيما بينها. وقد شمل هذا التراجع تخلياً عن بعض المعاهدات ذات الصلة بمنع الانتشار النووي. وفي ذات الوقت، فإن هناك صراعاً مشتعلاً تنخرط فيه تلك القوى إما بشكل مباشر أو غير مباشر. ولهذا الصراع أبعاد نووية، سواء تعلق الأمر بما تضمه منطقة الصراع من محطات نووية معرضة لحدوث كوارث، أو بحسرة أحد أطراف الصراع بسبب تخليه في السابق عما كان في حوزته من سلاح نووي من ناحية، ومن ناحية ثانية تلويح الطرف الآخر بإمكانية اللجوء إلى استخدام السلاح النووي في هذا الصراع.
مثل هذه التطورات وإن كانت تشكل في حد ذاتها تحدياً كبيراً وربما غير مسبوق للنظام الدولي لمنع الانتشار النووي، إلا أن تداعياتها على هذا النظام لا تقف عند ما يدور بين تلك الأطراف. إذ أن لهذا الأمر رسائل سلبية كثيرة يمكن أن تحدث تأثيرات على مختلف مكونات النظام الدولي لمنع الانتشار النووي بما يهدد بتصدع هذا النظام بالكامل، وربما يصل الأمر إلى مرحلة الفوضى النووية.
تحاول هذه الدراسة معالجة الموضوع عبر تناول تحديات النظام الدولي لمنع الانتشار النووي قبل الحرب في أوكرانيا في شقها الأول، وفي القسم الثاني تتناول تفاقم تلك التحديات في ظل الحرب في أوكرانيا.
تحديات النظام الدولي لمنع الانتشار النووي قبل الحرب في أوكرانيا
سيكون من الإجحاف العلمي نسبة التحديات التي تواجه النظام الدولي لمنع الانتشار النووي إلى الصراع العسكري في أوكرانيا منذ الرابع والعشرين من فبراير عام 2022. إذ كانت هناك مؤشرات كثيرة تظهر التزايد في تلك التحديات قبل اندلاع تلك الحرب. وربما يقال إن الكثير من تلك التحديات قد جاءت على خلفية التدهور في العلاقات الروسية-الأمريكية والروسية-الغربية إجمالاً ارتباطاً بالصراع في أوكرانيا وعلى أوكرانيا منذ العام 2014. وأياً كان الأمر، فإن المسائل قد أخذت منحى أخطر بكثير منذ بدء العمليات العسكرية في أوكرانيا.
قبل الحديث عن تلك التحديات التي كانت تتزايد مع الوقت في مواجهة النظام الدولي لمنع الانتشار النووي، لابد من الإشارة إلى خلل هيكلي في هذا النظام والمتمثل في الاستثنائية التي منحت بشكل أو آخر للقوى الخمس النووية طبقاً لمعاهدة منع الانتشار النووي. والملاحظ أن تلك الاستثنائية مرتبطة بالاستثنائية العامة التي حازتها تلك القوى في مؤسسات صنع القرار الدولي، حيث احتفظت لنفسها بعضوية دائمة في مجلس الأمن الدولي، ورفقة هذه العضوية الدائمة حق النقض (الفيتو)، وهو الكفيل بتعطيل عمل المجلس في حال كانت القضية المعروضة تخص أياً من هذه القوى. وبدا وكأن مجلس الأمن أداة لتلك القوى في حال اجتمعت إرادتها، تماماً كما أن ما بيدها من سلاح نووي لا يردع كلاً منها عن مهاجمة الأخرى فقط، وإنما بات بمثابة السيف المسلط على رقاب باقي الدول غير المالكة لهذا السلاح. ومن ثم ظهرت مصطلحات من قبيل المظلة النووية التي تبسطها تلك الدولة النووية على دول دون غيرها، كما باتت هناك دول تعمل على تحدي ذلك الواقع بالسعى إلى امتلاك السلاح النووي. وقد نجحت بعض الدول في ذلك بالفعل. ولم تجد كل الوسائل التي استخدمت حيالها رغم التفاوت في حدتها وقسوتها واستمراريتها في إثنائها عن خيار حيازة السلاح النووي.
لم تكتف القوى الخمس النووية بالاستثنائية التي حازتها والمفترض طبقاً لاتفاقية منع الانتشار النووي أنها استثنائية مؤقتة، وإنما سعت بكل ما أوتيت من قوة لديمومة هذه الاستثنائية، حتى وإن كانت في خطاباتها تتحدث أحياناً عن الهدف الأسمى المتمثل في إخلاء العالم من ذلك السلاح. لكن شتان بين بعض الجمل المنمقة في بعض المنتديات وبين التصرفات الفعلية بما في ذلك على صعيد قرارات تلك المنتديات.
وهنا تكفي الإشارة إلى إصرار القوى النووية على المد اللانهائي لمعاهدة منع الانتشار النووي. ثم يأتي سعيها المستمر لتطوير وتحديث ترساناتها النووية سواء من حيث النوعية أو القوة التدميرية أو وسائل الإيصال من صواريخ وطائرات وغواصات، وما يتطلبه ذلك من رصد موازنات ضخمة لهذه الخطط. وفي ذات الوقت الإعلان عن تحديثات في استراتيجياتها وعقائدها النووية، والتي لا تستبعد في مجملها مبدأ الاستخدام الفعلي للسلاح النووي.
هذا بعض من كل بالنسبة لمؤشرات التزايد في تحديات النظام الدولي لمنع الانتشار النووي، وهذا ما جعل الأمم المتحدة تذهب في جلستها السنوية المعنية بنزع التسلح الخاصة بالعام 2020 إلى التحذير من حدوث تزايد في التآكل في النظام الدولي لمنع الانتشار، خاصة وأنه قد تم تقويض منجزات سابقة على هذا الصعيد، مع إعاقة تحقيق المزيد من التقدم. ويبدو أن العام 2021 قد حمل معه المزيد من التدهور على هذا الصعيد في ظل تصاعد لهجة التحدي بين القوى النووية، وخاصة بين الولايات المتحدة وكل من روسيا والصين من ناحية أخرى. ومع الفشل في المفاوضات الخاصة بالضمانات التي طالبت بها روسيا بات من الواضح أن الأمور تسير إلى الأسوأ في العام 2022. فبعد تأكيدات أمريكية متوالية لإعداد روسي لحرب في أوكرانيا ونفي روسي لذلك، اندلعت الحرب بالفعل قبل أيام من نهاية شهر فبراير. وقبلها بأيام كان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي يلمح في ميونخ إلى المسألة النووية مطالباً بعقد اجتماع لدول مذكرة بودابست والتي بمقتضاها تخلت بلاده عن السلاح النووي مقابل ضمان أمنها وسيادتها وحدودها.
ولم يكن ذلك الأمر بعيداً عن التمهيد الروسي لما أسمته عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا. كما أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطابه الذي أعلن فيه عن بدء العملية العسكرية تلك قد ذكر صراحة بقوة بلاده النووية عندما قال: "فيما يتعلق بالمجال العسكري، فإن روسيا الحديثة، حتى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وفقدان جزء كبير من إمكاناته، هي اليوم واحدة من أقوى القوى النووية في العالم، علاوة على ذلك، تتمتع بمزايا معينة لجهة امتلاكها أحدث أنواع الأسلحة. وفي هذا الصدد، لا ينبغي أن يشك أحد في أن الهجوم المباشر على بلدنا سيؤدي إلى هزيمة أي معتد محتمل وسوف يواجه بعواقب وخيمة".
ولتلك العبارة أهميتها في تفسير وفهم السلوك الروسي في الشق النووي بعد إطلاق العملية العسكرية، تماماً كما أن لتلميحات الرئيس الأوكراني قبل الحرب بأيام أهميتها ليس فقط بالنسبة لما تلا ذلك من تصريحات أوكرانية، وإنما لارتدادت ذلك في دول ومناطق أخرى من العالم.
تفاقم التحديات في ظل الحرب في أوكرانيا
صاحبت الحرب في أوكرانيا تطورات سلبية كثيرة زادت من احتمالية الإضرار بالنظام الدولي لمنع الانتشار النووي ليس فقط على المدى القريب، وإنما كذلك على المديين المتوسط والبعيد، لا سيما وأن الأمور وصلت إلى الحديث عن احتمالات نشوب حرب نووية. وقد أدى ذلك إلى إعادة الانشغال بما يمكن أن يترتب على مثل هذه الحرب من خسائر ودمار ليس فقط للطرفين المتحاربين وإنما للبشرية جمعاء.
وتطورت الأمور من إعلان حالة التأهب في القوات الروسية النووية، ووصلت إلى حد التصريح بأن الأراضي التي سيتم ضمها إلى روسيا بناءً على الاستفتاءات سينطبق عليها ما ينطبق على الأراضي الروسية. ومن ثم في حال تعرضها لهجوم فإن كل الخيارات متاحة بما فيها خيار استخدام السلاح النووي، حيث قال دمتري مدفيديف نائب رئيس مجلس الأمن الروسي: "يجب أن أذكر مرة أخرى، أولئك الصم الذين لا يسمعون سوى أنفسهم، أن لروسيا الحق في استخدام الأسلحة النووية إذا لزم الأمر، وفي حالات محددة سلفاً، مع الالتزام الصارم بأساسيات سياسة الدولة في مجال الردع النووي. وذلك في حالة هوجمنا نحن أو حلفاؤنا باستخدام هذا النوع من الأسلحة، أو إذا هدد العدوان باستخدام الأسلحة التقليدية وجود الدولة الروسية، وهو ما صرح به رئيس الدولة بشكل مباشر مؤخرا". وكان الرئيس الروسي قد ذكر في خطابه في الحادي والعشرين من سبتمبر 2022 ما أسماه بالابتزاز النووي ليس فقط من قبل أوكرانيا فيما يتعلق بمحطة زابروجيا النووية والذي تشجع عليه القوى الغربية من وجهة النظر الروسية، وإنما ما تمارسه تلك القوى ذاتها على ذات الصعيد حيال بلاده، حيث قال: "الحديث لا يدور حول دعم الغرب لأوكرانيا في قصف محطة الطاقة النووية في زابروجيا، والذي يهدد بكارثة نووية، وإنما يخص بعض التصريحات من مسؤولين رفيعي المستوى في بعض دول الناتو حول إمكانية وقبول استخدام أسلحة الدمار الشامل - الأسلحة النووية - ضد روسيا. ولمن يطلق مثل هذه التصريحات أود تذكيرهم بأن بلادنا كذلك تمتلك أنواعاً مختلفة من الأسلحة أيضاً، ووبعضها أكثر تطوراً مما لدى دول الناتو. وأمام أي تهديد لوحدة أراضينا ومن أجل الدفاع عن روسيا وشعبها سوف نستخدم بالتأكيد كل أنظمة الأسلحة المتاحة وهذه ليست خدعة".
بغض النظر عما يمكن أن يطرح من أسئلة كثيرة في هذا السياق يدور معظمها حول قضية مَن يبتز مَن نوويا؟ ففي الوقت الذي تقول فيه روسيا إن الآخرين يبتزونها نووياً، فكذلك هي متهمة بالابتزاز النووي، فإن ما يترتب على هذا السجال خطير جداً في ذاته، ناهيك عما يمكن أن يترتب عليه. فها هي الحرب النووية التي أعلنت القوى الخمس النووية في شهر يناير 2022 عن العمل على منعها وسباق التسلح فيما بينها، تتحدث بعضها صراحة عن إمكانية الاستخدام الفعلي لتلك الأسلحة، وهذا ما جعل روز ماري ديكارلو وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية وبناء السلام تصف هذا النوع من الخطاب بأنه "يتعارض مع البيان المشترك لزعماء الدول الخمس الحائزة على الأسلحة النووية بشأن منع الحرب النووية وتجنّب سباقات التسلح الصادر في 3 يناير2022.
هذا التعارض بين ما يعلن عنه كالتزام من قبل تلك القوى النووية وبين تصرفاتها يهز الثقة ليس فقط بمثل هذه الإعلانات، وإنما بمجمل الاتفاقيات التي يبنى عليها النظام الدولي لمنع الانتشار النووي. فإذا كانت اتفاقية منع الانتشار النووي تمثل العمود الفقري لهذا النظام، فإن هناك اتفاقيات أخرى جماعية وثنائية ذات أهمية كبيرة، ومن بينها اتفاقية الحظر الشامل للتجارب النووية، واتفاقيات إنشاء المناطق منزوعة السلاح النووي كاتفاقية راروتونجنا الخاصة بمنطقة جنوبي المحيط الهادي، واتفاقية بلندابا الخاصة بأفريقيا، واتفاقية بانكوك الخاصة بجنوب شرقي آسيا. كما أن مثل هذا الخطاب لا شك ينعكس على مخرجات المؤتمرات المرتبطة بمسائل منع الانتشار النووي. وقد كان ذلك جلياً في المؤتمر العاشر لمراجعة معاهدة منع الانتشار النووي الذي عقد في شهر أغسطس من العام 2022 بعد تأجيل لمدة عامين، والذي انتهى دون نتائج تذكر، بعدما تعذر التوصل إلى توافق في الآراء.
وإذا كانت تلك النتيجة منطقية في ظل الجو المشحون بين القوى النووية، فإنه من غير المنطقي أن يستمر الوضع على هذا الحال، خاصة وأن تلك القوى تعلم قبل غيرها خطورة أن تكون هناك مواجهة نووية ولو من قبيل الخطأ في الحسابات، فما بالنا والأحاديث تدور هذه الأيام عن تقصد وترصد وابتزاز وتلويح باستخدام فعلي لهذا السلاح. في مثل هذه الأجواء كيف ستتصرف باقي دول العالم، سيما وأن الكثير منها كان ضد التمديد اللانهائي لتلك الاتفاقية بسبب المخاوف من تكريس وضع الاستثناء النووي لتلك القوى، وفي ظل ليس فقط عدم التزامها بالسعي للتخلص مما لديها من سلاح نووي كما نصت تلك الاتفاقية، وإنما في ظل تجرؤها بل وتهورها النووي حيال بعضها البعض؟ هل ستظل كل دول العالم راضية بهكذا وضع أم أنه من الممكن أن تفكر دول أخرى جدياً في أهمية حيازة السلاح النووي؟ وعندها هل يمكن إلقاء اللوم على هذه الدول؟
إذا كانت أوكرانيا قد ألمحت قبل الحرب إلى تلك المسألة، فإن تصريحات أوكرانية عبرت عن الحسرة على التخلي عن السلاح النووي، خاصة وأن الضمانات التي قدمت لها في مذكرة بودابست لم يتم الالتزام بها. وإذا كانت الأمور في أوكرانيا قد ظلت في إطار التصريحات حتى الآن، فإن بيلاروس قد خطت خطوة أبعد من ذلك عندما تخلت عن وضع الدولة غير النووية، بما يعني أنها قد تستقبل على أراضيها أسلحة نووية، أو تسعى في المستقبل لحيازة تلك الأسلحة مرة أخرى، وهي التي كانت تخلت عنها مثلها مثل أوكرانيا وكازاخستان بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
بالانتقال إلى تأثيرات ما يحدث على الدول المالكة للسلاح النووي خارج نطاق معاهدة منع الانتشار، فإنه للوهلة الأولى ستشعر بالارتياح لأنها سلكت هذا الطريق. كما أنها ستزداد إصراراً على عدم التخلي عما امتلكته من قوة ردع نووية، ولربما سعت إلى زيادة قوتها النووية.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى حالة كوريا الشمالية، خاصة وأن تطورات قد حدثت بالفعل في الفترة الأخيرة. تصب كل هذه التطورات في تلك الاستنتاجات الثلاثة المرتبطة بتأثيرات ما يحدث بين القوى الخمس النووية على القوى النووية خارج نطاق معاهدة منع الانتشار، مع عدم إغفال خصوصية الحالة الكورية الشمالية بطبيعة الحال، حيث رفضت بشكل قطعي مبادرة كوريا الجنوبية بتقديم مساعدات لها مقابل البدء في عملية نزع سلاحها النووي على الرغم من الظروف الصعبة التي تعيشها بفعل العقوبات القاسية المفروضة عليها منذ سنوات على خلفية تطورات برنامجيها النووي والصاروخي، معتبرة أن ما لديها من سلاح نووي يوفر الضمانة لبقائها والحفاظ على سيادتها وردع الآخرين من العدوان عليها، مع ملاحظة أن كوريا الشمالية من الدول القليلة التي تعلن عن تأييدها لروسيا في حربها ضد أوكرانيا. وكانت من الدول القليلة التي عارضت قرارات الأمم المتحدة ضد روسيا، وذهبت إلى أبعد من ذلك باعترافها بجمهوريتي لوجانسك ودونيتسك. ولربما أقدمت على الاعتراف بنتائج الاستفتاءات التي نظمتها روسيا مؤخراً في بعض المناطق الأوكرانية تمهيداً لضمها إليها.
ومع كل ذلك، فإن دروس ما يحدث بين القوى النووية تجعل بيونج يانج تسير في اتجاه التمسك أكثر وأكثر بسلاحها النووي، وهذا ما اتضح عندما أصدرت في الثامن من شهر سبتمبر 2022 القانون الذي يحدد سياستها النووية. وقد حدد القانون مهمتين رئيستين للقوة النووية الكورية الشمالية تتمثل أولاها في ردع الحرب، بينما تتمثل ثانيتها في صد العدوان، وتحقيق النصر طالما فشلت وظيفة الردع. ولم يقف الأمر عند ذلك، وإنما تم ربط تطوير القوة النووية بما يجري من تغيرات في مواقف القوى النووية، وبما ينتهي إليه التقويم المستمر للتهديدات النووية التي تتعرض لها البلاد، والتطوير هنا نوعي وكمي.
ومن بين القضايا التي أعاد صدور القانون الكوري الشمالي الجدل حولها مفهوم الضربة الاستباقية النووية، وما يمكن اعتباره شروطاً ومتطلبات من أجل القيام بتلك الضربة. فإذا كانت الدول تتحدث عما تسميه بالتهديد الوجودي، فمَن الذي يحدد درجة خطورة هذا التهديد؟ وما هي المعايير التي تستخدم لتحديد درجة خطورة ذلك التهديد؟، فالمعايير تختلف من حالة إلى أخرى. وفي نفس الوقت، فإن الأمر مرتبط بما لدى الدولة من قدرات تمكنها من القيام بالضربة الاستباقية، وكذلك الأهداف التي يمكن أن توجه إليها تلك الضربة. ومن الواضح أن تأثير هذا القانون لا يقف عند حدود شبه الجزيرة الكورية، ولا حتى علاقات بيونج يانج بالعالم الخارجي إجمالاً وليس الولايات المتحدة فقط، وإنما يمتد تأثيره إلى الحالة النووية العالمية.
أما بالنسبة للدول غير المالكة للسلاح النووي، فإنه لا يمكن بداية وضعها كلها في سلة واحدة من حيث القدرة على السير في طريق امتلاك السلاح النووي. وإن كانت تلك التي تصنف بدول العتبة النووية تظل هي الأقرب، بحكم ما تمتلكه من برامج نووية سلمية متطورة، ومن ثم تكنولوجيات وموارد مالية وكفاءات علمية قادرة على تحويل القرار السياسي بامتلاك السلاح النووي في حال اتخذ إلى واقع في ظرف شهور وربما أسابيع في بعض الحالات.
ويبقى العامل الحاسم في عدم تحول تلك الدول إلى الخيار النووي استمرار عقائدها النووية قائمة على عدم ولوج هذا الطريق. لكن تلك العقائد قد تتغير تحت تغير قناعات متخذي القرار مع مرور الوقت أو في ظل وجود تيارات سياسية وشعبية ضاغطة على متخذ القرار.
في هذا السياق، من المهم أيضاً ذكر الحالة الإيرانية، والتي مازالت عقيدتها النووية تقوم على رفض امتلاك السلاح النووي. لكنها في ذات الوقت تسعى جاهدة لحيازة تكنولوجيات وإحداث اختراقات بالنسبة لمستويات تخصيب اليورانيوم يمكن أن تكون مُعيناً في حال تغيرت تلك العقيدة. وكما هو معلوم كان هناك اتفاق خاص ببرنامجها النووي مع الولايات المتحدة في ظل إدارة الرئيس باراك أوباما، لكن إدارة الرئيس دونالد ترامب قد انسحبت من هذا الاتفاق، ثم عادت إدارة الرئيس جو بايدن إلى فتح باب المفاوضات للعودة إلى الاتفاق. وعلى الرغم من عودة المفاوضات واستمرار جولاتها، إلا أن الأمر لا يخلو من معارضة داخل الولايات المتحدة ومحاولات لعرقلة الوصول إلى الاتفاق. وإذا كان ذلك أمراً طبيعياً في ظل حالة الانقسام حول القضية أمريكياً، فإنه يبدو مستغرباً للوهلة الأولى وجود تيار تتزايد قوته داخل إيران ليس فقط ضد الاتفاق، وإنما يطالب بالانسحاب من معاهدة منع الانتشار النووي. إلى جانب ما طرح من مبررات وجود هذا التيار وتبريراته للموقف الذي ينحاز إليه، إلا أنه أيضاً لا يمكن إغفال الحالة العامة على الصعيد الدولي فيما يتعلق بالخطاب النووي الذي سبقت الإشارة إليه. كما أن الحالة الإيرانية تشير إلى مسألة مهمة تتعلق باستمرار الالتزام بالاتفاقات التي قد تسوي قضايا نووية معينة، سواء بشكل ثنائي أو حتى جماعي. وتلك مسألة تؤدي إلى المزيد من تآكل المصداقية النووية إن جاز التعبير. وهنا فإن الحالة الكورية الشمالية كانت قد شهدت التوصل إلى تفاهمات وترتيبات معينة قبل أن تتوقف العملية برمتها، ومن ثم تسلك بيونج يانج الطريق النووي.
لا يخفى أن هناك دولاً لديها برامج نووية أقدم وأكثر تقدماً من إيران ومن ثم عندها منشآت نووية أكثر، ومن بينها ألمانيا واليابان وكندا. وحتى الآن فلا توجد قرارات بالتحول إلى السلاح النووي. لكن تلك الدول وغيرها تخضع لحماية نووية أمريكية من ناحية أولى، ومن ناحية ثانية لم تكن هناك مماحكات بينها وبين الوكالة الدولية للطاقة الذرية فيما تقوم به الأخيرة من عمليات تفتيش على منشآتها، ولم تكن هناك تيارات قوية تنادي بامتلاك السلاح النووي في دوائر صنع القرار بها. لكن كل ذلك لا يمنع من إمكانية تبلور مثل هذه التيارات مستقبلاً، خاصة وأن هناك تطورات قد طالت سياسات بعضها فيما يتعلق بالتسلح إجمالاً، وبدورها العسكري الخارجي المُحجَّم منذ الحرب العالمية الثانية، وكذلك على صعيد صادراتها من الأسلحة.
يمكن أن تنضم إلى تلك الدول دول أخرى. وربما يفاجأ العالم بإقدام دولة ما على إجراء تفجير نووي. وستكون المعضلة أكبر في حال كانت هذه الدولة تقع ضمن حدود إحدى المناطق منزوعة السلاح النووي. كما أنه لا يخفى وجود تنافس قوى بين القوى النووية على المناطق منزوعة السلاح النووي. فهل يمكن أن يحتدم هذا التنافس إلى حد وجود صراعات تنخرط فيها بعض من هذه القوى؟ وهل يمكن أن يكون هناك تلويح بالورقة النووية في مثل هذه الصراعات؟ وكيف يمكن أن ينعكس كل ذلك على طبيعة تلك المناطق؟
خاتمة
يبدو أن حالة التفاؤل التي سادت في السنوات الأخيرة زمن الحرب الباردة والسنوات القليلة التي تلتها حول سياسات منع الانتشار النووي لم تكن إلا سحابة ما لبثت أن انقشعت، وحلت محلها غيوم أخذت في التلبد شيئاً فشيئاً في ظل العودة التدريجية لتلك الأجواء التي كانت سائدة في السنوات الساخنة زمن الحرب الباردة. وربما تكون الأمور قد وصلت إلى أسوأ مما كان عليه الوضع في تلك السنوات في ظل اتساع خريطة القوى النووية، وكذلك في ظل الخلافات الجيواستراتيجية التي تحولت إلى صراعات عسكرية تنخرط فيها قوى نووية سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. كما أن حالة الجمود التي تعانيها منتديات نزع التسلح التقليدي منه وغير التقليدي ترسل برسائل سلبية متتالية إلى الدول غير النووية، خاصة وأنها تراقب القوى النووية في تصرفاتها التي باتت تميل إلى التهور أكثر من التعقل حتى وإن كان ذلك على صعيد الأقوال حتى الآن.
من الواضح أن النظام الدولي لمنع الانتشار النووي به ثغرات كثيرة، كما أنه بات يواجه تحديات أكثر. لكن من المؤكد أنه رغم ذلك فإنه لا يوجد حتى الآن بديل لهذا النظام. ومن ثم فإن هناك حاجة ماسة للعمل الجاد من أجل تقليل الثغرات والتغلب على التحديات حتى يتم إنقاذ هذا النظام من التصدع، خاصة وأن الجميع يعلم أن تصدع النظام الدولي لمنع الانتشار النووي قد يؤدي إلى حالة من الفوضى النووية. ولن يكون من السهل الخروج من تلك الحالة وبناء لبنات نظام دولي جديد لمنع الانتشار، ناهيك عن أن حالة الفوضى تلك قد لا تترك الفرصة للعمل على بناء مثل هذا النظام ولا غيره. ففي حال نشوب مواجهات نووية أياً كان نوعها سيحل الخراب وليس البناء.
إنقاذ النظام الدولي لمنع الانتشار النووي مهمة تقع بالأساس على القوى الخمس النووية. هذه القوى مطالبة بأن تعلن وبأسرع وقت ممكن عن التزامها الكامل بمقتضيات نظام منع الانتشار، على أن تكون هناك جداول زمنية محددة لتخليها التام عما لديها من رؤوس نووية. وفي نفس الوقت تتعهد بعدم العودة إلى امتلاك تلك الأسلحة. وربما كانت هناك حاجة لاتفاقية دولية جديدة ملزمة لكل من يمتلك الأسلحة النووية في العالم بحيث يتم إخلاء العالم من هذا السلاح الذي يعلم الجميع مدى الدمار الذي يمكن أن يلحقه بالبشرية.
قد تكون مثل هذه المقترحات غير جديدة، وقد تكون مثالية، وقد تكون صعبة التحقق. لكن ليس هناك بديل عن العمل الجاد من أجل التوصل إليها يوماً ما. وإذا كانت هناك جماعات ضغط تدفع باتجاه الإبقاء على الأوضاع القائمة وعلى رأسها المجمعات الصناعية العسكرية، فإنه من المهم أن تنشط جماعات الضغط من أجل تحرير العالم من هذه الأسلحة. كما أن الأمر يحتاج إلى ضغوط أكبر من معظم دول العالم على الدول النووية. قد يقال إن مسألة الضغوط تلك سواء من قبل مؤسسات المجتمع المدني على صناع القرار في الدول النووية، أو من قبل الدول غير النووية دونها الكثير من العقبات ومن ثم فإن تأثيرها قد يكون في الحد الأدنى، ومن الصعوبة بمكان المحافظة على استمرار زخمها، وهذا صحيح إلى درجة كبيرة خاصة وأن مثل هذه القضايا تعد من قضايا الأمن الوطني العليا، وربما كانت معارضتها خاصة في أوقات التوتر نوعاً من المجازفة، خاصة إذا كانت هناك قوانين تمنع أو تحد من مجرد الاعتراض عليها. ثم إن الكثير من دول العالم في حاجة إلى تلك القوى النووية، ومن ثم فإن الضغوط عليها من تلك القوى سواء بشكل مباشر في علاقاتها الثنائية أو عبر ما تتمتع به من قوة تصويتية ونفوذ في المؤسسات الدولية، خاصة تلك المعنية بتوفير التمويل وتقديم المساعدات، يحجم كثيراً من حركة تلك الدول حيال القوى النووية.
إشكاليات كثيرة تقف دون محاولات إنقاذ النظام الدولي لمنع الانتشار النووي. ومع ذلك فالأمر ينبغي أن يكون هدفاً بعيد المدى، حيث لا ينبغي أن تخمد الأمور وتتراجع بعد أن يتم تهدئة الأوضاع الساخنة في الفترة الراهنة. إذ لا توجد ضمانة للحيلولة دون حالات توتر وتشنج وتسخين جديدة.