منح تفكك الاتحاد السوفيتي، عام 1991، إلى ست عشرة جمهورية العديد من القوى العالمية والإقليمية فرصًا لتدشين علاقات وبناء شراكات مع هذه الجمهوريات بما يخدم مصالحها الوطنية وأهدافها الاستراتيجية. وقد أولت القوى العالمية والإقليمية اهتمامًا خاصًّا لدول آسيا الوسطى لما تملكه من ثروات وموارد طبيعية ولما تحوزه من مكانة جيوسياسية فائقة الأهمية. وكانت "إسرائيل"، رغم المسافة الكبيرة التي تفصلها عن هذه المنطقة، من بين القوى الإقليمية التي أدركت القيمة الاستراتيجية للعلاقة مع دول آسيا الوسطى، فسعت بعيد إعلانها الاستقلال، إلى تدشين علاقات معها.
ترصد هذه الورقة جملة العوامل التي دفعت "إسرائيل" إلى محاولة العثور على موطئ قدم في آسيا الوسطى، والأسباب التي حفزت نظم الحكم في دول هذه المنطقة على التقارب مع "إسرائيل". وتتعرض الورقة إلى الاستراتيجيات التي تبنَّتها "إسرائيل" لتعزيز وجودها في آسيا الوسطى والظروف التي ساعدتها على تحقيق هذا الهدف. كما تسعى الورقة إلى إبراز أشكال الوجود الإسرائيلي في هذه المنطقة كما تعكسه مظاهر التعاون وأنماط الشراكات التي تكرست بين الجانبين على مدى أكثر من ثلاثة عقود. وتستشرف الورقة آفاق هذه العلاقة ومستقبلها من خلال تحليل مستويات متداخلة من التحولات التي يمكن أن تفرزها تحديات تفرمل قوة الدفع التي اتسمت بها هذه العلاقات أو فرص يمكن أن تنقلها إلى طور جديد من التطور والازدهار.
محفزات الوجود الإسرائيلي في آسيا الوسطى
تنبع أهمية منطقة آسيا الوسطى بالنسبة لإسرائيل من جملة من العوامل الاستراتيجية والاقتصادية. فقد أخضعت إسرائيل رؤيتها للعلاقة بدول آسيا الوسطى إلى "استراتيجية الأطراف"، التي بلورها رئيس حكومتها الأول، ديفيد بن غوريون، في خمسينات القرن الماضي، والتي قامت على محاولة تقليص تأثير السياسات المعادية لإسرائيل عبر بناء تحالفات مع دول وجماعات غير عربية تقع في أطراف محيطها الإقليمي. وكان ذلك أهم سبب وراء الحرص الإسرائيلي على تدشين علاقات خاصة في ستينات وسبعينات وتسعينات القرن الماضي بإيران الشاه، وتركيا، وإثيوبيا، وأكراد العراق. وبالنسبة لإسرائيل، فإن بناء علاقات مع دول آسيا الوسطى يحقق، في الوقت الحالي، وجهًا آخر من الرهانات على استراتيجية "حلف الأطراف" يتمثل في تحسين قدرتها على احتواء قوى في حالة عداء أو تنافس معها، مثل إيران وتركيا، والتعاون معها في مواجهة تحديات مشتركة مثل "خطر" الجماعات الإسلامية.
سعت إسرائيل أيضًا من خلال تدشين العلاقة بدول مع آسيا الوسطى إلى تحويل مركز ثقل العالم الإسلامي إلى الشمال بشكل يحسِّن من مكانة إسرائيل في موازين القوى الإقليمية عبر تهميش وتقليص أهمية المنطقة العربية في الشرق الأوسط، وهذا ما رمت إليه استراتيجية "الأطراف". وعلى الرغم من التطور الكبير الذي طرأ على علاقات إسرائيل بالعديد من الدول العربية بعد التوقيع على اتفاقات التطبيع، فإن حالة انعدام اليقين التي سادت تجربة الربيع العربي القصيرة والصعود المؤقت للإسلام السياسي والحركات الجهادية الذي هدَّد علاقات إسرائيل بدول وازنة في العالم العربي وتحديدًا مصر، قد كرست استراتيجية "حلف الأطراف" محددًا لسياسات إسرائيل الخارجية، وضمن ذلك عبر تعزيز العلاقات مع آسيا الوسطى.
تبدو إسرائيل معنية باستغلال مكانة دول آسيا الوسطى في العالم الإسلامي وتحديدًا عضويتها في المنتديات الإقليمية والدولية الإسلامية للحفاظ على مصالحها وتقليص فرص إصدار هذه المنتديات قرارات معادية لها.
وبالفعل، فقد تحققت بعض رهانات إسرائيل على دول آسيا الوسطى في هذا السياق؛ حيث إنه عندما تولت كازاخستان رئاسة منظمة التعاون الإسلامي، في 2011، التي التأمت قمتها في أستانا، كسرت تقاليد المنظمة في ذلك الوقت ودعت ممثلين لإسرائيل لحضور جلسة تتعلق بالاقتصاد انبثقت عن المؤتمر كمراقب. وعندما عُقدت قمة منظمة التعاون الاقتصادي في طهران، في 1996، هددت كازاخستان بالانسحاب منها بسبب ضغوط مارستها إيران على دول آسيا الوسطى لقطع علاقاتها بإسرائيل. وعند صدور تقرير "غولدستون" عن "مجلس حقوق الإنسان" التابع للأمم المتحدة والذي اتهم إسرائيل بارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية خلال حربها على غزة في 2008، امتنع ممثلو دول آسيا الوسطى عن التصويت. وقد استغل الرئيس الكازاخي، نور سلطان نزارباييف، علاقاته بالقيادة الإيرانية وحاول التوسط بين إسرائيل وإيران للإفراج عن 13 يهوديًّا إيرانيًّا اتُّهموا بالتجسس لصالح إسرائيل، وبذل جهودًا في محاولة للتوسط لإعادة الطيار الإسرائيلي، رون عراد، الذي أُسر في حرب لبنان الأولى، والجندي، جلعاد شليط، الذي أسرته حركة حماس، في 2006.
وترى إسرائيل أن تعميق العلاقات بدول آسيا الوسطى ومساعدتها على التصدي للجماعات الإسلامية التي تناصب نظم الحكم هناك العداء يعزز من توجه هذه النظم للحفاظ على طابعها العلماني؛ حيث تتخوف تل أبيب أن يفضي سقوط هذه النظم إلى تقارب بين هذه الدول وأطراف في حالة عداء أو تنافس مع إسرائيل، سيما إيران، وهذا ما جعلها تعزز من تعاونها الأمني مع تلك الدول.
وقد رأت إسرائيل في العلاقات مع دول آسيا الوسطى وسيلة لتحييد بعض المخاطر الاستراتيجية التي يمكن أن تكون هذه الدول مصدرها. فعلى سبيل المثال، حاولت إسرائيل توظيف علاقتها بكازاخستان، أكبر دول آسيا الوسطى، التي تملك 20% من الاحتياطي العالمي من اليورانيوم، في إقناعها بعدم تزويد إيران بهذا العنصر بوصفه أحد المركبات الرئيسة التي يقوم عليها برنامجها النووي، فضلًا عن أن إسرائيل خشيت أن تحصل أطراف معادية على هذا العنصر واستخدامه في إنتاج القنابل "القذرة". إلى جانب ذلك، فإن إسرائيل تحصل على حوالي ربع وارداتها من النفط من كازاخستان.
وتكتسب العلاقات بدول آسيا الوسطى أهمية خاصة بالنسبة لإسرائيل لأن عشرات الآلاف اليهود الذين هاجروا إليها عشية وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي قَدِموا من هذه المنطقة، سيما من أوزبكستان، فضلًا عن أن الجاليات اليهودية ما زالت تحافظ على وجود في هذه المنطقة.
وفي المقابل، فقد دفع العديد من المحفزات دول آسيا الوسطى للاستجابة لرغبة إسرائيل في التقارب منها. فقد سعت هذه الدول إلى بناء علاقات مع الولايات المتحدة التي باتت القطب الأوحد في النظام العالمي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة من منطلق موازنة علاقاتها بالصين وروسيا.
ونظرًا لطابع العلاقة الخاص الذي يربط الولايات المتحدة بإسرائيل، وبسبب تأثير اللوبي والمنظمات اليهودية الطاغي على دوائر صنع القرار في واشنطن، فإن نظم الحكم في آسيا الوسطى رأت في بناء علاقات مع إسرائيل متطلبًا لتحقيق مصالحها في واشنطن. كما أن حاجة هذه الدول لاستثمارات أجنبية تمكِّنها من استغلال مواردها وتحسين أوضاعها الاقتصادية جعلتها معنية بإقناع مستثمرين يهود من الولايات المتحدة وإسرائيل بالمبادرة لتدشين مشاريع فيها، فضلًا عن ذلك، فقد رأت نظم الحكم في دول آسيا الوسطى أن بناء علاقات مع إسرائيل والتعاون معها يساعدها على مواجهة "القوى الإسلامية" التي تشكِّل تحديًا لاستقرارها؛ حيث خشيت نظم الحكم في هذه الدول من تسلل القوى الجهادية من أفغانستان المجاورة، سيما عندما سيطرت حركة طالبان على الحكم في أفغانستان لأول مرة، في 1996.
وقد عبَّر عن هذا التوجه الرئيس الأوزبكي السابق، إسلام كريموف، أثناء زيارته لإسرائيل، في سبتمبر/أيلول 1998، عندما تحدث صراحة عن أن "الأصولية" الإسلامية تمثل أحد التحديات المشتركة لكلٍّ من إسرائيل وبلاده. إلى جانب ذلك، فقد رأت نظم الحكم في آسيا الوسطى أن تدشين العلاقات مع إسرائيل والتعاون معها تحديدًا في مجال مكافحة "الإرهاب" يمثل بحدِّ ذاته وسيلة لتعزيز صورتها في الغرب نظمًا "معتدلة".
الى جانب ذلك، فإن دول آسيا الوسطى، رغبت بالاستفادة من الخبرات الإسرائيلية في المجال التقني، سيما في مجال الزراعة، التي تشكل مصدر ثقل اقتصاديات هذه الدول، تحديدًا في مرحلة ما بعد الانفصال عن الاتحاد السوفيتي، إلى جانب مجالات الصحة العامة، وقطاع المواصلات والتقنيات المتقدمة.
آليات التسلل الإسرائيلي إلى آسيا الوسطى
على الرغم من أن إسرائيل تحافظ على مستويات متفاوتة من العلاقة مع دول آسيا الوسطى الخمس: أوزبكستان، وتركمانستان، وكازاخستان، وطاجيكستان، وقيرغيزستان، إلا أنها أَوْلَت اهتمامًا خاصًّا لتعزيز العلاقات بكل من كازاخستان وأوزبكستان على وجه التحديد. وهذا يرجع لما تحوزه الدولتان من موارد طبيعية، ولكونهما تحتضنان جاليات يهودية كبيرة، سيما أوزبكستان، ولما تتمتعان به من مكانة جيوسياسية فائقة الأهمية عززت من تأثيرهما في البيئة الإقليمية.
وقد تبنت إسرائيل ثلاث آليات عمل في سعيها للتسلل إلى آسيا الوسطى وبناء علاقات قوية مع دولها، وهي: العمل الدبلوماسي، وتنفيذ مشاريع تطويرية وأنشطة ثقافية واجتماعية داخل هذه الدول، والاستعانة بخدمات المنظمات اليهودية في المنطقة وفي الغرب.
فعلى صعيد العمل الدبلوماسي، كانت إسرائيل من أوائل الدول التي اعترفت باستقلال دول آسيا الوسطى بعد انفصالها عن الاتحاد السوفيتي. وقد دشنت إسرائيل علاقات دبلوماسية مع كازاخستان، في 2 أبريل/نيسان 1992، ومع أوزبكستان، في 25 سبتمبر/أيلول 1994، على الرغم من أن الاتصالات بين الجانبين بدأت في فبراير/شباط 1992، في حين دشنت إسرائيل سفارة لها في تركمانستان، في يونيو/حزيران 2013، وتدير علاقاتها بكل من قيرغيزستان وطاجيكستان عبر سفارتيها في كل من العاصمة الكازاخية، نور سلطان، والعاصمة الأوزبكية، طشقند. وكان رئيس قيرغيزستان السابق، عسكر علييف، أول رئيس لدولة في آسيا الوسطى يزور إسرائيل، حيث زارها في 1993، في حين زارها الرئيس الأوزبكي السابق، كريموف، في 1998؛ بينما زارها رئيس كازاخستان السابق، نور سلطان نزارباييف، في 1995 و2000، وزارها لتلقي العلاج في 2013.
زار الرئيس الإسرائيلي السابق، شمعون بيريز، كازاخستان، في يونيو/حزيران 2009؛ حيث قال الرئيس نزارباييف في استقباله: "كازاخستان ترى في إسرائيل شريكًا مهمًّا في الشرق الأوسط تربطها به مظاهر تعاون متعددة". وزار رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، آرئيل شارون، كازاخستان، في نوفمبر/تشرين الثاني 2001، في حين زار خَلَفُه، بنيامين نتنياهو، أوزبكستان، في 1998، وكازاخستان، في 2016.
وقد أوكلت إسرائيل مهمة تنفيذ المشاريع الاقتصادية والإشراف على المناشط الثقافية والاجتماعية الهادفة إلى بناء جسور التواصل مع المجتمعات المحلية في دول آسيا الوسطى، إلى "مركز التعاون الدولي" التابع لوزارة خارجيتها والذي يطلق عليه "مشاف"، الذي دُشِّن في 1958؛ حيث إن هذا المركز مسؤول عن تصميم وتنفيذ مناشط التعاون الاقتصادي والتبادل الثقافي مع دول المنطقة.
وقد لعب رجال الأعمال اليهود في آسيا الوسطى والغرب دورًا مهمًّا في تعزيز علاقات إسرائيل بنظم الحكم في هذه المنطقة. وقد أسهم رجل الأعمال اليهودي، ألكسندر ماشكيفيتش، الذي يحمل الجنسيتين، الإسرائيلية والكازاخية، والذي كان مقربًا جدًّا من الرئيس نزارباييف، في تسريع وتيرة التقارب بين إسرائيل وهذه الدولة. كما لعب رجل الأعمال الإسرائيلي المولود في أوزبكستان، ليف ليفي، والذي رأس الكونغرس اليهودي في بخارى، وكان أول رئيس لفيدرالية الجاليات اليهودية في الدول التي كانت تشكِّل الاتحاد السوفيتي، دورًا مهمًّا في تعزيز العلاقات بين إسرائيل ودول آسيا الوسطى؛ حيث ربطته علاقات وثيقة بنزارباييف والرئيس الأوزبكي السابق، إسلام كريموف. وأسهم الكونغرس اليهودي في آسيا الوسطى، الذي كان مقره أستانا، في توثيق العلاقة مع ممثلي اليهود في آسيا الوسطى ونظم الحكم هناك؛ حيث تحول إلى منتدى يتم عبره إجراء الحوارات التي هدفت، بين أمور أخرى، إلى تعزيز العلاقة بين دول المنطقة وإسرائيل؛ حيث حضر الرئيس نزارباييف بعض جلسات هذا الحوار.
ربطت الرئيس كريموف، الذي كان يراهن بشكل خاص على تعزيز علاقات بلاده بالغرب، علاقات وثيقة بالقيادات اليهودية الأميركية التي راهن على دورها في مساعدته على مد الجسور مع الولايات المتحدة؛ حيث جاهر برغبة بلاده بالتعاون مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل في مواجهة "الإسلام المتطرف".
ويقر وزير خارجية أوزبكستان السابق، سوديك سوبييف، بدور الجاليات اليهودية في آسيا الوسطى الحاسم في تعزيز العلاقة بين دول هذه المنطقة وإسرائيل.
أشكال الوجود الإسرائيلي في آسيا الوسطى
عمدت إسرائيل إلى تكريس وجودها في منطقة آسيا الوسطى عبر مجموعة من مظاهر التعاون الاقتصادي والأمني والدبلوماسي مع نظم الحكم في دولها ومن خلال بناء جسور التواصل مع المجتمعات المحلية.
التعاون الاقتصادي
اعتمدت الإستراتيجية الإسرائيلية لاختراق دول آسيا الوسطى على التركيز في المرحلة الأولى على التغلغل الاقتصادي، من خلال إقامة المشروعات العملاقة وتقديم المساعدات وتوقيع الاتفاقيات الاقتصادية معبِّدةً الطريق أمام الشركات الإسرائيلية التابعة للقطاعين، العام والخاص، ورجال الأعمال الإسرائيليين للاستثمار في تلك الجمهوريات، وعبر تقديم نفسها وسيطًا نشيطًا لجذب رؤوس الأموال الغربية والأميركية إلى تلك البلدان، وفتح أبواب واشنطن وغيرها من العواصم الغربية أمامها.
وقد حرصت إسرائيل على إحاطة الكثير من مظاهر التعاون الاقتصادي مع كازاخستان، أكبر شريك اقتصادي لها في المنطقة، بالسرية لاعتبارات إستراتيجية وأمنية؛ حيث تفرج عن معطيات محدودة حول واقع التبادل التجاري مع هذه الدولة، سيما في كل ما يتعلق بوارداتها من الطاقة وصادراتها من الأسلحة والوسائل القتالية. وهذا ما دفع "مكتب الإحصاء المركزي" الإسرائيلي إلى عدم التعرض للمعطيات المتعلقة بواردات إسرائيل من النفط الكازاخي. ولم تكشف إسرائيل عن مسار الخط الذي تسلكه السفن التي تنقل النفط من كازاخستان إليها لدواع أمنية، مع أن تقارير اقتصادية أشارت إلى أنه يتم نقله من مصافي تكرير تقع على سواحل بحري، قزوين والأسود.
ويُقدَّر أن إسرائيل تستورد 25% من احتياجاتها من النفط من كازاخستان، التي هي خامس أكبر شريك تجاري لها في آسيا، والتي استثمرت في تسعينات القرن الماضي في تطوير مصفاة تكرير النفط في ميناء حيفا. وحسب سفير إسرائيل السابق في كازاخستان، ران إيشاي، فإن قيمة صادرات إسرائيل من النفط الكازاخي تبلغ 1.4 مليار دولار سنويًّا.
وحتى العام 2009، عملت 52 شركة إسرائيلية في كازاخستان؛ حيث استثمرت في 105 مشاريع، لكن حدث تراجع بعد ذلك في حضور هذه الشركات في السوق الكازاخي بفعل مزاعم حول استشراء الفساد والبيروقراطية وعدم تطور هذه السوق لمواكبة التطورات التكنولوجية. وتشمل الواردات الإسرائيلية من كازاخستان: القمح، والمعادن، والقطن، والبلاستيك، وبلغت قيمتها، في 2020، حوالي 327 مليون دولار. في حين بلغت الصادرات الإسرائيلية إلى كازاخستان، في 2021، حوالي 32.5 مليون دولار، لكن هذه الصادرات لا تشمل الصادرات العسكرية التي لا يتم تقديم معلومات حولها.
وفي أعقاب أزمة الغذاء العالمية التي أعقبت الغزو الروسي لأوكرانيا، توجهت إسرائيل إلى كازاخستان، التي تعهدت بإمدادها بـ70 سلعة بقيمة 360 مليون دولار. وعملت إسرائيل على تشجيع شركات القطاع الخاص فيها على الاستثمار في كازاخستان؛ حيث ضمنت حكومة تل أبيب 65% من القروض التي تمنحها البنوك للشركات الإسرائيلية التي تستثمر في كازاخستان، كما وافق بنك هبوعليم الإسرائيلي، في 2007، على تمديد مستوى الائتمان لبنك توران أليم الكازاخي لمساعدته على تمويل 85% من عقود التصدير الإسرائيلية متوسطة وطويلة المدى.
وقد عملت كازاخستان على الاستعانة بخدمات جماعات ضغط داخل إسرائيل لإقناع حكومتها ورجال الأعمال الإسرائيليين بتكثيف استثماراتهم فيها، وتحديدًا عبر مؤسسة يقودها نمرود نوفيك، مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، إسحاق رابين.
ماذا عن أوزبكستان؟
مقارنة بكازاخستان، فإن التبادل التجاري بين إسرائيل وأوزبكستان متواضع. ففي 2020، بلغت قيمة الصادرات الأوزبكية لإسرائيل 2.42 مليون دولار، في حين بلغت الصادرات الإسرائيلية إلى أوزبكستان، في نفس العام، 35.9 مليون دولار. وتعزو الدوائر الاقتصادية الإسرائيلية تدني مستوى التعاون والتبادل التجاري مع أوزبكستان إلى الشروط التي تفرضها الحكومة الأوزبكية على حركة الاستثمار وتبنِّيها نظام رقابة مشددًا على المناشط الاقتصادية ونقل الأموال، وهو ما مسَّ بدافعية المستثمرين للاستثمار هناك وضمنهم الإسرائيليون. لكن العام 2021 شهد تطورًا لافتًا على حضور الشركات الإسرائيلية في أوزبكستان بسبب التحولات التي طرأت على تعاطي الحكومة في طشقند مع المستثمرين الأجانب والتي أسهمت في إقناع المستثمرين الإسرائيليين بزيادة وجودهم في السوق الأوزبكية. ونظرًا لأن أوزبكستان تعاني بشكل خاص من نقص المياه الصالحة للشرب، فقد كانت معنية بتقنيات المياه التي طورتها إسرائيل لتحسين قدرتها على استغلال مواردها المائية مما أفضى إلى التوقيع على العديد من الاتفاقات بين الشركات الإسرائيلية والحكومة الأوزبكية. وقد بات المزيد من الشركات الإسرائيلية التي تعمل في مجال تقنيات المياه، والأدوات الطبية، والبنى التحتية، والمدن الذكية تنشط داخل أوزبكستان.
وفيما يتعلق بالتبادل التجاري بين إسرائيل وبقية دول آسيا الوسطى فإنه متدنٍّ جدًّا. ففي 2020، بلغت قيمة صادرات إسرائيل إلى تركمانستان 1.12 مليون دولار، في حين بلغت صادرات تركمانستان إلى إسرائيل 809 آلاف دولار.
التعاون العسكري والأمني
على الرغم من أن إسرائيل تحتفظ بعلاقات دبلوماسية رسمية بدول آسيا الوسطى، إلا أنها تدير علاقاتها بهذه الدول، وتحديدًا كازاخستان وأوزبكستان، في المجالين، العسكري والأمني، بسرية. فقد شرعت كل من إسرائيل وكازاخستان في بناء علاقاتهما العسكرية والأمنية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001(38). فقد كانت دول آسيا الوسطى معنية بتنويع مصادر تسليحها وتقليص اعتمادها على الصادرات العسكرية من روسيا والصين مما جعلها تتوجه إلى إسرائيل. وفي يناير/كانون الثاني 2014، وقَّعت كل من إسرائيل وكازاخستان على اتفاق للتعاون العسكري وتعزيز التعاون في مجال التقنيات العسكرية، يشمل التعاون في مجال إنتاج الطائرات المسيرة، وتقنيات لتأمين الحدود، دون أن يتم الكشف عن بقية بنود الاتفاق. وتبيع شركات الصناعات العسكرية الإسرائيلية السلاح للقوات المسلحة والشرطة الكازاخية، وضمنها طائرات بدون طيار، وصواريخ موجهة، ومنظومات تحكم وأجهزة اتصال.
وفي مايو/أيار الماضي (2022)، حصل مصنع تابع للصناعات الجوية الكازاخية على تصريح لإنتاج طائرات بدون طيار من شركة "إلبيت" الإسرائيلية. وشاركت شركات الصناعات العسكرية الإسرائيلية: إلبيت، والصناعات الجوية، وشركة الصناعات العسكرية (IMI)، و"غيلات" في معرض الصناعات الدفاعية في كازاخستان في 2010 و2012.
وتعاونت هذه الشركات مع مجمع الصناعات العسكرية الكازاخي "PZTM" في تطوير منظومات: "MLRS" و"LAR " و"EXTRA" الصاروخية التي تعتمد على تقنيات إسرائيلية. وقد درَّب الجيش الإسرائيلي القوات المسلحة الكازاخية على استخدام منظومة "القبة الحديدية" في اعتراض الصواريخ؛ حيث أجرى تدريبات على المنظومة داخل مرافق عسكرية كازاخية. وقد زار مديرو أهم شركات صناعة السلاح الإسرائيلية، سيما شركة الصناعات العسكرية (IMI)، وإلبيت، وشركة "رفائيل" للوسائل القتالية، كازاخستان بهدف التوافق على مشاريع مشتركة وضمنها تحديث وتطوير عربات الجيش والتعاون في مجال الأقمار الصناعية.
وفيما يتعلق بأوزبكستان، فقد توصلت إلى اتفاق مع إسرائيل، خلال زيارة رئيسها السابق، إسلام كريموف، لتل أبيب، في سبتمبر/أيلول 1998، على التعاون في المجال الأمني ومكافحة الإرهاب.
وقَّعت وزارة الدفاع الأوزبكية على صفقة مع شركة السلاح الإسرائيلية "CAA Industries" تزود بموجبها كلًّا من الجيش والشرطة في البلاد بوسائل قتالية. وقد اتهم حزب التحرير، الذي ينشط في أوزبكستان، إسرائيل بمساعدة الرئيس السابق، كريموف، في قتل عناصر المعارضة الأوزبكية في مدينة أنديجان، في 2005.
وقد أسهم الطابع الشمولي لنظم الحكم في آسيا الوسطى في زيادة اعتمادها على البرمجيات التي تنتجها شركات السايبر الإسرائيلية، وعلى رأسها شركة "NSO"، المشهورة بتطوير برنامج "بيغاسوس" الذي يُستخدم في عمليات التجسس؛ حيث أظهر تقرير لمنظمة "العفو الدولية" "أمنستي" أن الهواتف الذكية لأربعة من معارضي نظام الحكم في كازاخستان قد تم اختراقها بهذا البرنامج. وقد باعت شركتا "Verint Systems" و"Nice" الإسرائيليتان أيضًا برمجات سيبرانية تستخدم في مراقبة نشطاء المعارضة لدول في آسيا الوسطى، من بينها كازاخستان. ووقَّعت حكومة أوزبكستان صفقة مع شركة "Candiru" الإسرائيلية لتزويدها بـ "أسلحة سيبرانية"، كما تبين أن الحكومة الأوزبكية ترتبط بعلاقات تعاون مع شركة "NSO".
بناء روابط مع المجتمعات المحلية
يشرف مركز "مشاف" على تنفيذ مشاريع تحسن من قدرة إسرائيل على بناء الروابط والتواصل مع المجتمعات المحلية في آسيا الوسطى عبر دبلوماسية من "القلب إلى القلب". وينفذ المركز مشاريع لتأهيل الأطباء والممرضين والكوادر الطبية في كل من كازاخستان وأوزبكستان. ويلعب مقر الوكالة اليهودية في طشقند دورًا مهمًّا في تدشين مدارس لتعليم اللغة العبرية ونواد للشباب اليهود وأشرف على أنشطة ثقافية ليس في أوزبكستان فقط، بل في جميع دول آسيا الوسطى. وقد تشكل الكثير من المؤسسات والأجسام الثنائية الهادفة إلى تعزيز العلاقات الثنائية تحديدًا مع كازاخستان، منها جمعية الصداقة البرلمانية الإسرائيلية-الكازاخية، واللجنة الإسرائيلية-الكازاخية المشتركة للتعاون في مجال التجارة والاقتصاد، ونادي أصدقاء كازاخستان في إسرائيل، وغرفة التجارة والصناعة الكازاخية-الإسرائيلية. ودشن مركز "مشاف" حسابًا على موقع تويتر بعنوان "إسرائيل في أوزبكستان"، يتعرض لمظاهر التعاون والتواصل مع المجتمع المحلي ومظاهر تطور العلاقة بين تل أبيب وطشقند. ولعبت المراجع الدينية اليهودية في إسرائيل دورًا في تطبيع العلاقات مع دول آسيا الوسطى؛ حيث سبق لحاخام إسرائيل الأكبر، يونا متسغر، أن زار كازاخستان، في 2004، والتقى نزارباييف وقدَّم له جائزة "موشيه بن ميمون" باسم المنظمات اليهودية لدوره في تكريس "التسامح". كما سعت إسرائيل لتعزيز التواصل بين النخب السياسية لدى الجانبين؛ ففي منتصف فبراير/شباط 2021، عُقد اجتماع عبر الفيديو كونفرانس بين رئيس وأعضاء الكنيست مع رئيس وأعضاء مجلس الشيوخ الأوزبكي.
مستقبل العلاقة بين إسرائيل وآسيا الوسطى
يتوقف مستقبل العلاقة بين إسرائيل ودول آسيا الوسطى على ثلاثة عوامل رئيسة، وهي: تقدير طرفي العلاقة لأهميتها وما يمكن أن يطرأ على هذا التقدير من تحولات، واتجاهات تأثير حضور القوى الإقليمية والعالمية في المنطقة، ومستقبل ميزان القوى في النظام العالمي بعد انتهاء المواجهة بين روسيا والغرب في أعقاب غزو أوكرانيا.
بالنسبة لإسرائيل، فإن جملة المسوغات التي دفعتها لتوثيق العلاقة مع آسيا الوسطى، والتي سبقت الإشارة إليها، لا تزال قائمة، وضمنها مركزية "إستراتيجية حلف الأطراف" محددًا لتوجيه السياسة الخارجية الإسرائيلية. فالتقديرات المتواترة التي تصدر عن محافل التقدير الإستراتيجي الإسرائيلية تحذر من أن التحولات الإيجابية التي شهدتها علاقة إسرائيل بالعالم العربي في أعقاب التوقيع على اتفاقات التطبيع لن تضمن عدم حدوث اهتزازات على البيئة الإقليمية، على غرار تلك التي حدثت في أعقاب ثورات الربيع العربي؛ مما يستدعي مواصلة العمل على بناء روابط وشراكات مع قوى أخرى يمكن أن تحسِّن العلاقة معها من قدرة إسرائيل على تحقيق مصالحها، سيما الدول الإسلامية. في الوقت ذاته، فإن اتفاقات التطبيع لم تقلص أهمية العلاقة مع آسيا الوسطى بالنسبة لإسرائيل. فعلى سبيل المثال، على الرغم من التطور الكبير الذي طرأ على العلاقة بين الإمارات وإسرائيل على كل الصعد، ورغم أن جزءًا من النفط الإماراتي يُصدَّر حاليًّا إلى أوروبا عبر أنبوب "إيلات عسقلان" الإسرائيلي، فإنه ليس بوسع إسرائيل الاستغناء عن إمداداتها من النفط من كازاخستان (بالإضافة إلى أذربيجان وروسيا) والاعتماد على النفط الإماراتي بسبب الخوف من تحولات البيئة الإقليمية.
وفي المقابل، وفيما يتعلق بمسوغات دول آسيا الوسطى لمواصلة وتيرة العلاقة مع إسرائيل، فإن الأمور تبدو أكثر تعقيدًا. فهذه الدول، وإن كانت، لا تزال معنية بالاستفادة من الخبرات الإسرائيلية في المجال التقني والعسكري، فإن العلاقة مع تل أبيب في الوقت ذاته لم تعد متطلبًا من متطلبات انخراطها في المجتمع الدولي، كما كانت عليه الأمور بعيد استقلالها. فإن كانت هذه الدول قد استجابت للرغبة الإسرائيلية في مد الجسور معها على اعتبار أن مثل هذه الخطوة تحسن من قدرتها على بناء علاقات مع الغرب وتحديدًا الولايات المتحدة، فإنه بعد أكثر من 30 عامًا على الاستقلال وتجذُّر مكانتها الدولية والإقليمية، تراجعت قيمة هذا المحدد في توجيه علاقة هذه الدول بإسرائيل. إلى جانب ذلك، فإنه حتى على صعيد الحاجة إلى التقنيات المتقدمة والوسائل القتالية، فإن إسرائيل باتت تواجه منافسة قوية من قبل قوى إقليمية أخرى في آسيا الوسطى. فعلى سبيل المثال، باتت كازاخستان تعتمد بشكل أكبر على تركيا في تأمين متطلباتها من الطائرات المسيرة، بعد أن كانت تعتمد على الطائرات التي تنتجها الصناعات العسكرية الإسرائيلية. فمنذ منتصف العام الجاري تنتج الشركة التركية لصناعات الفضاء "TUSAŞ" مسيراتها الهجومية من طراز "إنكا" داخل كازاخستان.
في الوقت ذاته، فإن الحقائق الجيوسياسية تسهم في دفع دول آسيا الوسطى لموازنة العلاقة بإسرائيل بعلاقاتها مع قوى إقليمية وعالمية أخرى بشكل يقلِّص من قيمة هذه العلاقات بالنسبة لتل أبيب. فنظرًا لأن معظم دول آسيا الوسطى دول غير ساحلية، فإنها تضطر إلى إدارة سياساتها الخارجية عبر مراعاة توازنات جيوسياسية معقدة وأحيانًا متضاربة، وهذا يفرض عليها التسلح بقدرات دبلوماسية تمكِّنها من بناء علاقات مع أكبر عدد من الدول. ولبناء توقعات موضوعية إزاء مستقبل العلاقة بين إسرائيل ودول آسيا الوسطى وقيمتها الاستراتيجية بالنسبة لتل أبيب، فإنه يتوجب مراعاة تأثير منظومة العلاقات المعقدة التي تربطها بالقوى العظمى والأطراف الإقليمية، سيما إيران، وروسيا، والولايات المتحدة.
فإن كان أحد أهم أهداف السياسة الخارجية الإسرائيلية في الوقت الحالي يتمثل في محاولة محاصرة إيران وعزلها وتقليص قدرتها على مواصلة برنامجها النووي، فإن حقائق الجغرافيا تجعل دول آسيا الوسطى غير مستعدة لأن تكون شريكًا لإسرائيل في تحقيق هذه الهدف. فإيران التي تعد منفذًا بحريًّا حيويًّا لصادرات وواردات دول آسيا الوسطى كثفت أنشطتها الاقتصادية والدبلوماسية في هذه الدول، وتعد ثاني أكبر شريك تجاري لكازاخستان بعد تركيا.
ويشي الخلاف العلني الذي نشب بين كازاخستان وإسرائيل، في 2016، عندما تبين أن كازاخستان تتجه إلى تزويد إيران باليورانيوم، بالتحديات التي تواجه العلاقة بين الجانبين بسبب الحاجة الكازاخية لموازنة العلاقة مع طهران. فقد توجه رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الحين، بنيامين نتنياهو، على عجل إلى أستانا للقاء الرئيس نزارباييف لحثه على عدم تزويد إيران باليورانيوم، أو على الأقل ضمان عدم استخدامه في برنامجها النووي وتوظيفه في صناعة أسلحة إشعاعية "قنابل قذرة".
وقد تعاظمت مكانة العلاقة بإيران لدى دول آسيا الوسطى في أعقاب العقوبات التي فُرضت على روسيا بعد غزو أوكرانيا؛ حيث أصبحت هذه الدول معنية ببدائل عن الموانئ الروسية، سيما كازاخستان، التي باتت معنية بزيادة صادراتها النفطية للعالم عبر الموانئ الإيرانية. وتشي وجهة قادة آسيا الوسطى في زياراتهم الخارجية خلال عامي 2022 و2021، بسلم أولويات هذه في كل ما يتعلق بمكانة العلاقة بكل من إيران وإسرائيل. فإن كانت آخر زيارة لإسرائيل قام بها رئيس دولة في آسيا الوسطى تمت قبل أكثر من عقد من الزمان، فقد استقبلت طهران في العام الجاري كلًّا من رئيس كازاخستان، قاسم زومارت توكاييف، والرئيس الطاجيكي، إمام علي رحمن، والرئيس التركماني، بردي محمدوف، في حين التقى الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، نظيره الأوزبكي، شوكت ميرضيافت، في عشق آباد.
كما يمكن أن يكون لعلاقة روسيا بدول آسيا الوسطى ودورها في المنطقة تأثير على مستقبل علاقتها بإسرائيل؛ فجميع دول آسيا الوسطى، باستثناء تركمانستان، أعضاء في منظمة "معاهدة الأمن الجماعي" التي تمنح روسيا نفوذًا كبيرًا في المنطقة. وعلى الرغم من أن علاقة روسيا بهذه الدول قد شهدت مدًّا وجزرًا، إلا أن الاضطرابات التي شهدتها كازاخستان مطلع العام الجاري، واستعانتها بالقوات الروسية لوأد حركات الاحتجاج الواسعة ضد نظام الحكم في "نور سلطان" كرست مكانة ودور روسيا في هذه المنطقة. وإلى جانب أن روسيا تبدي عادة حساسية إزاء تدخل القوى الأخرى في المناطق التي تعدها حيوية لأمنها القومي، فإن التوتر الذي طرأ على علاقتها بإسرائيل في أعقاب غزوها لأوكرانيا ومواقف حكومة يائير لبيد من الغزو التي أثارت حفيظة موسكو، قد تدفعها لإعاقة علاقة تل أبيب بهذه الدول، في حال تمكنت من الحفاظ على مكانتها ونفوذها في المنطقة بعد انتهاء المواجهة الحالية مع الغرب.
ونظرًا لمحدودية موارد إسرائيل المادية والدبلوماسية وحاجتها إلى صيانة مصالحها في بقاع كثيرة في أرجاء العالم، فإنها تحتاج في كثير من الأحيان إلى المظلة الأميركية لمساعدتها على تحقيق أهداف سياستها الخارجية. من هنا، فإن مستوى حضور الولايات المتحدة في منطقة آسيا الوسطى يعد عاملًا مهمًّا في تحديد قدرة إسرائيل على الحفاظ على حضورها في المنطقة أو تطويره. وقد دشنت الولايات المتحدة ودول آسيا الوسطى الخمس، في أبريل/نيسان 2021، مجموعة "C5+1" التي تمثل منصة للحوار الإستراتيجي بين الجانبين، تمهيدًا للانسحاب الأميركي من أفغانستان. وقد نظمت الولايات المتحدة مناورة ضخمة في أغسطس/آب الماضي في طاجيكستان بمشاركة جيوش الدول الخمس في إطار عضوية الدول الست في "C5+1". ويمكن الافتراض أنه كلما أبدت الولايات المتحدة جدية أكثر في الحفاظ على حضور قوي في آسيا الوسطى، أسهم الأمر في توفير بيئة تسمح لإسرائيل بالحفاظ على مصالحها هناك.
إلى جانب ذلك، فإن مستوى استقرار نظم الحكم القائمة حاليًّا في آسيا الوسطى سيلعب دورًا في تحديد وجهة العلاقة مع إسرائيل. ونظرًا لأن هذه النظم التي تجمع بين الطابع الشمولي والتوجه العلماني والفساد، يواجه بعضها حركات معارضة قوية، فإن أية تحولات على بنية هذه الأنظمة يمكن أن يفضي إلى تغيير وجهة سياساتها الخارجية وضمن ذلك العلاقة بإسرائيل. ولعل هذا ما يفسره موقف إسرائيل من المواجهات بين النظام وقوى المعارضة في كازاخستان مطلع العام الجاري، والذي كان مخالفًا للمواقف الغربية من هذه الأحداث. فقد أصدرت الخارجية الإسرائيلية بيانًا أعربت فيه عن أملها في استعادة الهدوء والنظام وشددت على العلاقات الجيدة والقوية بين إسرائيل وكازاخستان على مستوى الشعبين والتعاون بين الحكومتين، دون توجيه أي انتقاد لسلوك نظام الحكم القمعي. وهو ما عكس رغبة إسرائيل في ألا تسفر هذه الاضطرابات عن سقوط نظام الحكم الذي حرص على تطوير العلاقة مع إسرائيل.
خلاصة
على الرغم من أن كلًّا من إسرائيل ودول آسيا الوسطى تواصل أنماطًا ومستويات متعددة من التعاون بينها إلا أن التحولات التي طرأت على البيئات الداخلية والإقليمية والدولية قد تقلص من قيمة العوائد الاستراتيجية التي تراهن تل أبيب على تحقيقها من خلال العلاقة بدول المنطقة. فتراجع دور العلاقة مع إسرائيل كمدخل لتحسين قدرة دول آسيا الوسطى على بناء علاقات أعمق مع المجتمع الدولي؛ ووجود منافسين إقليميين ودوليين أقوياء لإسرائيل في أسواق آسيا الوسطى يقلص من دافعية دول المنطقة لتطوير العلاقة مع تل أبيب. في الوقت ذاته، فإن تعاظم مكانة إيران الجيوسياسية لدى دول آسيا الوسطى وتأثيرها المتزايد على الأوضاع الاقتصادية فيها تحديدًا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا يقلص من مستوى رهانات إسرائيل على توظيف هذه العلاقة في محاصرة طهران والمس بمصالحها. وقد يترك طابع موازين القوى في النظام العالمي الذي سيتمخض عن المواجهة الحالية بين الغرب وروسيا تأثيرات على العلاقة بين آسيا الوسطى وإسرائيل.
وعلى الرغم من أن الصراع العربي-الإسرائيلي لم يكن أحد المحددات التي وجهت مواقف دول آسيا الوسطى من إسرائيل، ومع أن اتفاقات التطبيع بين إسرائيل والدول العربية تشجع هذه الدول على إشهار علاقاتها بإسرائيل وتطويرها، إلا أن الانقلاب على طابع موازين القوى داخل الحلبة السياسية الداخلية الإسرائيلية قد يؤثر مستقبلًا على دافعية هذه الدول لتطوير علاقاتها بتل أبيب. وإن كانت استطلاعات الرأي المتواترة تدلِّل على أن الحركة الكاهانية بقيادة إيتمار بن غفير التي تتوعد بسن قوانين تنظم طرد الفلسطينيين وتهويد المسجد الأقصى، ستمثل بيضة القبان في الانتخابات الإسرائيلية القادمة، فإن السياسات التي ستتبناها حكومة تل أبيب مستقبلًا قد تحبط محاولاتها الحفاظ على نمط العلاقة الحالي بالكثير من دول العالم وضمنها دول آسيا الوسطى.