بدأت تركيا تتخذ بعض التدابير الأمنية لمواجهة التهديدات التقليدية في جوارها الإقليمي، وأهمها التنظيمات الإرهابية وفقاً لرؤيتها، وهو ما تجلى في كشف مصادر دبلوماسية تركية في 16 فبراير 2025 عن اتفاق أنقرة مع الأردن والعراق وسوريا لتشكيل آلية للتحرك المشترك ضد تنظيم "داعش"، والتنظيمات الكردية؛ وذلك على مستوى وزراء الخارجية والدفاع ورؤساء أجهزة المخابرات، الذين من المقرر أن يعقدوا اجتماعهم الأول في عمان بنهاية فبراير 2025.
ويأتي هذا التحالف في وقت تسعى فيه تركيا جاهدةً لمواجهة النفوذ الكردي المتزايد في سوريا والعراق، وتوظيف سقوط النظام السوري لتقطيع أوصال المشروع الكردي، بالإضافة إلى تهيئة بيئة مواتية تحفز الولايات المتحدة الأمريكية على سحب قواتها من الشمال السوري. وفي إطار ذلك التحالف، فإن أنقرة تعمل على ضمان أمن مناطقها الحدودية، بجانب تعميق الشراكة مع دول المنطقة.
خطوات متوازية
اتجهت تركيا خلال الآونة الأخيرة نحو تطوير علاقاتها مع دول الجوار الإقليمي، من خلال مجموعة من الأدوات والآليات، التي يمكن بيانها على النحو التالي:
1- تكثيف اللقاءات الدبلوماسية المشتركة: التقى وزير الخارجية التركي "هاكان فيدان" نظراءه في سوريا والعراق والأردن على هامش مؤتمر ميونخ في 15 فبراير 2025، وكذلك على هامش مؤتمر باريس لدعم سوريا في 13 فبراير 2025. وتركزت المحادثات على أهمية بناء علاقات متعددة الأطراف لمواجهة تهديدات التنظيمات الإرهابية.
2- تحسين التنسيق الأمني مع الأردن: شهدت العلاقات التركية-الأردنية انفتاحاً ملحوظاً وانسجاماً في كثير من المواقف الإقليمية، وفي الصدارة منها توافق الطرفين بعد سقوط نظام "الأسد" على ملف مكافحة الإرهاب وإنجاح عملية الانتقال السياسي في سوريا، والتعامل مع التنظيمات المسلحة، خاصةً مع بروز توقعات بعودة "داعش" من جديد، وبروز صراعات بين التنظيمات المسلحة.
ووصل التنسيق الأمني بين الطرفين إلى مستوى غير مسبوق على خلفية زيارة وفد أردني غير تقليدي إلى تركيا في 6 يناير 2025، ضم وزير الخارجية "أيمن الصفدي"، وقائد الجيش الأردني ومدير المخابرات؛ هذا بالإضافة إلى إدانة "الصفدي" حزب العمال الكردستاني، وتأكيده أن ما يشكل تهديداً لأمن تركيا واستقرارها يعد تهديداً أيضاً للأردن والمنطقة برمتها.
3- توطيد أواصر الشراكة مع سوريا: شهدت العلاقات بين أنقرة ودمشق زخماً ملحوظاً منذ صعود "هيئة تحرير الشام" إلى السلطة؛ ما أدى إلى تأسيس شراكة استراتيجية بين البلدين. وأسهم هذا التحول في تعزيز الحوار الاستراتيجي بين الجانبين، بهدف تعميق العلاقات الدبلوماسية والأمنية ومناقشة الدور الذي تلعبه سوريا في تحييد قوات سوريا الديمقراطية "قسد" بشمال شرق البلاد.
جدير بالذكر في هذا الصدد، أن تركيا تحتفظ بعدد من القواعد العسكرية في مناطق عدة بسوريا مثل أعزاز وعفرين وجرابلس في ريف حلب، ورأس العين وتل أبيض في الرقة، بالإضافة إلى نحو 81 نقطة عسكرية في محافظات إدلب وحماة وحلب منذ عام 2017، كما تدرس أنقرة إقامة قواعد عسكرية جديدة في سوريا ضمن خطة تشمل أيضاً توفير الأسلحة والتدريب العسكري للجيش السوري، وتعزيز قدراتها العسكرية لتحييد قوات "قسد".
4- تعزيز التعاون مع بغداد في مكافحة الإرهاب: عززت تركيا تعاونها مع الحكومة العراقية في مكافحة التنظيمات الإرهابية، وهو ما تجسد بشكل واضح قبيل زيارة وزير الخارجية التركي إلى العراق في 26 يناير 2025؛ إذ جاءت هذه الزيارة عقب مقتل اثنين من قوات حرس الحدود العراقي في هجوم شنّه مقاتلون من حزب العمال الكردستاني في محافظة دهوك شمال البلاد. وتعهدت تركيا، في تعليقها على الهجوم، بمواصلة العمل المشترك مع العراق في مكافحة الإرهاب. وكانت العلاقات الأمنية بين أنقرة وبغداد قد وصلت إلى مستوى استراتيجي خلال الآونة الأخيرة، بعد أن صنف العراق حزب العمال الكردستاني "منظمة محظورة" في يوليو 2024.
أهداف منشودة
يبدو أن أنقرة تسعى من خلال تشكيل تحالف رباعي يضم العراق وسوريا والأردن إلى جانب تركيا، إلى تحقيق جملة من الأهداف، يتمثل أبرزها فيما يلي:
1- احتواء التهديدات الإرهابية العابرة للحدود: تعتبر تركيا أن التحديات المتفاقمة التي تشهدها منطقة الجوار التركي بعد سقوط "الأسد"، باتت تفرض أهمية بناء تحالف أمني مع سوريا والعراق والأردن، والوصول بالعلاقة إلى مستوى جديد يعتمد على التعاون والتمكين بدلاً من التناقضات، لا سيما في ظل وجود مؤشرات كاشفة عن توجه تنظيم "داعش" لإعادة تموضعه في الإقليم، واستغلال الفراغ الأمني الذي خلفه سقوط "الأسد".
وكان وكيل الأمين العام لمكتب الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب، قد حذر في 10 فبراير 2025، من قدرة تنظيم "داعش" على مواصلة أنشطته وتكييف أسلوب عمله في الإقليم، كما نبه إلى أن عدم الاستقرار في سوريا والعراق، يمكن أن يؤثر على تأمين مخيمات التطرف في شمال شرق سوريا، التي تضم عدداً هائلاً من عناصر التنظيم. ومن ثم يتمثل الهدف من هذا التحالف في تأسيس شراكة أمنية بين الدول الأربعة لمكافحة "داعش"، بما يصب في صالح الإقليم، وخاصةً في ظل عودة النشاط العملياتي للتنظيم داخل سوريا والعراق.
وفي هذا السياق، ترى تركيا أن إدارة المعسكرات والسجون التي يحتجز فيها عناصر التنظيم شمال شرق سوريا، والتي تضم نحو 43 ألف عنصر، يجب أن تنتقل إلى الإدارة السورية الجديدة. وتُعطي تركيا أولوية لتسليم مسلحي "داعش" المسجونين إلى دولهم الأصلية، كما عرضت تركيا تقديم الدعم اللوجستي والعملياتي لإدارة مخيمات التطرف في شمال سوريا بهدف منع استخدامها من قبل قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، التي تصنفها تركيا منظمة إرهابية، وتعتقد أن "قسد" تستغل معسكرات وسجون "داعش" كأداة دعائية لتعزيز شرعيتها.
2- تقويض الذرائع الأمريكية لدعم "قسد": تخشى تركيا من أن يؤدي استمرار الدعم العسكري الأمريكي لقوات سوريا الديمقراطية "قسد" شمال شرق سوريا إلى الإضرار بخطتها التي تستهدف تقطيع أوصال المشروع الكردي في الإقليم، وتعقيد مهمة الفصائل الموالية لها في الداخل السوري، التي تخوض منذ 30 نوفمبر 2024 معارك عسكرية ضد "قسد". وعلى الرغم من أن اتفاق التعاون الأمني بين تركيا ودول الجوار الإقليمي لا يتطرق بشكل صريح إلى "قسد"، فإن هذه القوات تظل موضوعاً محورياً، وتعد سبباً رئيسياً في دفع تركيا نحو تعزيز علاقاتها الأمنية مع الأردن والعراق وسوريا.
ويتسق ذلك مع رفض "قسد" الانخراط في الجيش السوري الجديد وتسليم السلاح، بالإضافة إلى إصرار الإدارة الذاتية الكردية على بناء سوريا الجديدة وفق نموذج فيدرالي يضمن لها صلاحيات وامتيازات خاصة، وهو ما تعتبره أنقرة تهديداً لأمنها القومي. ووفقاً للعديد من التقديرات، فإن الاقتراح التركي بإنشاء "تحالف رباعي" يهدف إلى تقويض حجة واشنطن التي تعتمد عليها لدعم "قسد" في الحرب ضد "داعش"؛ حيث تبرر واشنطن وجود قواتها في سوريا وتحالفها مع "قسد" بضرورة مكافحة الإرهاب.
3- تعزيز نفوذ تركيا ومكانتها في المنطقة: في قناعة تركيا أن التحالف الجديد يوفر فرصة جيدة لها لتعزيز مكانتها الإقليمية في مجال مكافحة التنظيمات الإرهابية، والجرائم العابرة للحدود بالإضافة إلى الدور المحتمل لهذا التحالف في زيادة النفوذ الأمني والاستراتيجي لتركيا في المنطقة، وتكوين أوراق رابحة في مواجهة المنافسين، فضلاً عن إمكانية استثمار هذا التحالف في تحييد الضغوط الغربية على تركيا في الملفات الخلافية.
4- زيادة الوجود العسكري لتركيا في المنطقة: اتفقت تركيا مع سوريا والعراق على توسيع نطاق التعاون العسكري المشترك، ليشمل نشر القوات العسكرية وأجهزة الإنذار على المناطق الحدودية المشتركة، كما تم تعزيز التعاون الأمني مع الأردن، وهو ما تجسد في زيارة قائد الجيش الأردني "يوسف الحنيطي" ومدير الاستخبارات العامة "أحمد حسني" إلى أنقرة في يناير 2025. وفي إطار رؤية أنقرة، سيمكنها هذا التحالف من إنشاء قواعد لوجستية جديدة؛ ما يعزز الوجود العسكري التركي في المنطقة ويعزز من قدرات الجيش التركي في ملاحقة التنظيمات الإرهابية، سواء كان تنظيم "داعش" أو التيارات الكردية.
5- دعم خيار الحلول الإقليمية لأزمات المنطقة: تحرص تركيا على تحييد التدخلات الأجنبية في الإقليم. وعلى ضوء ذلك، فإن تركيا تنظر إلى مقترح التحالف الرباعي باعتباره أحد المداخل الجوهرية لتعزيز استراتيجية "الخصوصية الإقليمية"، التي تعتمد، بحسب وزير الخارجية التركي "هاكان فيدان"، على أطروحة مفادها أن دول المنطقة يجب أن تتحمل مسؤولية حل مشاكلها داخل جغرافيتها؛ ما يمنع الجهات الفاعلة من خارج المنطقة من التدخل في شؤونها.
تعزيز القدرات
وختاماً، يمكن القول إن تركيا تسعى من خلال بناء تحالف رباعي مع سوريا والعراق والأردن إلى تعزيز قدرتها على مواجهة التنظيمات الإرهابية باستخدام القوة الصلبة، كما أن هذه الخطوة تهدف إلى تقليل المخاطر الناتجة عن التنافس الاستراتيجي بين القوى الإقليمية والدولية على مناطق الجوار التركي؛ ما قد يؤدي إلى تغييرات جذرية تعزز مصالح تركيا وأمنها الإقليمي.