سيتجه السباق الرئاسي في البرازيل إلى جولة ثانية بعد فشل الرئيس الأسبق لولا دا سيلفا في الحصول على أغلبية أصوات الناخبين (أكثر من 50% من الأصوات)، خلال الجولة الأولى التي عُقدت في 2 أكتوبر الجاري، وهي الأغلبية التي كان المرشح اليساري بحاجة إليها لتجنُّب جولة الإعادة ضد الرئيس الحالي ذي التوجهات اليمينية جايير بولسونارو. وستحدد الانتخابات إذا ما كان دا سيلفا، الذي حكم البلاد بين عامي 2002–2010، سيعود إلى قيادة رابع أكبر دولة ديمقراطية في العالم، وكذلك مدى قدرة بولسونارو على مواصلة تنفيذ أجندته اليمينية المتطرفة إذا أُعيد انتخابه.
دلالات مهمة
لنتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية البرازيلية دلالات مهمة متمثلة فيما يلي:
1– أداء جيد للرئيس بولسونارو ومخالفة الاستطلاعات: حصل الرئيس المنتهية ولايته على نسبة 43.2% من الأصوات في الجولة الأولى، وهي نسبة تجاوزت بكثير معظم نتائج استطلاعات الرأي؛ فأغلب استطلاعات الرأي توقعت أن بولسونارو سيحصل على ما يقرب من 36% من الأصوات، وهو الأمر الذي أثار تساؤلات بشأن نتائج هذه الاستطلاعات؛ إذ ذكرت بعض التقارير أن الجهات المُنظِّمة للاستطلاعات السابقة للانتخابات تعرضت للخداع من قبل الناخبين الذين تجنَّبوا إظهار توجُّهاتهم الانتخابية الداعمة للرئيس بولسونارو بصورة حقيقية؛ خوفاً من انتقادهم في ظل الانتقادات التي تعرَّض لها الرئيس على خلفية إدارته للدولة.
اللافت هنا أن الفترة التي سبقت التصويت شهدت تصعيداً من قبل الرئيس البرازيلي وأنصاره تجاه استطلاعات الرأي؛ فعلى سبيل المثال، انتقد “بولسونارو” جهات استطلاعات الرأي العام ووصفها “بالكاذبة”، كما حث سيرو نوجيرا رئيس موظفي بولسونارو، أنصار الرئيس على رفض إجراء أي مقابلات مع جهات لاستطلاع الرأي.
2– مكاسب اليمين في المجالس التشريعية: حقق حلفاء بولسونارو الذين تنافسوا على عضوية الكونجرس وحكومات الولايات البرازيلية انتصارات انتخابية مهمة، أظهرت أن اليمين المتطرف أقوى مما كان متوقعاً؛ ليس هذا فحسب، بل إن حزب بولسونارو الليبرالي تفوق على حزب العمال بزعامة دا سيلفا ليصبح الأكبر في مجلسَي الشيوخ والنواب، بإجمالي 112 مقعداً؛ أي أعلى من منافسه الرئيسي بـ 23 مقعداً، رغم أنه لا يزال يفتقر إلى الأصوات اللازمة لتمرير التشريعات منفرداً. ومن الواضح أن اليمين أكثر تركيزاً على الاقتصاد وأكثر تنظيماً من اليسار، إضافةً إلى الدعم القوي لبولسونارو من قطاع الأعمال الزراعية والمسيحيين الإنجيليين.
3– تراجع نسبي لـ دا سيلفا: قبل الانتخابات، أظهرت معظم استطلاعات الرأي تقدم المرشح اليساري على بولسونارو بفارق كبير، اقترب من وأحياناً تجاوز الرقمين، بل توقع بعض الاستطلاعات فوز دا سيلفا بالجولة الأولى. لكن بولسونارو جاء في المركز الثاني بفارق خمس نقاط فقط عن دا سيلفا. مع ذلك، فإنه منذ تحول البرازيل إلى الديمقراطية في ثمانينيات القرن الماضي، تمكن جميع المرشحين الذين فازوا في الجولة الأولى من الفوز بالجولة الثانية. وبافتراض فوز المرشح اليساري في الجولة الثانية من الانتخابات، فإن إدارته ستواجه معارضة شديدة في الكونجرس الذي يسيطر عليه حلفاء بولسونارو.
4– تفاقم حدة الاستقطاب السياسي: جرت الجولة الأولى من الانتخابات في ظل أجواء شديدة التوتر والانقسام، وتخللتها أعمال عنف أسفرت بالفعل عن سقوط ضحايا. وحاول بولسونارو، الذي حصل على دعم الشريحة الأفقر من الناخبين، الذين استفادوا من البرنامج الذي أطلقه الرئيس للتحويلات النقدية Auxilio Brasil، تصوير أن فوز “دا سيلفا” سيقود إلى تبني سياسات اقتصادية يسارية تضع البرازيل على مسار اقتصادي مضطرب مماثل للأرجنتين وفنزويلا.
في المقابل، سلَّطت حملة “دا سيلفا” الضوء على استجابة “بولسونارو” الكارثية لجائحة كوفيد–19، وإزالة غابات الأمازون. وكان لهذا الاستقطاب المتزايد تداعيات مهمة، منها عزوف أكثر من 30 مليون ناخب (21%) عن التصويت، بجانب ضيق الفارق بين المرشحَيْن الأول والثاني في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية لعام 2022، وهو الأقل منذ عودة الديمقراطية في البرازيل؛ إذ بلغ 5%، بعدما وصل الفارق إلى 16.7% خلال الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة لعام 2018.
تداعيات عميقة
من غير المُحتمل أن تقتصر تداعيات الانتخابات الرئاسية على مستقبل النظام الديمقراطي وخريطة العلاقات الإقليمية والدولية للبرازيل فحسب، بل سيكون لها أيضاً انعكاسات جذرية على مستقبل بعض القضايا البيئية المهمة بالنسبة إلى كوكب الأرض، كما يتبيَّن فيما يأتي:
1– تهديد مستقبل الديمقراطية: تتبع البرازيل نظام التصويت الإلكتروني منذ 25 عاماً؛ وذلك لتسهيل المشاركة السياسية على الأُميِّين، ومكافحة التزوير. لطالما كان هذا النظام مصدراً للفخر الوطني، لكن الرئيس “بولسونارو” قوَّض مصداقيته على نحو خطير؛ فقد أثار الرئيس شكوكاً حتى اللحظة الأخيرة، بدون أدلة، ضد نظام التصويت الإلكتروني، وهاجم المحكمة الانتخابية العليا؛ لذلك يخشى الكثيرون من قيام اليمين البرازيلي المتطرف، في حال مواجهة نتيجة لا ترضيه، بتعبئة أنصاره على شاكلة هجوم أنصار “دونالد ترامب” على مبنى الكابيتول في الولايات المتحدة في 6 يناير 2021.
2– تداعيات متباينة على جهود التكامل الإقليمي: في حالة فوز “دا سيلفا” في الجولة الثانية، فإن هذا سيمثل تتويجاً للانعطاف نحو اليسار الذي شهدته أمريكا اللاتينية في الانتخابات الأخيرة، ومن المُرجَّح أن يعزز جهود التكامل الإقليمي بين قادة اليسار المتقاربين سياسياً، في ظل تبنيهم رؤى قوية للوحدة والتعاون الإقليمي. وفي المقابل، فإن فوز بولسونارو لن يعني سوى مزيد من العزلة الإقليمية للبرازيل بين جيرانها، في ظل العلاقات المتوترة بين الرئيس المنتهية ولايته وبين القادة اليساريين في أمريكا اللاتينية.
3– إعادة تشكيل خريطة العلاقات الدولية للبرازيل: سيعمل المرشح اليساري، إذا فاز في الانتخابات، على توثيق علاقات بلاده بالاتحاد الأوروبي؛ حيث تعهَّد بالإسراع في التصديق على اتفاق التجارة بين الاتحاد والميركوسور، الذي توقف بسبب موقف بولسونارو من غابات الأمازون، وسيعمل أيضاً على تقوية علاقات البرازيل بالولايات المتحدة وكذلك الصين على السواء. أما فوز بولسونارو فسيفرض مزيداً من العزلة الدولية على البرازيل بسبب موقفه من قضية تغير المناخ وتوجُّهاته السلطوية وسياساته المعادية للنساء والأقليات. ويُمكِن أن تدفعه هذه العزلة المُحتمَلة إلى تعميق المشاركة الدبلوماسية مع بعض التجمعات والدول مثل بريكس بالصين التي لا تثير أسئلة غير مريحة حول موضوعات إزالة الغابات وحقوق الإنسان.
4– مخاوف جدية بشأن مستقبل غابات الأمازون: للبرازيل مكانة محورية في الجهود الدولية لمكافحة تغير المناخ، بالنظر إلى أنها تضمُّ مساحات كبيرة من غابات الأمازون المطيرة، التي يصفها العلماء بأنها “رئة كوكب الأرض”. وينتشر القلق العالمي بشأن مُعدَّل إزالة غابات الأمازون، الذي تسارع بوتيرة متصاعدة في ظل رئاسة بولسونارو، وهو اتجاه سيستمر إذا فاز بولاية ثانية، في حين تعهَّد دا سيلفا باتخاذ خطوات جدية لحماية غابات الأمازون والحد من حرائق الغابات وإزالتها، إذا تم انتخابه.
وختاماً.. يمكن القول إن بولسونارو سيسعى إلى الاستفادة من الأداء القوي غير المُتوقَّع من قِبل الجناح اليميني لعقد التحالفات مع المرشحين المتنافسين الآخرين، الذين حصلوا على نحو 8% من الأصوات مُجتمِعين، بينما سيعمل دا سيلفا، بدرجة أكبر، على حشد أصوات مؤيدي أحزاب الوسط، خاصةً في ولاية ساو باولو أكثر الولايات البرازيلية اكتظاظاً بالسكان. وبغضِّ النظر عمن سيفوز في الانتخابات، فإن البرازيل ستشهد خلال الأسابيع الأربعة المقبلة ارتفاع وتيرة الاستقطاب وتنامي مخاطر العنف السياسي، في ظل إصرار بولسونارو بشدة على أنه سيفوز في الانتخابات، مدعياً منذ فترة طويلة أنه لن يقبل بالاعتراف بخسارته؛ ما سيضع الديمقراطية والاستقرار السياسي في البرازيل على المحك.