أمتلك الجرأة العلمية لأقول كنت مخطئا عندما اقتنعت وكتبت مرة أن (للاقتصاد قلب وروح) وتبين لي لاحقا أن علم الاقتصاد هو علم مهني حيادي رغم تأثره بالعقيدة الأيديولوجية، وأعرف أن الكثير يختلفون معي وهذا حقهم وخاصة (رفاقنا الشيوعيين)، وهنا تجدر الإشارة إلى أني تخلصت أو خرجت من دائرة أسئلة كبيرة شاقة كانت تؤرقني عندما اعتبرت ان علم الاقتصاد يعتمد على الربط المباشر بين الإجراءات والعمل الماضي والنتائج الحالية، وأنه علم كئيب يعتمد على الأسئلة اكثر من الأجوبة وعلى ان دوام الحال من المحال كما يقولون، فمن يقتنع أن ما تشهده الاقتصاديات الغربية حاليا يناقض ما عبرّ عنه عالمنا الاقتصادي الأمريكي الليبرالي الكبير (ميلتون فريدمان الذي عاش بين /1912 - 2006/) وكان من اهم علماء مدرسة (شيكاغو) الليبرالية وحصل على جائزة (نوبل) سنة /1976/ من خلال مساهماته الرائعة في (تحليل مستويات الاستهلاك والمعروض النقدي وسياسات التوازن الاقتصادي)، وكتب سنة /1954/ بأن (الاقتصاد الأمريكي محصن ضد الكساد)؟
ولكن تؤكد الوقائع الحالية على أن وانين الاقتصاد الموضوعية تعمل بغضّ النظر عن الرغبات والأمنيات، وبأن ألد أعداء علم الاقتصاد هو تجاهل المسيرة التراكمية (الاستثمارية والعقلية) أي (القوة الإنتاجية والفكرية) وتجاهل الخبرات الإدارية (التصحر الإداري) فأمريكا التي كان لها السبق في (الإدارة وبراءات الاختراع) لكن بدأت بعض الدول تسبقها في الكثير من المجالات، وهذا لا يعني التقليل من القوة الامريكية وحتى أقول أن معالم سيطرة القطبية الأحادية وتكوّن نظام عالمي جديد بدأت لكنها تسير ببطء، وبالعودة إلى عالمنا (فريدمان) ودحض رؤيته حول أنه لا يوجد اقتصاد محصن ضد الكساد وهذا لا يقلل من قيمته العلمية الكبيرة ومعزرة لكثرة الأرقام التي سأستخدمها واعرف انها مملة لكنها ضرورية، لكن منذ أيام أكد تقرير صادر عن صندوق النقد الدولي يؤكد أن الاقتصاد الأمريكي ورغم تأثره بتداعيات (كورونا) لا يزال الأول في العالم وان قيمة الناتج المحلي الإجمالي له سنة /2022/ سيكون اكثر من /20/ تريليون دولار وبنسبة /24%/ من قيمة الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
ورغم هذا بدأت معالم الوهن الاقتصادي النسبي تظهر بشكل واضح على البنية الهيكلية الاقتصادية الامريكية ، حيث بدأت تداعيات الركود التضخمي تتغلغل تدريجيا في مفاصل هذا الاقتصاد والاقتصاديات الغربية التابعة له أيضا، واكدت دراسة صادرة عن مكتب (التحليل الاقتصادي الأميركي) على دخول الاقتصاد الأمريكي في حالة الركود الاقتصادي حيث ان معدل النمو سالبا وتراجع إلى (ناقص 1،5%) خلال الربعين الاولين من سنة /2022/ وارتفع معدل التضخم ولأول مرة منذ /40/ سنة إلى حدود /9%/ وزادت أسعار المحروقات حوالي /50%/ وأسعار السيارات القديمة وغيرها وأمريكا حاليا هي أكبر دولة مدينة في العالم وقد يكون السبب هو انتقالها من (الاقتصاد الإنتاجي السلعي) إلى (الاقتصاد المالي التوريقي).
وقد بدأ هذا واضحا بعد الحرب (الروسية الأوكرانية) وفشل الحصار والعقوبات الاقتصادية الغربية على الكثير من دول العالم، فهل أصبحت أمريكا وأوروبا بين صدمتي سندان (العرض الإنتاجي الكلي) المتراجع ومطرقة (الطلب المجتمعي المتزايد) على حد تعبير عالمنا الاقتصادي الكبير (جون ماينارد كينز)، وان الرأسمالية المتوحشة بدأت تحفر قبرها بيدها على حد قول العالم الكبير (كارل ماركس) أو ان (أظافر الليبرالية) وهي أعلى مراحل الرأسمالية بدأت تضعف كما قال (فلاديمير إيليتش لينين)؟!
وزادت قناعتي بأزمة الاقتصاد العالمي المتدحرجة من دولة وقارة لأخرى هي أشبه بكرة الثلج والنار كلما تدحرجت كلما كبرت، ولا سيما مع فشل المؤسستين الدوليتين الكبيرتين (البنك الدولي وصندوق النقد) عن إيجادهما لسبل علاج ناجعة، والدليل على ذلك أنه خلال الاجتماع السنوي للمؤسستين بتاريخ 23/9/2022 صرحت مديرة الصندوق السيدة (كري ستالينا غور غيفا) بأن نمو الاقتصاد العالمي سيتراجع من /6%/ سنة /2021/ إلى /3،2%/ سنة /2022/ وإلى /2،7%/ سنة /2023/، وأن معدلات التضخم العالمي سترتفع من /4،5%/ إلى حوالي /9%/ وسيؤدي هذا إلى زيادة التهميش المجتمعي وتراجع الخدمات الاجتماعية والدعم الحكومي وخاصة في الدول الفقيرة.
كما أكد ذلك السيد (ديفيد ما لباس) على أن (العالم سيواجه الموجه الخامسة من ازمة الديون والتي بدأت منذ سنة 1970، ودعا إلى تقديم المزيد من الدعم إلى الدول التي تعاني من الصعوبات المالية وخاصة انه في سنة /2022/ تجاوزت الديون العالمية /300/ تريليون دولار أي ما يقارب /15/ ضعف للإنتاج الأمريكي السنوي الإجمالي!، أما على صعيد الاقتصاد (الأنجلو ساكسوني) أي الأمريكي والبريطاني فالأزمة تتفاقم، فقد أكد السيد (جيروم بأول) رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بأن البنك الفيدرالي الأمريكي لم ينجح ولا مرة منذ الحرب العالمية الثانية في معالجة (الهبوط الناعم) حتى عندما كان معدل التضخم بحدود /5%/ والآن هو بحدود /9%/.
كما تدخل بنك (إنكلترا) وتقديمه حوافز طارئة لتهدئة الأسواق البريطانية وخاصة من ناحية ارتفاع معدلات الركود والضخم (الركود التضخمي) ويعبر هذا عن نفسه بتداعيات اقتصادية عالمية خطيرة نذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر [تراجع معدل النمو والناتج الإجمالي العالمي والافراط في الإصدار النقدي وارتفاع معدلات التضخم والاسعار - زيادة الانهيارات النقدية والمالية والائتمانية المصرفية - زيادة معدلات البطالة بسبب تراجع فعالية عمل سلاسل التوريد والتجارة الدولية - زيادة معدلات التهميش المجتمعية والدولية وخاصة على الفقراء وتأكل مدخراتهم ودخلهم وكأن التضخم هو ضريبة يدفعها الفقراء لصالح الأغنياء - ارتفاع أسعار الفائدة أي سعر اقراض الأموال وخاصة مع زيادة قيمة الديون المشكوك في تحصيلها والديون المعدومة - زيادة حالات الإفلاس للدول والشركات - تراجع الاستثمارات العالمية بسبب سيطرة حالة عدم اليقين وخاصة في أسعار الصرف أي سعرة عملة مقابل عملة أخرى- تراجع عمل البورصات الدولية وأسعار الأسهم].
وهنا نسأل بل نتساءل هل كل هذه التداعيات من جراء صدمة الحرب الروسية الأوكرانية؟!، أم أنه يوجد أسباب اقتصادية هيكلية عميقة مرتبطة بالطابع الاستغلالي للرأسمالية المتوحشة؟!، وهذا الواقع يدعو كل دول العالم للاتعاظ ونحن منهم وضرورة اختيار نموذج اقتصادي يناسبنا والاهتمام بمواردنا وفي الدرجة الأولى مواردنا البشرية وهي التي تقود كل العمليات الاقتصادية وكثير من الدول تراجعت بسبب إهمال كوادرها مما اوقعها في التصحر الإداري، ويبقى ان نقول أن الدراسات الاقتصادية اكدت على أن (الصحراء موجودة فقط في ذهن الانسان) وأن التطور والتطوير يبدأ من المزج العقلاني بين الإدارة والإرادة أي إدارة الموارد والإرادة الوطنية للوصول نحو الأفضل.