بعد نحو تسعة أشهر فقط من الانقلاب العسكري الذي شهدته بوركينا فاسو، في يناير 2022، عندما أطاح اللفتنانت كولونيل هنري سانداوجو داميبا، بالرئيس المنتخب آنذاك، روش مارك كريستيان كابوري، شهدت واغادوغو انقلاباً عسكرياً جديداً، في نهاية سبتمبر 2022، قاده النقيب إبراهيم تراوري، أسفر عن الإطاحة بالرئيس الانتقالي داميبا، وهو ما عكس تصاعد وتيرة التنافس الروسي – الفرنسي في غرب أفريقيا.
مشهد مضطرب:
شهدت بوركينا فاسو نحو تسعة انقلابات عسكرية منذ استقلالها عن فرنسا في عام 1960، وفي هذا السياق يمكن عرض أبعاد الانقلاب العسكري الأخير في واغادوغو على النحو التالي:
1- تصريحات متضاربة: خيّمت على المشهد الداخلي في واغادوغو حالة من الغموض بشأن طبيعة الانقلاب، حيث سمع سكان العاصمة صباح يوم 30 سبتمبر 2022 إطلاق نار من القواعد العسكرية الموجودة هناك، بالإضافة إلى تعليق البث في التلفزيون الوطني، وقطع بعض الطرق الرئيسية بالعاصمة.
وسعت الرئاسة للتهوين من هذه التحركات عبر إصدار بيان أكدت فيه أن التطورات الجارية في البلاد لا تعدو أكثر من مجرد سوء تفاهم، لافتاً إلى أن ثمة وضعاً مشوشاً بسبب تقلبات مزاجية لدى بعض الجنود بالجيش، غير أنه بعد ساعات قليلة من بيان الرئاسة، أعلن النقيب، إبراهيم تراوري، الإطاحة بداميبا، رئيس "الحركة الوطنية للإنقاذ والإصلاح" الحاكمة في البلاد، وتوجيه اتهامات له بالخيانة العظمى، مشيراً إلى أن طموحات داميبا تحولت بعيداً عن التركيز على الأبعاد الأمنية، مما أدى إلى تفاقم الأوضاع الداخلية في البلاد.
2- مواجهات حادة: بمجرد إعلان تراوري إقالة دامبيا، شهدت واغادوغو إطلاق نار مكثف، وتم رصد تحركات لمركبات عسكرية مدججة بالسلام وسط العاصمة واغادوغو، وهو ما ارتبط بوجود فصائل من الجيش تمسكت بدعم داميبا.
ولكن بعد يومين من الغموض، أعلن داميبا تقديم استقالته، وذلك بعد توسط بعض الزعماء الدينيين في الأزمة السياسية الأخيرة، والذين ضمنوا له خروجاً آمناً من المشهد، وتعيين النقيب، إبراهيم تراوري، رئيساً مؤقتاً للدولة، بعدما كان الأخير يشغل منصب قائد فيلق مدفعية "كايا" بشمال بوركينا فاسو، كما تم تعليق العمل بالدستور وإغلاق الحدود وحل الحكومة والمجلس التشريعي الانتقالي.
3- إدانة خارجية: التزمت غالبية القوى الدولية والإقليمية الصمت إزاء الانقلاب في بوركينا فاسو، بيد أن المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، نيد برايس، أكد شعور واشنطن بقلق كبير إزاء الأحداث الراهنة في بوركينا فاسو، مطالباً الأطراف كافة بالهدوء وضبط النفس.
كما أعلنت "المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا" (إيكواس)، عن إدانتها الانقلاب الأخير في واغادوغو، لافتةً إلى أنه يمثل تقويضاً للتقدم الذي شهدته المفاوضات مع حكومة بوركينا فاسو للعودة إلى المسار الدستوري والحكومة المدنية.
ولطمأنة القوى الدولية والإقليمية، أكد تراوري أن المجلس العسكري الجديد سيعمل على العودة إلى المسار الدستوري وفقاً للخطة المتفق عليها مع مجموعة الإيكواس، قبل يوليو 2024، لافتاً إلى أنه فقط سيتولى إدارة البلاد بشكل مؤقت لحين اختيار رئيس لتسيير المرحلة الانتقالية، كما اتجه تراوري إلى تخفيف وطأة التوتر مع فرنسا، من خلال دعوة المتظاهرين إلى تجنب العنف ضد المصالح الفرنسية في البلاد.
تفسيرات متعددة:
تباينت التقديرات بشأن أسباب حدوث انقلاب عسكري جديد في بوركينا فاسو، والتي يتمثل أبرزها في التالي:
1- سخط شعبي متنامٍ: شهدت الأسابيع الأخيرة احتجاجات متزايدة في الداخل البوركينابي بسبب تردي الأوضاع الأمنية، لاسيما بعد العملية الإرهابية التي استهدفت قافلة إنسانية، قبل خمسة أيام فقط من الانقلاب، تمخض عنها مقتل نحو 11 جندي، كما أن الحكومة البوركينابية لم تعد تسيطر سوى على 60% من أراضيها.
2- صراع الأجنحة: ربطت بعض التقديرات بين المتغيرات الراهنة التي تشهدها بوركينا فاسو بصراع داخلي بين الأجنحة المختلفة بالمؤسسة العسكرية في البلاد، حيث أشارت هذه التقديرات إلى وجود خلافات داخلية في المجلس العسكري الحاكم في البلاد، منذ يناير الماضي، وكان الكولونيل داميبا أعلن قبل أسبوع عن وجود مفاوضات جارية مع ما اسماها "حركة المزاج" بالجيش.
ومن ناحية أخرى، أرجعت بعض التقارير الانقلاب الأخير في بوركينا فاسو إلى تهميش الكولونيل داميبا لبعض عناصر المجلس، فضلاً عن رفض داميبا الإفراج عن قائد أحد وحدات القوات الخاصة، وهو إيمانويل زوغرانا، قائد وحدة "المامبا الخضراء".
وكانت إحدى أبرز نقاط الخلاف بين الأجنحة الداخلية للجيش البوركينابي تتمثل في ملف اختيار الشركاء الدوليين، فبينما كان التيار الذي يقوده الكولونيل داميبا يميل نحو التعاون مع فرنسا، كانت هناك مجموعة أخرى داخل المجلس تفضل التقارب مع روسيا.
3- تنافس دولي حاد: تعد بوركينا فاسو دولة حبيسة، ولا تمتلك موارد طبيعية كبيرة، غير أنها تتمتع بموقع استراتيجي بوسط القارة الأفريقية، كما ترتبط بعدة دول مهمة بغرب أفريقيا، وهو ما جعلها محط اهتمام للقوى الدولية المختلفة.
وشكل الانقلاب العسكري الأخير في بوركينا فاسو أحد أبعاد التنافس الروسي – الفرنسي في الساحل وغرب أفريقيا، وهو ما يتضح من توجيه قادة الانقلاب الأخير في بوركينا فاسو اتهام لفرنسا بدعم داميبا للحفاظ على السلطة، كما أكدوا عزمهم التوجه نحو روسيا للحصول على دعمها في مكافحة التنظيمات الإرهابية، والتي رفع المتظاهرون الداعمون للانقلاب أعلامها في العاصمة البوركينابية، فضلاً عن مهاجمة المتظاهرين للسفارة الفرنسية في واغادوغو، ومراكز ثقافية فرنسية في عدد من المدن، منها مدينة بوبو ديولاسو.
وما يؤكد ذلك تحصن داميبا داخل قاعدة "كابوسين" العسكرية الفرنسية بالعاصمة واغادوغو بعد الانقلاب عليه، حيث تحتفظ فرنسا بنحو 400 جندي لها في بوركينا فاسو، في إطار قوة "سابر" الخاصة، والتي تتولى مسؤولة تدريب قوات الجيش البوركينابي، بيد أن السفارة الفرنسية في واغادوغو سارعت لنفي ذلك، لافتةً إلى أن القوات الفرنسية لم تتدخل لدعم أي طرف داخلي.
مسارات محتملة:
يمكن رصد عدة مسارات محتملة خلال الفترة المقبلة للانقلاب العسكري الأخير، وذلك على النحو التالي:
1- تقويض النفوذ الفرنسي لصالح الروسي: يمكن النظر إلى الانقلاب الأخير باعتباره مؤشراً على استمرار تراجع النفوذ الفرنسي في غرب أفريقيا، وهو ما يتضح من التظاهرات الشعبية الواسعة التي شهدتها واغادوغو لإظهار الدعم للانقلاب العسكري الأخير.
ويتزامن ذلك مع تصاعد الحضور الروسي هناك، والذي كان يرتكز بالأساس على البعد الشعبي والإعلامي، حيث رصدت بعض التقارير زيادة ملحوظة في مستويات متابعة الصحف الروسية في واغادوغو، فضلاً عن ظهور عدد من الشخصيات العامة والحركات التي كانت مؤخراً تطالب السلطات الانتقالية بتكرار تجربة مالي وإنهاء التعاون العسكري مع فرنسا، وطرد قواتها من بوركينا فاسو، والعمل على تعزيز التعاون مع الجانب الروسي.
ومن أبرز هذه الحركات الداعمة للتقارب مع روسيا هي حركة "بوركينا- روسيا"، والتي ترتكز على العلاقات الوثيقة التي كانت تربط واغادوغو بالاتحاد السوفييتي فترة الرئيس الأسبق، توماس سنكارا، في ثمانينيات القرن الماضي، ولذا يتوقع زيادة احتمالات استعانة بوركينا فاسو بمجموعة فاجنر الروسية.
2- دعم فرنسي للانقلاب الأخير: زعمت بعض التقديرات أن باريس لم تكن بمعزل عن الانقلاب الأخيرة في بوركينا فاسو، ويستند أنصار هذا الطرح إلى وجود قاعدة عسكرية فرنسية في واغادوغو، والتي كانت قادرة على إجهاض الانقلاب العسكري الأخير إذا ما كان يشكل تهديداً لمصالحها هناك، وبالتالي، فإن التزام هذه القوات موقف الحياد قد يكون مؤشراً على وجود تنسيق فرنسي مع قادة الانقلاب، وذلك بغية التخفيف من وطأة السخط الشعبي الراهن ضد الكولونيل داميبا، والتعثرات الأمنية في البلاد.
ومن ناحية أخرى، أثارت تحركات داميبا تحفظات باريس، بعدما عمد إلى المناورة بورقة التقارب مع روسيا لدفع فرنسا لتعزيز دعمها العسكري له في مواجهة التهديدات الإرهابية، وهو ما انعكس في تصريحات رئيس الحكومة الانتقالية، ألبيرت أوديراجو، بأن واغادوغو تحتفظ بالحق في تنويع شراكاتها حتى وإن كان هذا الأمر يشكل إزعاجاً لحلفاء بوركينا فاسو التقليديين، في إشارة إلى فرنسا، فضلاً عن الاجتماع الأخير الذي كان داميبا نفسه قد عقده مع وزير الخارجية الروسي على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو ما أزعج باريس.
كما يمكن النظر لتصريحات قادة الانقلاب، والتي أبدت ميلاً نحو التقارب مع روسيا بأنها تستهدف فقط التماشي مع سخط الشعب على الوجود الفرنسي ودعوته لتعزيز التقارب مع موسكو، غير أن مثل هذا التقدير يبدو مستبعداً، خاصة أن تراوري أكد أن "بوركينا فاسو تتعامل مع فرنسا ومع شركاء آخرين. على غرار روسيا التي يربطنا معها عقد عسكري"، مضيفاً أن بلاده "تستخدم كثيراً من العتاد العسكري الروسي".
3- استمرار الموقف المتأرجح: قد تتجه بوركينا فاسو إلى تعزيز التقارب مع روسيا، ولكن من دون الوصول لدرجة التحالف معها على غرار حالة مالي، مع الاحتفاظ بالتنسيق مع فرنسا، وبالتالي ربما يكون الانقلاب الأخير مجرد تمرد من قبل بعض عناصر المجلس العسكري الحاكم ضد داميبا. ويعتمد أنصار هذا الطرح على التصريحات الأخيرة للنقيب إبراهيم تراوري، والذي دعا المتظاهرين إلى تجنب العنف ضد السفارة الفرنسية، مشيراً إلى أن بلاده تنتوي التعاون مع باريس إلى جانب غيرها من القوى الدولية الأخرى على غرار روسيا.
واتساقاً مع هذا الطرح، يعكس الانقلاب الانقسامات الداخلية في الجيش البوركينابي، في ظل التباينات القائمة بشأن التحالفات مع القوى الدولية، وهو ما قد يدفع نحو محاولة القادة العسكريين تحقيق درجة من التوازن في العلاقة بباريس وموسكو.
وفي الختام، يشكل الانقلاب الأخير في بوركينا فاسو أحد أبعاد التنافس الروسي – الفرنسي الحاد في غرب أفريقيا، فبينما يتراجع النفوذ الفرنسي بشكل لافت في هذه المنطقة رغم مساعيها إعادة صياغة استراتيجيتها، تتمدد روسيا بشكل مضطرد، حتى أن هناك بعض التقارير بدأت تتحدث عن احتمالية تكرار هذا السيناريو في دول أخرى، ربما يكون من بينها تشاد والنيجر وبنين وتوغو.