نتج عن الحرب الروسية – الأوكرانية ارتفاع في أسعار الطاقة في أوروبا إلى أعلى مستوياتها منذ عقود، على نحو أضر بشدة بالقطاع الصناعي بالقارة، لا سيما الصناعات كثيفة استهلاك الطاقة، إذ ارتفعت تكاليف الإنتاج بشدة في صناعات، مثل الحديد والصلب والألمنيوم والأسمدة وغيرها مع ارتفاع أسعار الطاقة، مما دفع بعض الشركات إلى خفض مستويات إنتاجها، أو إغلاق بعض مصانعها في أوروبا، فيما يخطط الآخر لنقل جزء من عمليات الإنتاج خارج أوروبا.
ومن المرجح أن تستمر الشركات العاملة في الصناعات كثيفة استهلاك الطاقة في مواجهة بعض التحديات مستقبلاً في ظل التوقعات باستمرار ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي، مما سيقتضي من الحكومات الأوروبية تبني برامج مالية لدعم تلك الشركات عاجلاً.
مساهمة عالية في التكلفة:
تستحوذ الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة في أوروبا على حصة كبيرة من استهلاك الغاز الطبيعي في القارة الأوروبية، وهو ما يُمكن إيضاحه على النحو التالي:
1- القيمة المضافة: تساهم صناعات التكرير، والكيماويات، والصناعات المعتمدة على المعادن مثل: الحديد والصلب، وصناعات الأسمنت، والزجاج، والورق، والأغذية والمشروبات بحوالي 5% من إجمالي القيمة المُضافة بالاقتصادات الأوروبية سنوياً، وذلك وفقاً لتقديرات "روديم جر".
وتزداد المساهمة الاقتصادية لهذه الصناعات عند حساب الأثر غير المباشر، أي من خلال تأثيرها الممتد إلى القطاعات الأخرى. بينما، توظف تلك الصناعات حوالي 4% من إجمالي العمالة في الاتحاد الأوروبي.
2- استهلاك واسع للغاز: تستحوذ القطاعات المذكورة سابقاً على 87% من إجمالي استهلاك الغاز بالقطاع الصناعي في القارة الأوروبية. وبشكل عام، استحوذ قطاع الصناعة على حوالي 26.1% من إجمالي استهلاك الطاقة في منطقة اليورو في عام 2020، وفق ليور ستات.
3- مساهمة عالية في التكاليف: تشير بعض التقديرات إلى أن الطاقة تُمثل حوالي 26% من التكاليف الخاصة بالصناعات التعدينية في أوروبا، فيما تصل النسبة إلى 19% في الصناعات الكيميائية، وهي حصة كبيرة من إجمالي تكاليف الإنتاج.
ضغوط متزامنة:
في الوقت الحاضر، تعاني الشركات الأوروبية كثيفة الاستهلاك للطاقة من العديد من الضغوط التشغيلية، والتي تعود بشكل رئيسي إلى ارتفاع أسعار مواد الطاقة، وتتزامن أيضاً مع تراجع الاستهلاك الخاص مع احتمالات دخول الاقتصاد الأوروبي في حالة ركود قريباً، وذلك كما يلي:
1- ارتفاع قياسي في أسعار الطاقة: ارتفعت أسعار الغاز في أوروبا بنسبة 170% خلال الفترة من فبراير إلى يوليو 2022؛ نتيجة لتداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية. أدى ذلك إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج بالشركات العاملة في الصناعات كثيفة استهلاك الطاقة في أوروبا، بل ووصلت للحد الذي جعل بعض الشركات تتكبد خسائر اقتصادية.
2- تراجع محتمل للطلب: يتوقع بنك مورجان ستانلي ركود الاقتصادات الأوروبية خلال الربع الرابع من العام الجاري، بينما تشير التقديرات الصادرة عن المعهد الألماني لأبحاث الاقتصاد، ودويتشه بنك إلى أن الاقتصاد الألماني، الذي يُعد أهم اقتصاد صناعي أوروبي، إلى دخوله بالفعل في حالة الركود. أما المملكة المتحدة، فترى وكالة "ستاندرد آند بورز" أنها تعاني الركود بالفعل، وأنه قد يستمر حتى العام المقبل.
ونتيجة لذلك، من المتوقع أن يتأثر الطلب النهائي على المنتجات الصناعية في أوروبا تأثراً بالركود الاقتصادي والضغوط التضخمية. وقد أوضحت نتائج مؤشر مديري المشتريات في منطقة اليورو تراجع الطلب على السلع بالقطاعات كافة، خلال شهر سبتمبر 2022؛ نتيجة لارتفاع تكاليف المعيشة. وقد سجل مؤشر مديري المشتريات في منطقة اليورو 48.2 نقطة خلال شهر سبتمبر 2022، وهو أقل مستوى خلال 20 شهراً، مما يشير إلى الانكماش لتراجع القراءة عن 50 نقطة.
خيارات محدودة:
دفعت الضغوط التي تواجهها الشركات الأوروبية العاملة في صناعات كثيفة استهلاك الطاقة، نحو خفض إنتاجها أو إغلاق بعض مصانعها، بل أن بعضها يخطط لنقل عملياته الإنتاجية خارج أوروبا، وذلك على النحو التالي:
1- خفض الإنتاج وإغلاق مصانع أوروبية: خفضت بعض شركات الطاقة الإنتاجية لبعض مصانعها في أوروبا، فيما اضطرت أخرى لإغلاق مصانعها لفترة مؤقتة، وذلك على النحو التالي:
أ- صناعة الألمنيوم: تأثرت غالبية مصانع الألمنيوم في أوروبا بارتفاع تكاليف الطاقة. على سبيل المثال، قررت شركة سبيرا الألمانية، خفض إنتاجها من الألمنيوم في بعض مصانعها في ألمانيا بنسبة 50%، مما سيؤثر سلباً على العديد من الصناعات الأخرى، ومنها: السيارات والتعبئة والتغليف، وغيرها.
ب- صناعة الصلب: تخطط بعض الشركات العاملة في صناعة الصلب إلى إغلاق مصانعها ومن بينها شركة "أرسيلور ميتال"، والتي أعلنت أنها تخطط لإغلاق بعض مصانعها في ألمانيا؛ نتيجة ارتفاع تكاليف الكهرباء. كما عطلت شركة أكرينوكس الأسبانية بعض مصانعها بشكل جزئي.
ج- صناعة الأسمدة: وفقاً لاتحاد صناعة الأسمدة في أوروبا، فإن جانباً كبيراً من مصانع الأسمدة في القارة إما توقفت عن العمل أو تباطأت طاقتها الإنتاجية بسبب ارتفاع أسعار الغاز. وقدرت شركة "سي آر يو جروب" أن قرابة 41% من من طاقة أوروبا لإنتاج الأمونيا خارج أوكرانيا ستشهد انخفاضاً، مما سيزيد من الضغوط على أسعار الغذاء عالمياً.
وفي هذا الصدد، قررت شركة يارا النرويجية (Yara) خفض معدلات إنتاجها، كما أعلنت شركة "سي إف إنداستريز" الأمريكية أنها ستوقف عمليات إنتاج الأمونيا بمصنعها بالمملكة المتحدة.
2- نقل العمليات الإنتاجية خارج أوروبا: تحاول بعض الشركات نقل عملياتها الإنتاجية خارج أوروبا، هروباً من أسعار الطاقة المرتفعة. فقد أعلنت شركة "أرسيلور ميتال" في وقت سابق أن لديها خططاً لتوسيع عملياتها الإنتاجية في الولايات المتحدة الأمريكية؛ مع ارتفاع أسعار الطاقة في أوروبا.
3- التحول إلى مصادر طاقة بديلة: تخطط بعض الشركات للتحول إلى مصادر طاقة أخرى بديلة عن الغاز الطبيعي مرتفع الثمن، حتى وإن كانت أكثر تلويثاً للبيئة، مثل الفحم والديزل، مع الأخذ في الاعتبار أن تلك البدائل قد لا يكون خياراً مناسباً لبعض الصناعات كثيفة استهلاك الطاقة؛ لضعف قدراتها على توليد الحرارة الضرورية اللازمة للتصنيع.
تداعيات كلية:
ستؤدي الأضرار التي تعانيها الصناعات كثيفة استهلاك الطاقة إلى عدد من التداعيات السلبية على مستوى الاقتصاد الكلي في أوروبا، وهي كالتالي:
1- انتقال التأثير لقطاعات أخرى: من المتوقع أن ينتقل تأثير استمرار تراجع إنتاجية الصناعات كثيفة استهلاك الطاقة للعديد من القطاعات الاقتصادية الأخرى المرتبطة بها بشكل غير مباشر، ومنها، الصناعات التحويلية التي تستخدم مخرجات هذه الصناعات، بالإضافة إلى قطاعات أخرى، مثل البناء والتشييد. جدير بالذكر أن الإنتاج الصناعي في منطقة اليورو انخفض بنسبة بلغت 2.3% في يوليو 2022، مسجلاً بذلك أكبر انخفاض منذ فترة طويلة.
2- تراجع القيمة السوقية للشركات: تواجه العديد من الشركات العاملة في هذه الصناعات تراجعاً في قيمة أسعار أسهمها بالبورصات الأوروبية. فعلى سبيل المثال، أدى الارتفاع القياسي في أسعار الغاز الطبيعي بعد إعلان روسيا الإبقاء على إغلاق خط أنابيب نورد ستريم لأجل غير مسمي، إلى تراجع ملحوظ في أسعار أسهم العديد من الشركات الأوروبية، ومنها: "تيسين كروب أيه جي" (ThyssenKrupp AG) للصلب، و"باسف إس إي" (BASF SE) العاملة في قطاع الكيماويات و"سي آي إيه. دي سانت – جوبيا" لصناعة الإسمنت.
3- ارتفاع أعداد العاطلين: أدت التكاليف المرتفعة وإغلاق بعض المصانع في أوروبا إلى التأثير سلباً على أوضاع العمالة. فعلى سبيل الذكر، ستتخلى شركة "ألمنيوم دنكيريك"، أكبر منتج للألمنيوم في فرنسا، عن جزء من عمالتها في ظل قرارها بخفض الإنتاج بأكثر من 20%.
آفاق مستقبلية:
من المتوقع أن تستمر تحديات الشركات العاملة في القطاعات كثيفة استهلاك الطاقة في أوروبا، خاصة في الأمد القصير، بالنظر إلى العوامل التالية:
1- استمرار ارتفاع أسعار الغاز: تشير توقعات أغلب المؤسسات إلى استمرار ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا خلال الفترة المقبلة. ويتوقع بنك "جولدمان ساكس" استمرار ارتفاع أسعار الغاز في الأشهر المقبلة قبل أن تتراجع إلى نصف مستوياتها الحالية تقريباً خلال الربع الأول من عام 2023.
2- صعوبة الاعتماد على موردين بدلاء: لا تمتلك أوروبا بعد البنية التحتية المطلوبة للوصول أسواق استيراد بديلة، كما أن تعزيز الاستثمارات في هذا الشأن سيستغرق سنوات. وليس من المتوقع أن تتحقق مستهدفات الدول الأوروبية، ومنها ألمانيا وإيطاليا، بشأن التخلص من اعتمادها على الغاز الروسي قبل عام 2024، أي في المدى المتوسط.
3- جهود غير كافية: اقترحت المفوضية الأوروبية فرض سقف على أرباح بعض شركات الطاقة، مستهدفة بذلك جمع قرابة 140 مليار يورو لتوزيعها على الأسر والشركات المتعثرة نتيجة الحرب الأوكرانية. ومع ذلك، تشير التقديرات إلى أن هذا لن يكون كافياً لإنقاذ الشركات من السقوط.
وقد دعت الشركات العاملة في الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة القيادة الأوروبية إلى تبني مزيد من الإجراءات الداعمة لضمان استمرار عمليات الإنتاج في أوروبا.
خلاصة القول: إن الشركات الأوروبية العاملة في الصناعات كثيفة الطاقة أصبحت أمام خيارين، إما البقاء في أوروبا ومواجهة احتمالات الإغلاق، أو اللجوء لنقل بعض عمليات الإنتاج إلى مناطق أخرى ذات الوفرة في موارد الطاقة، مما يقتضي من الحكومات الأوروبية تبني حزمة مالية عاجلة لدعم شركات كثيفة الاستهلاك للطاقة، فضلاً عن اتخاذ الإجراءات المستقبلية اللازمة لتعزيز كفاءة استخدام الطاقة بالمصانع.