• اخر تحديث : 2024-04-26 21:42
news-details
قراءات

كيف أحيا قرار إلغاء حظر تسليح قبرص الخلافات الأمريكية التركية؟


أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية في 16 سبتمبر الماضي عن رفع حظر بيع الأسلحة إلى قبرص، وبعد ذلك الإعلان بنحو أسبوعين، خلال شهر أكتوبر الجاري، أعلنت واشنطن إضافة قبرص إلى برنامج للتعاون الأمني مع واشنطن. وهما القراران اللذان يعززان العلاقات الأمريكية القبرصية، كما سيُسمح بناءً عليهما ببيع أسلحة دفاعية غير فتاكة إلى قبرص، بعد حظر فُرض عليها منذ 33 عاماً، بما يعزز العلاقات الأمنية بين واشنطن ونيقوسيا. وفي الوقت الذي لاقى فيه القراران ترحيباً كبيراً من الجانب القبرصي، أثارا في المقابل غضب تركيا التي اعتبرتهما يستهدفان أمنها الإقليمي، في مؤشر على بدء جولة جديدة من الخلافات بين واشنطن وأنقرة، بما يُنذر بعودة العلاقات الثنائية بين البلدين إلى مربع التوتر.

خلفيات القرار

بررت واشنطن قرارها برفع حظر التسليح المفروض على نيقوسيا بأنه يأتي في إطار تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، إلا أن القرار حمل العديد من الدوافع؛ وذلك على النحو التالي:

1- تعزيز التعاون الأمني بين واشنطن ونيقوسيا: كانت الولايات المتحدة قد فرضت قيوداً على نقل الأسلحة إلى قبرص في عام 1987 في محاولة منها لدفع مساعي إعادة توحيد الجزيرة وتجنب سباق التسلح هناك؛ وذلك بعد تقسيم الجزيرة منذ عام 1974 عقب غزو تركي اعتراضاً على دعم اليونان لتحول في السلطة بالجزيرة آنذاك. وفي عام 2020 اتخذت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب قراراً برفع جزئي لحظر السلاح عن قبرص، يسمح ببيع أسلحة ذات طبيعة دفاعية فقط. وحينها قال وزير الخارجية الأمريكي السابق “مايك بومبيو” تعليقاً على القرار: “جمهورية قبرص شريك رئيسي في شرق البحر المتوسط. ويسعدني أن أعلن أننا نعمل على تعميق تعاوننا الأمني”. وجاء القرار الأخير من قبل إدارة “بايدن” ليرفع القيود أكثر عن بيع الأسلحة إلى قبرص بشكل عام خلال السنة المالية 2023، بما يعني أن القرار يستهدف تعزيز الشراكة الأمنية والاستراتيجية مع قبرص التي تمثل شريكاً استراتيجياً مهماً للولايات المتحدة شرق المتوسط.

2- استراتيجية الولايات المتحدة لدعم دول شرق أوروبا: يأتي قرار رفع حظر الأسلحة المفروض على قبرص منذ سنوات، في إطار الاستراتيجية التي تبنتها الولايات المتحدة عقب الحرب الروسية–الأوكرانية، وهي الاستراتيجية التي تمحورت حول فكرة دعم وحماية شرق أوروبا من “التهديد الروسي”، وقد تجسدت هذه الاستراتيجية في زيادة واشنطن حضورها العسكري في رومانيا وبلغاريا واليونان وقبرص، مع تعزيز الدعم العسكري الأمريكي لهذه البلدان.

 لكن الحالة القبرصية تحظى بأهمية خاصة في هذا الصدد؛ فمنذ أشهر تصاعدت التقارير التي تتحدث عن هروب قبرص من حظر التسليح عبر اللجوء إلى روسيا. ومن هنا يبدو أن القرار الأمريكي جاء كأحد سياسات تحييد قبرص عن المحور الروسي، حتى إن العديد من الدوائر الأمريكية التي أشادت بالقرار الأخير أشارت إلى أن “قبرص شريك استراتيجي أساسي بالنسبة إلى الولايات المتحدة على مستوى مواجهة التهديدات الروسية”.

3- تحييد قبرص عن تطوير علاقاتها بموسكو: يبدو قرار واشنطن برفع حظر تسليح قبرص متماشياً مع المصالح الأمريكية الاستراتيجية في منطقة شرق المتوسط، وهي المنطقة الغنية بموارد الطاقة من الغاز الطبيعي، التي تحولت إلى مركز للمنافسة الاستراتيجية العالمية. وعليه فإن إلغاء حظر التسليح عن قبرص، من شأنه أن يُحيدها عن تنمية علاقاتها بروسيا، فضلاً عن أنه سيدفع باتجاه تعزيز التعاون بين نيقوسيا وواشنطن في مجال مكافحة غسيل الأموال الروسية ومنع استقبال الموانئ القبرصية السفن العسكرية التابعة لموسكو بالكامل.

4- رسائل تحذير إلى أنقرة: لا تقف دوافع القرار الأمريكي عند حدود تعزيز الشراكة الاستراتيجية والأمنية مع قبرص وتحييدها عن الدوران في فلك روسيا، بل تمتد لتشمل إيصال رسائل تحذير وردع إلى تركيا إثر تنامي علاقاتها مع روسيا، إلى الحد الذي جعل البعض ينظر إليها على أنها جزء من التحالفات العالمية الاستراتيجية لروسيا. وعلى الرغم من العقوبات الكبيرة التي فرضتها الولايات المتحدة على تركيا عسكرياً واقتصادياً، فإن هذه العقوبات والإجراءات لم تُؤثر على مسار التقارب التركي الروسي، بل إن بعض الدوائر التركية داخل الائتلاف الحاكم طالبت بالرد على العقوبات الأمريكية من خلال إغلاق قاعدة إنجرليك الجوية الأطلسية في وجه الاستخدام الأمريكي. ومن ثم يبدو أن الخطوة الأمريكية الأخيرة تأتي في إطار تعزيز الضغوط على أنقرة للتأثير على علاقاتها بالجانب الروسي.

وبالإضافة إلى ما سبق لا يمكن فصل هذا القرار الأمريكي عن تصاعد التوتر بين تركيا من جانب واليونان من جانب آخر، وهو التوتر الذي ارتبط بشكل رئيسي بجزر بحر إيجة؛ إذ تتهم أنقرة أثينا بالتوسع في عسكرة هذه الجزر التي يبلغ عددها 14 جزيرة، وتدخل ضمن السيادة اليونانية بموجب اتفاق “باريس” للسلام الموقع عام 1947، فضلاً عن أن أنقرة عادت إلى التشكيك في السيادة اليونانية على هذه الجذر، وهو ما دفع الحكومة اليونانية في مايو الماضي إلى إرسال خطاب إلى الأمم المتحدة، تطالب فيه بوقف التشكيك التركي في سيادتها على جزر بحر إيجة.

5- تأكيد النفوذ الأمريكي في شرق المتوسط: لا تنفصل القرارات الأمريكية الأخيرة، سواء فيما يتعلق بقبرص أو حتى بدعمها سيادة اليونان على جزر بحر إيجة، عن محاولات واشنطن تأكيد نفوذها في منطقة شرق المتوسط، وخصوصاً مع الأهمية الاستراتيجية للمنطقة في الاكتشافات الضخمة للغاز، وكذلك وجود المنطقة عند تقاطع أقاليم أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا، وهي أقاليم مهمة بالنسبة إلى واشنطن.

تخوفات تركية

أثار القرار الأمريكي بإلغاء حظر التسليح المفروض على قبرص تخوفات وانتقادات عديدة من الجانب التركي. ويمكن القول إن هناك العديد من الدوافع التي يمكن في ضوئها فهم هذه التخوفات التركية؛ وذلك على النحو التالي:

1- اتهامات لواشنطن بالرغبة في تحييد أنقرة عن موسكو: قرأت العديد من الدوائر السياسية التركية السياسات الأخيرة من واشنطن تجاه قبرص واليونان، على أنها محاولة لإبعاد تركيا عن روسيا. وأشارت هذه الدوائر إلى أن “واشنطن تُحرض تركيا على شن حرب ضد قبرص الأوروبية واليونان، تماماً مثلما فعلت مع روسيا التي غزت أوكرانيا بعدما نجحت واشنطن في تحريض موسكو على كييف. ومن ثم تريد واشنطن استخدام رفع السلاح عن قبرص الأوروبية كورقة تفاوض لاحقاً”، وهي وجهة نظر تتماشى مع الرؤية الأمريكية التي ترى ضرورة تفكيك تحالفات روسيا الخارجية، والدفع باتجاه حدوث صدام بين روسيا والعديد من الدول.

2- تعقيد الأزمة القبرصية: اعتبرت وزارة الخارجية التركية، في تعليقها على القرار الأمريكي، أن هذا القرار “يتناقض مع مبدأ المساواة بين الطرفين في الجزيرة” المقسمة بين شمالها التركي وجنوبها اليوناني–الأوروبي، مطالبةً الولايات المتحدة بإعادة النظر في هذا القرار واتباع سياسة “متوازنة” بين الطرفين في جزيرة قبرص، كما حذرت أنقرة من أن القرار الأمريكي سيجعل الشطر اليوناني من الجزيرة أكثر صلابة، وسيؤثر ذلك على محاولات حل أزمة قبرص، خاصةً أنه سيؤدي إلى ما أطلقت عليه سباق التسلح بين شطري الجزيرة؛ الأمر الذي يضر بالاستقرار والسلم شرق المتوسط.

ومن جانبه، أشار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى أن “الإجراء الأمريكي برفع حظر التسليح عن قبرص لن يبقى دون رد”، مضيفاً أن “تركيا ستتخذ كل التدابير لأمن القبارصة الأتراك”، لافتاً إلى أنه “لا تفسير لقرار الولايات المتحدة رفع حظر الأسلحة عن قبرص؛ لا من حيث المضمون ولا من حيث التوقيت”، وبالفعل أعلنت الخارجية التركية منذ أيام عن أنها سترسل المزيد من القوات العسكرية إلى قبرص التركية؛ ما يعكس النظرة التركية إلى هذه التحركات على أنها تمثل تهديداً لأمنها القومي.

3- تخوف أنقرة من العزلة في شرق المتوسط: على الرغم من إشارة الولايات المتحدة وقبرص واليونان إلى أن تحالفهما وتنامي وتيرة التعاون العسكري بينهما، يرتبط بالرغبة في محاصرة النفوذ الروسي شرق المتوسط، إلا أن أنقرة ترى أن هذه التحركات تأتي في إطار ترتيبات أعم تستهدف تحجيم نفوذها في شرق المتوسط، وهي الترتيبات التي تجسدت في تنامي وتيرة التعاون الأمريكي الطاقوي الأمريكي مع اليونان وقبرص، فضلاً عن ترتيبات إقليمية أخرى تجسدت في التعاون الطاقوي بين اليونان وقبرص وإسرائيل ومصر والأردن والإمارات والسعودية، وهي تحركات تُقصي تركيا من المعادلات الإقليمية الخاصة بشرق المتوسط.

4- الضغط على أنقرة في ملفات المنطقة: ربما تنظر أنقرة إلى السياسات الأمريكية الأخيرة تجاه قبرص واليونان باعتبارها محاولات من واشنطن للضغط على تركيا في بعض ملفات المنطقة على غرار الملفين السوري والليبي؛ فهناك خلافات بين تركيا والولايات المتحدة حول سوريا، وهي الخلافات التي تصاعدت خلال الشهور الماضية عقب تلويح تركيا المتكرر بأنها ستنفذ عملية عسكرية جديدة في شمال سوريا.

كما أن الملف الليبي يظل أحد الملفات التي تثير خلافات بين أنقرة وعدد من حلفاء واشنطن في المنطقة، وفي هذا الصدد، تدرك أنقرة أن ليبيا أحد الأوراق التي تستخدمها في إدارة علاقاتها مع واشنطن وبعض الأطراف الإقليمية، ولعل هذا ما يفسر قرار أنقرة التوقيع على مذكرتي تفاهم في مجال عمليات التنقيب عن الغاز والاستثمار النفطي، يوم 3 أكتوبر الجاري، مع حكومة الوحدة الوطنية خلال زيارة وفد تركي رفيع المستوى إلى العاصمة طرابلس، يتقدمه وزراء الخارجية مولود جاويش أوغلو والدفاع خلوصي أكار والطاقة والموارد الطبيعية فاتح دونماز والتجارة محمد موش. وهذه المذكرات تنطوي في جانب منها على تصعيد تركي تجاه الموقف الأمريكي من قبرص واليونان.

في الختام، يمكن القول إن الخطوة الأمريكية الأخيرة بإلغاء حظر التسليح المفروض على قبرص، ربما تدفع باتجاه زعزعة الاستقرار الإقليمي في شرق أوروبا واليونان، خصوصاً مع الإجراءات التركية المحتملة للرد على هذه الخطوة، وهي الإجراءات التي ترتبط بنظرة تركيا إلى القرار على أنه يمثل تهديداً لأمنها القومي. ومع ذلك، فإن هذا التوتر الأمريكي – التركي يرجح أن يكون محكوماً بحدود معينة! فتركيا تظل في احتياج واضح إلى الولايات المتحدة، وواشنطن ليس من مصلحتها القطيعة مع تركيا، ولعل هذا ما يفسر أبعاد الزيارة المفاجئة التي أجراها مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان إلى إسطنبول، يوم 2 أكتوبر الجاري، ولقائه مستشار الرئيس التركي المتحدث باسم الرئاسة “إبراهيم كالين” لمحاولة تهدئة التوترات بين الدولتين.