• اخر تحديث : 2024-07-03 14:23
news-details
تقدير موقف

كيف توظف الولايات المتحدة الإنترنت في مواجهة خصومها؟


بات الإنترنت واحداً من أدوات إدارة الصراع البارزة التي توظفها الولايات المتحدة في مواجهة خصومها: إيران وروسيا والصين وكوريا الشمالية، وهو ما يرجع إلى قدرته على اختراق الأبواب المغلقة، ومعرفة بيانات سرية، واستهداف بعض الأهداف الحساسة، مع انخفاض تكلفته النسبية في حالات، وارتفاع تكلفة الخسائر الناجمة عنه في حالات أخرى، بيد أن توظيف تلك الأداة قد يسفر عن استخدامها بشكل مضاد من قبل مختلف خصوم الولايات المتحدة، لا سيما مع امتلاكها جميعاً القدرات السيبرانية التي تُمكِّنها من خوض صراع سيبراني محتدم يطال مختلف الشبكات والأنظمة الأمريكية. ولعل هذا ما دللَّ عليه هجوما "سولار ويندز" و"كولونيال بايبلاين".

طبيعة التوظيف

وظَّفت الولايات المتحدة الإنترنت في مواجهة عدد من الدول على النحو الذي تجلى في الحالات التالية:

1تقديم خدمات الإنترنت للأوكرانيين بدون مقابل: عقب بدء الحرب الروسية–الأوكرانية في 24 فبراير الماضي، قدمت شركة “سبيس إكس” خدمة “ستارلينك” في أوكرانيا دون أي مقابل مادي استجابةً لتغريدة نائب رئيس الوزراء وزير الشؤون الرقمية “ميخاليو فيدوروف”. وقد أمكن تنشيط الخدمة في أوكرانيا نهاية شهر فبراير الماضي عقب إرسال الآلاف من المحطات الطرفية المُحمَّلة بأجهزة استقبال الإنترنت الفضائي التي توالى إرسالها تباعاً على نحو وفَّر خدمة الإنترنت في مناطق توقفت فيها الخدمة كلياً أو جزئياً بسبب الحرب المشتعلة بين الجانبين الروسي والأوكراني؛ إذ يسهم إنترنت الفضاء – بوجه عام – في وصول الإنترنت إلى المناطق المعزولة من جراء تدهور البنية التحتية أو الظروف الاستثنائية. وقد أضحى الاتصال بالإنترنت إبان الحروب الدولية أحد العناصر الحاسمة في المواجهات العسكرية الحديثة؛ لأنه يُمكِّن المواطنين من معرفة آخر تطورات العمليات العسكرية الميدانية من ناحية، ويحد من انتشار الشائعات والأكاذيب والأخبار المغلوطة من ناحية ثانية.

2استهداف الصين سيبرانياً: تعرضت بكين لعدد من الهجمات السيبرانية الأمريكية، كان آخرها – على سبيل المثال لا الحصر – الهجمات السيبرانية التي انطلقت من مكتب عمليات الاختراق الخاصة التابع لوكالة الأمن القومي، مُستهدفةً جامعة شمال غرب الصين للعلوم التطبيقية؛ وذلك على النحو الذي أكده المركز الوطني الصيني للاستجابة الطارئة لفيروسات الحاسبات. ووفقاً له، استخدمت الولايات المتحدة 41 سلاحاً سيبرانياً متخصصاً لشن عمليات سرقة سيبرانية أكثر من 1000 مرة ضد الجامعة الصينية، وسرقت منها بعض البيانات التقنية الحساسة، كما تزعم الصين أن الولايات المتحدة نفذت عمليات مراقبة صوتية عشوائية ضد مستخدمي الهواتف المحمولة الصينيين، وسرقت بعض رسائلهم النصية، وحددت مواقع وجودهم لا سلكياً.

3مصادرة العملات المشفرة لقراصنة من كوريا الشمالية: تبعاً لشركة التحليلات المشفرة (Chainalysis)، صادرت الولايات المتحدة في 9 سبتمبر الجاري – على سبيل المثال – أكثر من 30 مليون دولار من العملات المشفرة سرقها بعض القراصنة المرتبطين بكوريا الشمالية من إحدى الألعاب الإلكترونية الشهيرة المعروفة باسم (Axie Infinity)، وهو ما يعكس في جوهره امتداد الصراع بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية إلى الفضاء السيبراني مع توظيف القراصنة المحترفين للقيام بعمليات احتيالية وسرقات غير مشروعة، مع صعوبة استرداد المبالغ المسروقة، لا سيما أن المضبوطات تمثل نحو 10% من إجمالي الأموال المسروقة من “رونين نتوورك” المالكة للعبة، التي تقدر بنحو 615 مليون دولار من العملات المشفرة.

كما تشير التقديرات إلى أنه في عام 2022 فحسب، سرقت الجماعات المرتبطة بكوريا الشمالية ما يقرب من مليار دولار من العملات المشفرة من بروتوكولات التمويل اللا مركزية التي تشمل الخدمات المالية المقدمة على سلاسل الكتل العامة.

تقييم الفاعلية

يمكن الدفع بأن فاعلية توظيف الإنترنت في مواجهة خصوم الولايات المتحدة تواجه بعض التحديات؛ وذلك بالنظر إلى جملة من الأسباب يمكن الوقوف عليها في النقاط التالية:

1تنامي القدرات السيبرانية للخصوم: في ظل التطور المضطرد في القدرات السيبرانية الإيرانية والروسية والصينية، تتزايد بالتبعية المخاطر السيبرانية الأمريكية؛ إذ تملك تلك الدول مجتمعةً خبرات واسعة في الأنشطة السرية، وتستخدم الإنترنت أداة للإكراه والقوة، وهو ما يعني أن أي هجوم على الولايات المتحدة لن يكون عرضياً، بل جزءاً من استراتيجية أكبر للمواجهة، لا سيما في ظل تعدد المؤسسات المسؤولة عن الأمن السيبراني في كل من الدول المعنية؛ فعلى الصعيد الإيراني على سبيل المثال، هناك ثلاث منظمات عسكرية تلعب أدواراً رائدة في العمليات السيبرانية، هي: “فيلق الحرس الثوري الإيراني” (IRGC)، و”الباسيج”، و”منظمة الدفاع السلبي” (NPDO)، فيما يلعب الأول الدور الرئيسي في استهداف الأهداف الأمريكية والبنية التحتية الإسرائيلية.

2تعدد ردود الأفعال المحتملة: من شأن توظيف الإنترنت في مواجهة أي من خصوم الولايات المتحدة أن يدفعها إلى توظيف أدوات مضادة قد تشمل شن هجمات سيبرانية انتقامية أو استباقية، والمضي قدماً في قطع خدمات الإنترنت الوطنية (كما في حالة إيران)، والاستعانة بالقراصنة الوطنيين لاختراق بعض الأنظمة والشبكات الأمريكية الحساسة؛ فعقب بداية الحرب الروسية–الأوكرانية على سبيل المثال، تعددت التحذيرات الأمريكية من هجمات سيبرانية روسية محتملة على الولايات المتحدة مع تأكيد عدم قدرة الحكومة الفيدرالية على صد تلك الهجمات بمفردها بفعل امتلاك القطاع الخاص الغالبية العظمى من البنية التحتية الأمريكية، وسط مطالبات بتعزيز الأمن السيبراني الأمريكي ورفع المرونة الوطنية.

3محدودية مستخدمي خدمات “ستارلينك”: تبعاً لشبكة “سي إن بي سي”، يبلغ عدد مستخدمي “ستارلينك” في أوكرانيا نحو 150 ألف أوكراني يومياً، وهو رقم ضئيل جداً بالمقارنة بعدد سكان أوكرانيا الذي تجاوز 44 مليون نسمة. وفي المقابل، ومع دخول الخدمة المحتمل في إيران، لا يتصور أن يتجاوز عد مستخدميها مليون نسمة على أرجح الآراء، كما أن تلك الخدمة ستواجه تحديات تقنية ولوجستية عدة، لا سيما أنها تتطلب إنشاء محطات صغيرة، وأجهزة مصممة لاستقبال الإشارة من الأقمار الصناعية، ومحطات أرضية ثابتة قريبة من المستخدمين؛ فإن وجدت تلك المحطات في الداخل الإيراني دون موافقة السلطات الإيرانية، تزايدت احتمالات استهدافها، وإن وجدت في أي من الدول المجاورة، تزايدت فرص اندلاع أزمة دبلوماسية بين إيران وجيرانها.

4ضرورة رفع العقوبات الأمريكية: تتطلب الحالة الإيرانية –على سبيل التحديد – التجاوز عن بعض العقوبات الأمريكية التي فُرضت سلفاً في عام 2014 والتي مُنعت بموجبها شركات تكنولوجيا المعلومات من تقديم مجموعة كاملة من خدماتها إلى الجانب الإيراني. صحيحٌ أن وزارة الخزانة الأمريكية سمحت، في 23 سبتمبر الجاري، لشركات تكنولوجيا المعلومات الأمريكية بتوسيع أنشطتها التجارية في إيران في المستقبل، وتقديم المزيد من الخدمات عبر الإنترنت في إيران مرة أخرى، بما في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي وبرامج مؤتمرات الفيديو والخدمات الأخرى، إلا أن هذا الأمر تباينت الآراء بصدده؛ بين من رأى أنه يقوض مصداقية العقوبات الأمريكية، ومن دفع بتزايد أهميته.

محدودية التأثير

ختاماً، يدلل توظيف الولايات المتحدة للإنترنت في مواجهة خصومها على تحوله إلى إحدى أدوات الصراع الرئيسية التي يمكن توظيفها بصور عدة؛ يأتي منها على سبيل المثال اختراق الشبكات الوطنية، وسرقة المعلومات الحساسة، وشن الهجمات السيبرانية، وغير ذلك. ويبرز في هذا الإطار الدور الذي تلعبه الشركات التكنولوجية الكبرى لا سيما مع حجمها العملاق، وتنامي أعداد مستخدميها، وتنوع خدماتها المميزة التي قد تصبح بديلاً محتملاً عن الخدمات الوطنية، بيد أنه في المقابل، لا يمكن لتلك الأداة بمفردها – لا سيما في الحالة الأمريكية – أن تحقق أهداف الولايات المتحدة المرجوة؛ فهي لن تردع الاحتجاجات الإيرانية، ولن تجعل النظام السياسي في كوريا الشمالية أكثر ديمقراطيةً، ولن توقف الحرب الروسية–الأوكرانية. بل لا يمكن إغفال توظيفها المضاد من قبل مختلف الخصوم، لتتزايد في المقابل إمكانية تعرض الولايات المتحدة لهجمات سيبرانية تهدد أمنها القومي.