• اخر تحديث : 2024-04-26 21:42
news-details
أبحاث

جولة جديدة من القتال في تيغراي: الدوافع والسيناريوهات المستقبلية


مع إعلان الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي وقفها لإطلاق النار نهاية العام الماضي، وما تلاه من إعلان الحكومة الإثيوبية لهُدنة إنسانية في مارس/آذار، تزايدت الآمال في إمكانية الوصول إلى حل سلمي للصراع في شمال إثيوبيا.

رافق كل ذلك حراك سياسي ودبلوماسي، تمثل في جولات المبعوثين الدوليين إلى إثيوبيا، وتشكيل وفود من قبل طرفيْ الصراع اللذيْن عقدا جلستيْ تفاوض مباشر سريتين في جيبوتي وسيشيل، بتيسير من المبعوث الأمريكي الخاص إلى القرن الأفريقي، مايك هامر، وكان من المتوقع أن يمهد ذلك للدخول في عملية تفاوضية رسمية ومباشرة تفضي إلى توافقات سياسية تصوغ الحل النهائي.

ولكن الحرب اندلعت مجدداً. ومع اتساع نطاقها تتكثف المؤشرات السلبية حول المصير الذي تسير البلاد إليه. وفي هذا الإطار تعمل الورقة على توضيح العوامل التي أدت إلى انفجار الجبهات مرة أخرى، وتحليل أهم ملامح الاستراتيجيات المتبعة من قبل أطراف الصراع، إلى جانب تقييم موقف القوى الدولية الفاعلة في الملف الإثيوبي، ورسم السيناريوهات المتوقعة لهذه الجولة الجديدة من الحرب.

1.الدوافع وراء التصعيد الحالي:

على الرغم من تبادل الاتهامات بين طرفيْ الصراع الإثيوبي، بإطلاق الطلقة الأولى التي خرقت الهُدنة، فإن الاشتعال السريع للجبهات يوضح أن الجميع كانوا يستعدون لهذه المعركة، وأن الحل التفاوضي لم يكن الخيار الوحيد. وبناء عليه يمكن القول إن هناك دوائر متداخلة من العوامل أدت إلى الانفجار الأخير وما تبعه من تصعيد؛ يرتبط بعضها بالوساطة والبعض الآخر بدوافع أطراف الصراع بجانب الدور الإريتري، ويمكن إجمالها في الآتي:

أ – فشل الوساطة الأفريقية: منذ إطلاقها في أغسطس 2021، فشلت وساطة الاتحاد الأفريقي التي يقودها مبعوثه إلى منطقة القرن الأفريقي، الرئيس النيجيري الأسبق أولسون أوباسانغو، في إحراز أي تقدم ملموس في سبيل إقناع الطرفين بجدوى العملية التفاوضية القائمة على أساس هذه الوساطة، حيث عجز أوباسنغو عن ممارسة ضغوط متوازية ومتوازنة على طرفيْ الصراع.

كما افتقدت الوساطة الأفريقية إلى ثقة أحد طرفي الصراع؛ حيث ترى الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي أنها “غير قادرة على جلب السلام إلى تيغراي” وفقاً للناطق باسمها غينتاشيو رضا، معللاً ذلك بعجز الوسيط عن دفع الحكومة الإثيوبية إلى الوفاء بتعهدات قطعتها على نفسها في الأشهر الماضية، وهو ما يُعقّد في النهاية مهمة الوسيط، ذلك أن قبول الأطراف المعنية بالوسيط يعد عاملاً رئيسياً في تأكيد مصداقيته ودعم جهوده.

ولا يمكن فصل تمسك أديس أبابا بشعار “حلول أفريقية للمشكلات الأفريقية”، سواء في أزمة سد النهضة          أو في أزمة تيغراي، عن نفوذها في الاتحاد الأفريقي وعن افتقاده في الوقت نفسه إلى الموارد أو إلى الأدوات الكافية للضغط عليها، وهو ما يدفعها إلى التمسك بأوباسانغو كوسيط وحيد في الصراع الأخير، واستبعاد أي دور مباشر للأطراف الأخرى، ما أدى في النهاية إلى حشد الدعم الأمريكي والأوربي والأممي خلف أوباسانغو الذي فشل في استثماره، ما أوصل الأزمة إلى انسداد كامل، تجلى في البحث مجدداً عن الحلول النهائية ، عبر فوهات البنادق.

ب- التباعد في المطالب وانعدام الثقة بين الطرفين: تؤكد الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي على حُزمة من المطالب الرئيسية “غير القابلة للتفاوض”، منها رفع الحصار، وإعادة الخدمات الرئيسية إلى الإقليم، وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه عشية اندلاع الحرب في 4 نوفمبر 2020، بما فيها عودة السيطرة على منطقتي رايا وغربي تيغراي. وهي مطالب تتحفظ عليها الحكومة الفيدرالية وإن لم ترفضها بشكل مباشر، حيث تخشى من استخدام المساعدات الغذائية في تمويل آلة الحرب لتيغراي، أو أن تؤدي إعادة السيطرة على غربي تيغراي إلى فتح قناة إمداد لوجستي من السودان المجاور.

هذا الاستعصاء يكشف اتساع هوة عدم الثقة العميقة بين الطرفين، بما يطرح دوماً التخوفات والأسئلة حول مَنْ يجب أن يتخذ الخطوة الأولى، وكيف وبأي ضمانات، كما يَحُول في الآن ذاته دون بناء أي أرضية مشتركة ضرورية لكي تسير العملية التفاوضية قُدُماً على أساسها.

ج- عدم قناعة الأطراف جدياً بالسبل السلمية لحل هذا الصراع: غلب على أداء أطراف الصراع الرئيسية في المرحلة السابقة، الميل إلى استخدام السلاح كأداة وحيدة لفرض حل للأزمة عميقة الجذور في البلاد، حيث كان التعاطي الإيجابي مع أي حلول تفاوضية عبر وساطة مرتبطاً بشعور أحد الطرفين بتراجع وضعه الميداني. يلاحظ هذا في فترة ما قبل استرجاع السيطرة على مقلي (يونيو 2021) من قبل الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، والتي دعت إلى الحلول التفاوضية، وفي دعوة آبي أحمد إلى حل تفاوضي مع انسحاب جيشه من الإقليم، بعد الهزيمة العسكرية التي لحقت به. وفي الحالتين كان الطرف الذي يشعر بتفوقه في أرض المعركة يتعامل مع الوساطة إما بالرفض وإما بطرح شروط تعجيزية لتعزيز مواقفه.

وبينما يجنح البعض إلى استخدام “العقلية الحبشية الصفرية” كأداة لفهم هذه الطريقة في إدارة الصراع، يرى الباحث أن النظر إلى تعقيدات الحرب الجارية في شمال إثيوبيا، والتي تتألف من طبقات متشابكة من العداوات تمنحنا فهماً أشمل لطبيعتها، حيث تختلط فيها، على سبيل المثال، العوامل التاريخية والإثنية كما في الصراع الأمهري التيغراوي. ويتمحور جوهر النزاع بين الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي ورئيس الوزراء آبي أحمد حول الفلسفة السياسية المُثلى، لإدارة التنوع العرقي الكبير في إثيوبيا، بين الفيدرالية الإثنية التي ابتدعتها الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي إبّان سيطرتها على الحكومة المركزية بين 1991 و2018، والمركزية التي ينادي بها أحمد، منذ إلغاء الائتلاف الحاكم سابقاً (الجبهة الثورية الديمقراطية لشعوب إثيوبيا)، وتأسيس حزب الازدهار الإثيوبي بدلاً عنه، في حين يبدو الصراع وجودياً بين كل من النظام الإريتري وحكام مقلي (عاصمة إقليم تيغراي).

د- دوافع تيغراي:

كسر الحصار على الإقليم بالقوة: أدى الحصار المطبق على تيغراي إلى عواقب إنسانية كارثية، على المستوى الإنساني، حيث أعلن برنامج الغذاء العالمي في 19 أغسطس أن الحرب في تيغراي، جعلت ما يقرب من نصف سكان المنطقة في حاجة “شديدة” إلى المساعدات، وأن معدلات سوء التغذية تشهد ارتفاعاً ومن المتوقع أن تزداد سوءاً.

كما ارتفع عدد الأشخاص الذين يحتاجون إلى مساعدات غذائية إلى 89%، مقارنة بـ 83% في يناير، بينما ارتفع عدد المحتاجين “بشدة” إلى المساعدات الغذائية من 37% في يناير إلى 47% في أغسطس، حيث يكافح عمال الإغاثة لتوزيع المساعدات الغذائية بسبب نقص السيولة والوقود.

إزاء هذا الواقع كان رفع الحصار على رأس حزمة المطالب. وقد أعلنت تيغراي أنها غير قابلة للتفاوض، وأنها يجب أن تسبق إطلاق أي مفاوضات سلام بين الطرفين، وهو ما لم تفلح الأدوات السلمية في جعل الحكومة الإثيوبية تراجع موقفها منه، رغم شهور الهُدنة الطويلة. في حين ذكرت بعض المصادر أن الحكومة تراجعت عن الوفاء بتعهداتها برفع الحصار، والتي التزمت بها في مفاوضات سرية مع تيغراي في سيشل وجيبوتي، وهو ما دفع قيادة تيغراي إلى أن توضح لوفديْ الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة أنهم قد يكسرون الحصار بالوسائل العسكرية إنْ فشلت جهود الوساطة لإنهائه سلمياً.

الاستفادة من الأوضاع الأمنية المضطربة في البلاد: شهدت شهور الهدنة الإنسانية تزايداً ملحوظاً في التصدعات داخل الجبهة الحكومية، وفي انشغال القوات الحكومية بجبهات قتال متعددة. فعلى الرغم من أن التحالف الوثيق بين رئيس الوزراء الإثيوبي ونخب الأمهرة السياسية كان من دعائم سلطة أحمد منذ توليه السلطة، فإن العديد من العوامل أدت إلى اصطدامه مع مليشيا فانو الأمهرية، ما أثر سلبياً على تحالفات رئيس الوزراء الداخلية مع الأمهرة نظراً إلى المكانة التي تتمتع بها مليشيا فانو، حيث مثلت رأس الحربة في الهجوم على تيغراي في مطلع الحرب، والتصدي لتوغلهم في إقليم أمهرة خريف العام الماضي.

إلى جانب ذلك، خاضت القوات الحكومية معارك عنيفة مع عدد من الحركات المتمردة في البلاد، أهمها جيش تحرير أورومو في مناطق من إقليم أوروميا، حيث يتمتع هذا الجيش بولاء قطاعات من الأورومو الذين يمثلون الحاضنة المجتمعية الرئيسية لرئيس الوزراء آبي أحمد.ورسم بيانٌ صادر عن مجلس الأمن القومي الإثيوبي، قبل اندلاع الجولة الحالية من القتال بأسبوعين تقريباً، صورةً قاتمة عن الأوضاع الأمنية في جميع أنحاء البلاد.

وفي المحصّلة فإن كل ما سبق من الممكن النظر إليه، من جانب تيغراي، كمؤشر على ضعف موقف أديس أبابا؛ ما يغري بالتالي بمحاولة الضغط على الحكومة الإثيوبية من خلال العمل العسكري.

التخوف من المتغيرات الإقليمية: أبدت الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي رغبتها في أن يقود الرئيس الكيني السابق أهورو كينياتا، إبان ولايته، جهود الوساطة، وأن تستضيف بلاده المفاوضات بين طرفي الصراع في إثيوبيا، وهو ما تم التوافق عليه في جلسات التفاوض في سيشيل وجيبوتي. وهذه المبادرة كانت تتم بدعم أمريكي وتنسيق مع كينياتا.لكن هذه الجهود تعرضت للتهديد مع خسارة المرشح المدعوم من قبل كينياتا، رايلا أودينغا، أمام خصمه ويليام روتو، قبل أيام من اندلاع الجولة الجديدة من الصراع في إثيوبيا. ومع عدم وضوح نية روتو تجاه المبادرة المذكورة آنذاك، يبدو أن اليأس أصاب مقلي من جدوى الحلول التفاوضية؛ حيث كانت ترى الدور الكيني قادراً على إصلاح أداء الوساطة الأفريقية، وبالتالي فإن الخيار المتبقي أمامها هو العمل العسكري لفرض وقائع جديدة، تتضمن تغيير المبعوث الأفريقي أوباسانغو أو إدخال تغييرات جذرية على الوساطة تدعم فاعليتها وقدرتها على إنهاء الصراع في إثيوبيا.

هـ – الاستفادة من ضعف تيغراي بعد شهور الحصار الطويلة: يعاني الإقليم من آثار كارثية على المستوى الإنساني والاقتصادي، نتيجة قُرابة عامين من الحرب والحصار المتواصل، وهو ما قد يدفع البعض في أديس أبابا إلى المراهنة على عدم قدرة تيغراي على احتمال التصعيد لفترات طويلة، نتيجة المعاناة الإنسانية المتفاقمة والضغط الشعبي المفترض، والرغبة في عدم إفساد الموسم الزراعي في الخريف، والذي يُعدّ أحد مصادر الغذاء القليلة المتوفرة للسكان في الإقليم.

و- العامل الإريتري: كان لأسمرة موقف مبدئي رافض لعملية السلام الإثيوبية بين الحكومة الفيدرالية من جهة وجبهة تيغراي من جهة أخرى، حيث يرى النظام الإريتري في الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي تهديداً وجودياً له وخطراً داهماً على الكيان الإريتري كما أن مجريات الحرب الإثيوبية أثبتت لقيادة تيغراي أن انتصارهم مرتبط بهزيمة النظام الإريتري وإسقاطه، الذي كان طرفاً فاعلاً في الحرب التي شنت عليهم إلى جانب الحكومة الفيدرالية في 4 نوفمبر 2020، في حين تعالت بعض التصريحات من النخبة التيغراوية بضرورة إعادة تشكيل خريطة المنطقة، بما يضمن سيطرتهم على أجزاء من إريتريا لتحقيق طموحات إنشاء دولة مستقلة للتيغراي، تضم الناطقين بالتغرينية وتصل إلى البحر الأحمر، ما حوَّل الصراع بين الطرفين إلى الحالة الصفرية.

في هذا الإطار عقدت أسمرة تحالفات مع القوى الإثيوبية الرافضة لأية مصالحة مع تيغراي، كمليشيات فانو الأمهرية. كما تشير تقارير إلى أدوار عسكرية للجيش الإريتري في المعارك الحالية، واستقبال إريتريا وحدات من الجيش الإثيوبي والمليشيات المتحالفة معه على أراضيها.

 وفي 10 سبتمبر نشرت وزارة الإعلام الإريترية تعليقاً سياسياً، اتهمت فيه تيغراي بخرق الهدنة وإشعال الحرب، وتضمن التعليق رسائل مبطنة إلى الحكومة الإثيوبية تحذرها من “تاريخ فيه الكثير من النفاق والخيانة والخداع” من قبل جبهة تيغراي، كما تحذرها أيضاً من الوثوق بالولايات المتحدة، بناءً على تجارب النظام الإريتري مع واشنطن أثناء توسطها في الحرب الحدودية (1998-2000) مع إثيوبيا.

واللافت في هذا التعليق هو توقيت نشره؛ إذ جاء مباشرة بعد إعلان الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي استعدادها للانخراط في عملية سلمية، والأخبار التي ترددت عن نجاح المبعوث الأمريكي مايك هامر في إقناع الطرفين بالجلوس للتفاوض في جيبوتي، وهو مؤشر على قلق أسمرة من أي تأثير لهذه التطورات على الحكومة في أديس أبابا، وهو ما دفعها إلى الاستمرار في التصعيد.

2. سياسات طرفي النزاع الرئيسيين:

أ- سياسة الحكومة: أهم ملامح الاستراتيجية الحكومية تتجلى في الآتي:

أولاً- تحذير الأطراف الإقليمية المشتبه بدعمها لتيغراي: كان من اللافت أن الخطوة الأولى التي اتخذتها الحكومة الإثيوبية، مع اندلاع المعارك إرسال رسالة تحذير للأطراف التي تعتقد أنها تدعم قوات الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، من خلال الإعلان الحكومي عن إسقاط طائرة تابعة “للأعداء التاريخيين” لإثيوبيا، كانت تحمل السلاح لقوات تيغراي وفق الجنرال تسفاي أيالو، مسؤول إدارة العمليات العسكرية المشتركة بقوات الدفاع الوطني.

وقد شاب هذا الإعلان تناقضات، حيث أعلن الجنرال السالف الذكر إسقاط الطائرة في إثر دخولها المجال الجوي السوداني، وهو ما نفته الخرطوم، في حين أعلن الوزير رضوان حسين، مستشار شؤون الأمن القومي لدى رئيس الوزراء الإثيوبي، أن الطائرة تم تدميرها أثناء تفريغها للسلاح.

ولم تقدم السلطات الإثيوبية معلومات تُزيل هذا التناقض أو تكشف المزيد عن الطائرة، ما يرجح أنها كانت رسالة مع اندلاع الجولة الجديدة من الحرب، تتضمن تحذيراً لمصر والسودان من محاولة دعم تيغراي في هذه الجولة، وهو اتهام أوردته الحكومة الإثيوبية مراراً في السابق.فضلاً عن ذلك، ربما يضمر هذا التناقض استعدادات مسبقة للطرف الحكومي لخوض جولة ثالثة من حرب “حاسمة” و”نهائية” على تيغراي قد تكون طويلة، وبالتالي إرسال رسالة للأطراف الإقليمية من مغبّة تقديم أي نوع من الدعم لقوات تيغراي.

ثانياً-تقوية رئيس الوزراء تحالفاته الداخلية: عمد رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد إلى تقوية روابطه مع الأمهرة تحديداً، بعد أن أدت محاولة نزع الحكومة سلاح مليشيات فانو الأمهرية إلى تذمر في أوساط القوميين الأمهريين من سياسة رئيس الوزراء، وشعورهم بالاستهداف و”الخيانة”. ويبرز في هذا السياق بيان صادر عن لجنة الاتصال الحكومية الإثيوبية بتاريخ 31 أغسطس يصف مناطق غربي تيغراي التي تتبع دستورياً لإقليم تيغراي، بأنها جزء من أراضي إقليم أمهرة. وكانت استعادة الأمهرة للسيطرة على هذا الأراضي الاستراتيجية من العوامل التي أدت إلى تحالفهم مع أحمد منذ وصوله إلى الحكم في 2018.

ثالثاً- تقوية رئيس الوزراء تحالفه الإقليمي مع إريتريا: ارتبط البلدان بتحالف استراتيجي، منذ انطلاق عملية السلام بينهما، على إثر تولي أحمد رئاسة الوزراء في بلاده. وقد تجاوز هذا التحالف بعده الثنائي إلى بُعد إقليمي أكبر بإنشاء التحالف الثلاثي بين البلدين والصومال، غير أن العلاقة بين أسمرة وأديس أبابا شابها الفتور خلال الأشهر الماضية، نتيجة للرفض الإريتري المبدئي لعملية المصالحة مع تيغراي. في حين أن المشاركة الإريترية الفعالة في المعارك الآن تؤكد عودة التحالف الاستراتيجي بين الطرفين في مواجهة عدوهما المشترك تيغراي، وهو ما سيُضعف إمكانيات إعادة إحياء عملية المصالحة مرة أخرى، بالنظر إلى الاشتراطات الإريترية الرافضة جذرياً للمصالحة مع تيغراي.

رابعاً-تشديد سياسة الحصار: في إثر إعلان الهُدنة الإنسانية بين الحكومة وتيغراي، بدأت المساعدات الإنسانية تتدفق بشكل أكبر داخل الإقليم. غير أنها ظلت دون القدر الكافي لمواجهة الأزمة الإنسانية المتفاقمة. ولطالما كان تحفُّظ الحكومة مرتبطاً بالتخوف من تحول المساعدات إلى دعم الآلة العسكرية لتيغراي، وهو ما برز مرة أخرى في بيانها في الأول من سبتمبر، حيث أكدت مسؤولية الحكومة على  إيصال المساعدات الإنسانية مباشرة إلى مستحقيها، ومنع تحويلها إلى تمويل الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، وهو ما يمكن وضعه في سياق محاولة زيادة معاناة المواطنين في الإقليم، وبالتالي التأثير على الرأي العام في تيغراي ودفعه إلى الثورة على حكومة الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، وهي استراتيجية كانت القوات الفيدرالية وحلفاؤها، وما تزال، تراهن عليها، ويمكن أن تتحقق فقط في حال إحكام الحصار على الإقليم وقيادته.

خامساً- التعتيم الإعلامي: من الملاحظ في هذه الجولة من القتال انتهاج الحكومة الإثيوبية قدراً من التعتيم الإعلامي مقارنة بالمراحل السابقة، سواء فيما يتعلق بتفاصيل المُجريات الميدانية، أو بعض المواقف السياسية كردّ الحكومة على عرض تيغراي وقف إطلاق النار وجهود المبعوث الأمريكي مايك هامر. ولعل أبرز ملامح هذه السياسة أن رئيس الوزراء الإثيوبي لم يخرج، حتى الآن، في خطاب خاص إلى الأمة حول التطورات الأخيرة منذ بدء المعارك في 24 أغسطس الماضي.

سادساً- تعدد المحاور العسكرية: تميزت هذه الجولة من القتال بتعدد المحاور العسكرية التي تحاول من خلالها القوات الحكومية وحلفاؤها التقدم باتجاه مقلي عاصمة الإقليم، كما برز دور القوات الإريترية في المراحل الأولى بالإسناد والقصف المدفعي، ثم قيام السلطات الإريترية بحملة تجنيد شاملة داخل البلاد، والهجوم على الإقليم، كما استقبلت إريتريا على أراضيها وحدات من الجيش الإثيوبي وحلفائه لإحكام تطويق إقليم تيغراي من جميع الاتجاهات، ومن ثم العمل على استنزاف قوات تيغراي، كما برزت في هذه المرحلة محاولة الاستيلاء على مرتفعات تمبين في تيغراي التي تعدّ معقلاً رئيسياً لقوات دفاع تيغراي.

ب- سياسة تيغراي: أهم ملامح سياسة تيغراي تتجلى في الآتي:

أولاً- المباغتة بالضربة الأولى:

تبادل أطراف الصراع الاتهامات بخرق وقف إطلاق النار، كما قدموا قرائن متعددة على التحشيد المسبق استعداداً للمعركة، لكن ثمة العديد من العوامل التي ترجح بدء تيغراي للهجوم، من أهمها:

الضغط الشعبي: ثمة حالة من التذمر الشعبي داخل إقليم تيغراي من السير في طريق التفاوض مع النتائج غير المرضية طوال الأشهر الماضية، حيث تمس الحاجة إلى عودة الخدمات الأساسية ورفع الحصار، وهو ما لم يتحقق؛ ما شكل ضغطاً شعبياً مستمراً على قيادة تيغراي لاتخاذ خطوة ما باتجاه تحريك العملية التفاوضية، أو قلب الطاولة والدخول في مسار مختلف تماماً، يتضمن الوصول بأي ثمن إلى الحدود السودانية وفتح قنوات إمداد غذائي ولوجستي إلى الإقليم، ولاسيما عند النظر إلى أن قيادة تيغراي سبق أن أعلنت لجمهورها أن انسحاب قواتها إلى داخل حدود الإقليم في أواخر العام الماضي، كان خطوة للسماح بدخول المساعدات الإنسانية، ولم يكن نتيجة هزيمة عسكرية. وفي المقابل لا تعاني الحكومة من أي ضغوط باتجاه استئناف القتال، حيث تملك أداة ضغط كبيرة متمثلة في تفعيل سياسة الحصار.

سوابق تيغراي في الجولات الماضية: تكتيك المباغتة والضربة الاستباقية هو نموذج كررت قوات دفاع تيغراي استخدامه مراراً خلال جولات هذه الحرب، بدءاً بالهجوم على القيادة الشمالية للجيش الإثيوبي الذي فجر هذه الحرب، مروراً بمعارك رأس ألولا صيف العام الماضي، ثم الهجوم على إقليم عفر، في حين كانت معظم التحليلات تتوقع هجوماً على منطقة غربي تيغراي.

رد الفعل الحكومي المرتبك: لوحظ من اليوم الأول التقدم السريع لقوات تيغراي، الأمر الذي يشي باستعداد مبكر بالخطط والقوات، في حين كان الأداء الحكومي مرتبكاً، وأصيب بانهيارات في العديد من النقاط في بداية الحرب حتى اضطر إلى الاستعانة بالحليف الإريتري، وهو ما لا يدلّ على وجود استعدادات جدية للقيام بهجوم واسع النطاق.

الوضع الاقتصادي غير المهيأ: بعد بضعة أيام من انطلاق المعارك، اتخذت الحكومة الإثيوبية مجموعة إجراءات اقتصادية، تشي بمرورها بوضع غير ملائم لتحمل تكاليف اقتصادية هائلة كالتي تتطلبها الحرب، حيث طالبت الحكومة الإثيوبية مناصريها في الخارج بالتبرع لدعم الحكومة في مواجهة النفقات التي تتطلبها العمليات العسكرية، كما حاولت استقطاب الاستثمارات من خلال دعم خصخصة بعض المؤسسات والقطاعات، ومنعت القادمين إلى البلاد من الاحتفاظ بالعملة الصعبة في حال نيتهم الإقامة أكثر من 90 يوماً في البلاد.

ثانياً- الانصراف عن السيطرة على أديس أبابا كخيار استراتيجي: على عكس الجولات الماضية من القتال، تبدو الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي غير معنية بالوصول إلى أديس أبابا وإسقاط الحكومة الإثيوبية، وهو مؤشر دال على جملة تغيرات جوهرية، يتعلق أهمها برؤية تيغراي لموقعهم في إثيوبيا الحالية، مع تنامي التيار الاستقلالي، إلى جانب طرح خيار إجراء استفتاء حول مستقبل الإقليم أو مصيره في أي تسوية يتم التوصل إليها مع الحكومة الفيدرالية. فضلاً عن تحذيرات للدوائر الغربية من مغبة العمل على إسقاط نظام آبي أحمد باعتماد القوة، والتداعيات التي يمكن أن تترتب عن مثل هذا السيناريو.

ثالثاً- تعدد المحاور القتالية: في المقابل تخوض قوات دفاع تيغراي معارك موزعة على عدد من المحاور لتشتيت القوات الحكومية، ومع تقدمها الأوَّلي بدأ تركيزها على الوصول إلى منطقة غربي تيغراي وفتح ممر لوجستي من السودان، ولهذا الهدف حركت مجموعاتها المتمركزة في مناطق على الحدود السودانية، في محاولة لكسر السيطرة الحكومية على منطقة الحمرة الحساسة، في حين تحدثت تقارير أممية عن عمليات تجنيد في صفوف اللاجئين التيغرانيين في السودان.

رابعاً- بدء الاستعداد للانخراط في عملية سلمية: حيث أعلنت قيادة الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي                           في 11 سبتمبر استعدادها لبدء وقف لإطلاق النار، وقبولها بـ “عملية ذات مصداقية” يقودها الاتحاد الأفريقي، وتشمل وسطاء ومراقبين دوليين يوافق عليهما الطرفان. وهو العرض الذي لم تردّ الحكومة الإثيوبية عليه ردّاً واضحاً، لكن استمرارها في القتال يشي بأنها ترى أن هذه الجولة يجب أن تكون حاسمة في القضاء على الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي وإضعافها، ومن ثم الجلوس للتفاوض معها لتجنب الضغوط الدولية أو فرض تسوية، يكون فيها طرف تيغراي قوياً سياسياً وعسكرياً.

3. موقف المجتمع الدولي:

لا يمكن مقارنة التفاعل الدولي مع الجولة الجديدة من الصراع الإثيوبي، سواء على المستوى الإعلامي أو الرسمي، بنظيره في المرحلة الماضية ولا سيما بعد اندلاع الحرب في نوفمبر 2020، حيث تصدرت أخبار تجدد الحرب الإثيوبية شاشات كبريات المؤسسات الإعلامية، كما تتابعت البيانات خلال شهور الحرب من العواصم المختلفة بما عكس متابعة دقيقة لمجريات الأحداث في إثيوبيا.

وباستثناء إقرار الرئيس جو بايدن تجديد حالة الطوارئ المتعلقة بإثيوبيا، في محاولة لدعم جهود مبعوثه       إلى القرن الأفريقي مايك هامر الذي وصل إلى إثيوبيا مطلع سبتمبر الماضي، اتسمت ردود فعل الأطراف الدولية المعنية بالوضع في إثيوبيا بالبطء والاكتفاء ببيانات تعبر عن القلق وتدعو الطرفين إلى العودة إلى الهُدنة.

هذا الوضع يمكن إرجاعه إلى مجموعة عوامل متشابكة، من أهمها غرق القوى الكبرى القادرة على التأثير في الملف الإثيوبي في تحديات دولية كبرى كالحرب في أوكرانيا، وأزمة الطاقة التي تشغل أوروبا، والتوتر في بحر الصين الجنوبي، والانتخابات الأمريكية التي تقترب، ممَّا يدفع بالملف الإثيوبي إلى الخلف.

الاختراق الأهم في هذا السياق كان نجاح مايك هامر في إقناع الطرفين بعقد لقاء في جيبوتي بين 8-10 سبتمبر تحت رعاية الاتحاد الأفريقي، كما أصدرت الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي بياناً في 11سبتمبر وضحت فيه استعدادها للبدء في وقف لإطلاق النار، وقبولها بـ “عملية ذات مصداقية” يقودها الاتحاد الأفريقي وتشمل وسطاء ومراقبين دوليين يوافق عليهما الطرفان. وهو العرض الذي لم تعلن الحكومة الإثيوبية رداً واضحاً عليه، ما يضع علامات استفهام كبيرة، حول النتائج الفعلية لجهود مبعوث واشنطن إلى القرن الأفريقي.

ويبدو أن الفشل طوال المرحلة الماضية في إقناع أطراف الصراع بالتخلي بشكل جدي عن إصرارهم على الحسم العسكري، يُعقّد موقف القوى الفاعلة في المجتمع الدولي ويُربكها عن اتخاذ تحركات جدية، وهو ما يؤشر على تحول الحرب الإثيوبية إلى حرب أهلية أفريقية تقليدية، يغض الجميع النظر عنها حتى يُقدِم أحد طرفيْ الصراع أو كليهما على تقديم تنازلات جدية تهيئ لإطلاق المسيرة السلمية من جديد. ووفق المعطيات الحالية يبدو أن الطرف المنتظر منه اتخاذ هذه الخطوة هو الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، وهذا السيناريو قد يخضع للتغيير في حالة حدوث تطورات دراماتيكية كمجازر واسعة النطاق، أو تهديد الصراع بشكل جدي لأمن المنطقة واستقرارها عموماً

4. السيناريوهات المتوقعة:

في ظل كل ما سبق تبدو السيناريوهات المتوقعة للحالة الإثيوبية شديدة القَتامة، ويمكن ترتيبها هنا وفق أرجحية وقوعها:

1. استمرار القتال حتى إنهاك أحد الطرفين: وهو ما ينطوي على تكلفة بشرية ومادية كبيرة، إلى جانب تفاقم الكارثة الإنسانية في إقليم تيغراي. ويؤيد هذا السيناريو رغبة كلا الطرفين في الخروج بنصر حاسم، حيث يجب أن تتحسب الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي لمرحلة ما بعد انتهاء الحرب، إذ ستواجه أسئلة أبناء الإقليم حول خياراتها السياسية وتداعياتها عليهم، ولذلك فهي بحاجة إلى نصر مشرف يبرر كل هذه المآسي. وفي المقابل فإن الحكومة بحاجة إلى نصر مماثل لتثبيت سلطة رئيس الوزراء آبي أحمد ومشروعه بشكل نهائي.

2. استمرار القتال حتى إنهاك الطرفين معاً: وهو ينطوي على نفس تكاليف السيناريو السابق، ويؤدي فيه استنزاف إمكانات الطرفين المادية والبشرية دون تحقيق نصر حاسم لأحدهما، إلى تهيئة الفرصة لتدخل دولي فاعل قادر على الوصول إلى تسوية سياسية تحفظ ماء وجه جميع الأطراف.

3. نجاح الوساطة في كبح جماح التصعيد: وهو الأقل ترجيحاً بالنظر إلى أداء الوساطة السابق، ورغبة الأطراف في الحسم العسكري، وتعقد الجبهة الحكومية المؤلفة من تحالف بين رئيس الوزراء الإثيوبي وإريتريا والأمهرة، ما يصعّب اتخاذ قرار حاسم تجاه المصالحة.

وبدون رغبة جدية وقرار حاسم من طرفي الصراع الإثيوبي بشكل رئيسي في تغليب الحل السلمي، بما يجنب إثيوبيا أخطار الانزلاق إلى حالة من الحرب الأهلية الممتدة، أو توسع رقعة الحروب المحلية بما يهدد وجود الدولة، فإن الوصول إلى حلول توافقية يبدو صعب المنال.