• اخر تحديث : 2024-04-26 21:42
news-details
أبحاث

تستأثر قضية النفط والغاز الطبيعي في شرق البحر الأبيض المتوسط، وترسيم الحدود بين المناطق الاقتصادية للدول المعنية، باهتمام كبير من الدول الكبرى والإقليمية، وكذلك الدول ذات الصلة، ومن بينها دولتنا لبنان. ويبدو أن النفط والغاز، وبخاصة بعد الحرب الروسية - الأوكرانية، سيستمران بوصفهما موردًا أساسيًا للطاقة في المجتمعات المعاصرة إلى فترة غير قصيرة. وليس صدفة أن يؤكد أحد الأطالس المهمة بأن "كل شيء، في حياتنا اليومية، يرتبط بالنفط".

لقد أبرزت دراسات علمية أن المخزون المرجّح للنفط والغاز في شرق المتوسط لا يقل عن 1.7 مليار برميل من النفط، ونحو 122 تريليون قدم مكعبة من الغاز، وأن الشركة البريطانية "سبكتروم" Spectrum، التي كلفتها الحكومة اللبنانية بإجراء مسح جيولوجي للمياه البحرية اللبنانية، أكدّت أن مخزون المناطق البحرية اللبنانية يبلغ نحو ثلاثة أضعاف مخزون المناطق البحرية في إسرائيل.

ويقول الخبير النفطي نقولا سركيس: "نحن أمام خليج عربي جديد في المتوسط"، بينما يؤكد نيل هوجسون Neil Hodgson، الخبير الدولي في شركة "سبكتروم"، أن للبنان مكامن أكبر للغاز، ويعتبر استخراجه سهلًا؛ فضمن مساحة 3000 كلم2 من المنطقة الاقتصادية الخالصة، هناك كميات غاز تتراوح بين 30 إلى 40 تريليون قدم مكعبة. وتقدر شركة "بي جي إس" PGS النرويجية مخزون لبنان النفطي بنحو 8 مليارات برميل، بينما تقدره الشركة البريطانية "إي إي إل" EEL بنحو 18 مليار برميل، تقع في 12 بئرًا من أصل 87 بئرًا. وبحسب الخبير ربيع ياغي، وتقديرات شركة "بيسيب-فرانلاب" Beicip-Franlab، توجد في منطقة الشمال اللبناني، المحاذية لقبرص وسورية، كمية من النفط السائل تقدّر بنحو 4.5 مليارات برميل، إضافة إلى 15 تريليون متر مكعب من الغاز في المنطقة ذاتها.

ويمكن لباحث يدرس في هذا الموضوع أن يخلص إلى أمرين مهمين:

ثمة أطماع واضحة من الدول الإقليمية المحيطة بلبنان في مناطق ثرواته.

أدت السياسة الفاشلة والمرتبكة التي اتبعتها منظومة الفساد التي تحكم لبنان منذ عام 1990 إلى خسارة مساحات شاسعة من المنطقة الاقتصادية الخالصة للبلاد بحسب القوانين الدولية، ولا سيما اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار (1982)، وأحكام المحاكم الدولية ذات الصلة.

أولًا: مقدمات عامة

بحسب المادة 55 من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، فإن المنطقة الاقتصادية الخالصة هي تلك التي تقع خلف البحر الإقليمي ومتاخمة له. وأشارت المادة 57 إلى أنه لا يجوز أن تمتد المنطقة الاقتصادية الخالصة إلى أبعد من 200 ميل بحري، يجري قياسها اعتبارًا من خطوط الأساس الساحلية. وتملك الدول في هذه المنطقة الحقوق التي تتعلق باستخدام الموارد الطبيعية الحية منها وغير الحية، في قاع هذه المنطقة ومياهها العلوية وباطن أرضها.

تم التوقيع على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار في كانون الأول/ ديسمبر 1982. ودخلت حيز التنفيذ في 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1994 بعد أن صدّقت عليها 60 دولة، وانضم إليها لبنان في العام نفسه بموجب القانون رقم 295/1994. بينما انضمت قبرص إليها في عام 1988، أما إسرائيل فلم تنضم إليها.

جاء في المادة 74 من الاتفاقية: "يتم تعيين حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة بين الدول ذات السواحل المتقابلة أو المتلاصقة عن طريق الاتفاق على أساس القانون الدولي، كما أشير إليه في المادة 38 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية من أجل التوصل إلى حل منصف".

تقوم منهجية الترسيم بين جزيرة ودولة لها واجهة بحرية على قياس طول الشاطئ مع تعرجاته للدولة الساحلية من جهة، والجزيرة المقابلة لها من جهة أخرى، ومن ثمّ احتساب النسبة بين الطولين لتعيين خط المنتصف للمنطقة الاقتصادية الخالصة لكلتا الدولتين، بعد تطبيق هذه النسبة على مجموع المساحة البحرية بينهما.

وفقًا للقواعد المعتمدة في الاتفاقية، تُعتمد أول نقطة حدودية برية تصل إليها مياه البحر كنقطة أساس لرسم الحدود البحرية، ومن هذه النقطة ينطلق خط الوسط الذي يفصل بين المياه الإقليمية والمنطقتين الاقتصاديتين الخالصتين لدولتين متجاورتين.

نصت اتفاقية الهدنة بين لبنان وإسرائيل عام 1949 على أن الحدود البرية تبدأ من البحر الأبيض المتوسط في مكان يسمى رأس الناقورة Roche Haniqra، ويشار إليها بالنقطة الوسطية رقم 1 الثابتة على صخرة.

ثانيًا: أخطاء الترسيم مع قبرص

جرى التوقيع على مسودة اتفاقية لتحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة بين لبنان وقبرص في 10 و11 تشرين الأول/ أكتوبر 2006 في نيقوسيا. واعتمدت منهجية وفق طريقة خط الوسط. وقد ترأس الوفد اللبناني المهندس عبد الحفيظ القيسي، مدير عام النقل البري والبحري في وزارة الأشغال العامة والنقل.

جرى توقيع اتفاق بين لبنان وقبرص في 17 كانون الثاني/ يناير 2007، في بيروت، حول تحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة بينهما على أساس خط المنتصف. وتتألف حدوده من توالي النقاط المحددة من النقطة رقم 1 جنوبًا، إلى النقطة رقم 6 شمالًا. وقد أشار البند الثاني من المادة 5 من الاتفاقية إلى أن هذا الاتفاق يصبح ساري المفعول عند تبادل الطرفين وثائق الإبرام.

قدمت وزارة الخارجية اللبنانية دراسة مناقضة لما تم التوصل إليه، وكانت معارضة لاعتماد خط الوسط مع قبرص.

قدمت اللجنة الحكومية المشتركة، في 29 نيسان/ أبريل 2009، الموافقة على وضع تقرير مفصّل حول حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة، وقدمت تقريرًا أبقت حدود الترسيم البحري مع قبرص وفق خط الوسط طبقًا لاتفاقية عام 2007.

أودعت الحكومة اللبنانية، في 14 تموز/ يوليو 2010، لدى الأمين العام للأمم المتحدة إحداثيات نقاط الحدود البحرية الجنوبية مع إسرائيل أو الخط 23، ولوائح إحداثيات النقاط التي تربط هذه الحدود الجنوبية من النقطة 23 إلى النقطة 1 المذكورة في الاتفاقية اللبنانية - القبرصية لعام 2007. وقد حاول الجانب اللبناني إقناع الجانب القبرصي بموقفه، فلم يفلح.

ينطلق خط الاتجاه العام للشاطئ اللبناني من النقطة الحدودية البحرية رقم 17 عند مصب النهر الكبير الجنوبي، وينتهي عند النقطة رقم 18 عند التقاء البحر بالبر في نقطة رأس الناقورة، ويبلغ طوله 188.55 كلم.

ينطلق خط الاتجاه العام للشاطئ القبرصي، الذي يؤثر في ترسيم الحدود البحرية مع لبنان، شمالًا من الرأس البحري الواقع بين مدينة أيانابا Ayanappa وبلدة بروتاروس Protaros، وينتهي جنوبًا عند الرأس البحري الواقع في منطقة أكروتيري Acrotiri الخاضعة للسيادة البريطانية ضمن جزيرة قبرص، ويبلغ طول الاتجاه العام للشاطئ القبرصي نحو 103.13 كلم.

بناء عليه، تبلغ النسبة بين طول الاتجاه العام للشاطئ اللبناني من جهة، وطول الاتجاه العام للشاطئ القبرصي من جهة أخرى، نحو 1.83 للبنان مقابل 1 لقبرص. وإذا كانت المساحة البحرية المشتركة بين لبنان وقبرص تبلغ نحو 31265.341 كلم2، وإذا ما جرى اقتسام هذه المساحة المائية المشتركة نسبةً إلى طول الاتجاه العام للشاطئ لكلا البلدين، فإن:

حصة لبنان تبلغ 20217.55 كلم2.

حصة قبرص تبلغ 11047.791 كلم2.

لقد أعطت الاتفاقية اللبنانية - القبرصية لعام 2007، التي رسمت المنطقة الاقتصادية الخالصة بطريقة خط الوسط، لبنان مساحة 17573.7 كلم2 فقط؛ ما أدى إلى خسارته 2643.85 كلم2. وفقًا لمعيار التناسب بين طولي الاتجاه العام للشاطئ لكلا البلدين.

يمكن طرح أسئلة هنا من قبيل:

من هم المسؤولون عن خسارة لبنان هذه المساحة؟ لماذا لا يجري تبني اقتراح تعديل لمشروع الاتفاقية مع قبرص تحفظ للبنان حقوقه؟ لماذا لم يجرِ الأخذ بموقف وزارة الخارجية اللبنانية الذي أكد أن توزيع المساحة البحرية بين لبنان وقبرص ليس على أساس خط الوسط، بل التناسب بين طولي الاتجاه العام للشاطئ لكلا البلدين؟ أليس من الواجب إعادة المفاوضات مع الجانب القبرصي على حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة، وفي حال فشلت المفاوضات حول تعديل الاتفاق، يمكن اللجوء إلى هيئة تحكيم بموجب الملحق السابع من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار؛ فالمادة 5 من الاتفاقية مع قبرص تشير إلى إحالة الخلاف إلى التحكيم في حال لم يتوصل الطرفان إلى حل مقبول ضمن فترة معقولة من الزمن.

ننتظر من القضاء تحديد المسؤوليات!

ثالثًا: أخطاء الترسيم مع إسرائيل

بناءً على تقرير اللجنة المشتركة حول الحدود البحرية الجنوبية للمنطقة الاقتصادية الخالصة، كان لوزارة الخارجية والمغتربين اللبنانية وجهة نظر مغايرة كليًا لمنهجية الترسيم التي اعتمدتها وزارة الأشغال العامة والنقل، وفريق عمل الوزير محمد الصفدي، في ترسيم الحدود البحرية مع قبرص. وأعدّت هذه الوزارة دراسة قانونية، رفعها وزير الخارجية عدنان منصور عام 2014 إلى وزير الدفاع الوطني فايز غصن، لعرضها لاحقًا على مجلس الوزراء.

أصدر مجلس الوزراء القرار رقم 51، في 13 أيار/ مايو 2009، أكد الموافقة على التقرير الذي أعدته اللجنة حول الحدود البحرية الجنوبية للمنطقة الاقتصادية الخالصة، وهي حكومة كان يشترك في عضويتها حزب الله. وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى ثلاثة أمور:

كان الطرف الإسرائيلي قد رسم الخط 23 ما قبل 1 آذار/ مارس 2009.

صدر المرسوم رقم 6433، في 1 تشرين الأول/ أكتوبر 2011، في ظل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، تبنى أعمال اللجنة المؤلفة في نهاية عام 2008 والقرار الذي صدر عن مجلس الوزراء رقم 51 في عام 2009. وكان حزب الله يتمتع بالثقل الوازن في هذه الحكومة.

رغم أن الحكومة اللبنانية كلّفت الشركة البريطانية "يو كيه إتش أو" UKHO بدراسة مسألة الحدود البحرية التي تفصل المنطقة الاقتصادية الخالصة للبنان عن المنطقة الاقتصادية الخالصة لإسرائيل، ومع أن الشركة قدمت تقريرها مرفقًا بخريطة إلى حكومة ميقاتي قبل الاجتماع بما يؤكد على حق لبنان في الخط 29، فإنه لم يجرِ توزيع هذا التقرير على مجلس الوزراء، واستمر الخطأ باعتماد الخط الإسرائيلي 23.

مرة أخرى، يمكن إثارة مجموعة من الأسئلة المهمة:

من هو المسؤول عن إخفاء التقرير البريطاني؟ من يتحمل مسؤولية خسارة 1430 كلم2 بين الخطين 23 و29؟ وكيف يسمح الوزراء لأنفسهم أن يوافقوا على الخط 23 الذي لا ينطلق من نقطة الحدود البرية (رأس الناقورة)، بل ينطلق من مسافة 30 مترًا شمال رأس الناقورة؟ هل يعني احتلال إسرائيل لما يزيد على 3000 متر مربع في رأس الناقورة، ووضع الخط الأزرق على بعد 30 مترًا من تلك النقطة شمالًا من طرف الوزراء الذين وافقوا على الخط 23، تنازلًا عن سيادة لبنان على هذه النقطة؟ هل يمكننا أن نتهم من أخفى تقرير الشركة البريطانية عن مجلس الوزراء، وجميع الوزراء الذين وافقوا على ذلك الخط، بموجب ما تنص عليه المادة 302 من قانون العقوبات اللبناني أن "من حاول أن يسلخ عن سيادة الدولة جزءًا من الأرض اللبنانية عوقب بالاعتقال المؤبد أو بالإبعاد". كذلك، ألا يمكن تطبيق المادة 277 من القانون نفسه، التي تنص على أنه "يعاقب بالاعتقال المؤقت خمس سنوات على الأقل كل لبناني حاول بأعمال أو خطب أو كتابات أو بغير ذلك أن يقتطع جزءًا من الأرض اللبنانية ليضمه إلى دولة أجنبية أو أن يملكها حقًا أو امتيازًا خاصًا بالدولة اللبنانية". واللافت أن هذه المادة تعاقب على المحاولة فحسب، حتى لو لم تتحقق النتيجة التي أرادها الفاعل، وحتى لو لم يتخذ الإجراءات المادية التي تؤدي إلى انسلاخ الأراضي من سيادة الدولة اللبنانية.

إن رأس الناقورة جزء من أراضي الدولة اللبنانية، والأدلة على ذلك ما يلي:

ما ورد في الخريطة الملحقة بالقرار رقم 318 للجنرال غورو (31 آب/ أغسطس 1920).

ما ورد في اتفاق بوله-نيوكامب (7 آذار/ مارس 1923).

تكريس الحدود اللبنانية في محضر أُقر في عصبة الأمم في عام 1924، وأُعيد تثبيت الحدود في عام 1932 في المنظمة ذاتها أيضًا.

اتفاق حسن الجوار بين لبنان وفلسطين الموقع في عام 1926.

ما ورد في المادة 5، الفقرة الأولى من اتفاقية الهدنة بين إسرائيل ولبنان الموقعة في 23 آذار/ مارس 1949.

محضر اللجنة اللبنانية - الإسرائيلية المشتركة بتثبيت الحدود المرتكز على اتفاق بوله-نيوكامب. وقد وقع المحضر الكابيتان إسكندر غانم عن لبنان، والكابيتان فريلاندر عن إسرائيل، مع ملحق الخريطة (الملحق رقم 1).

بناء عليه، يبدو واضحًا أنه لا يمكن لإسرائيل أن تعتبر رأس الناقورة وخط بوله-نيوكامب من عهد الانتداب البريطاني، ومن ثمّ فهي "لا ترث المعاهدات الدولية الموقعة من المملكة المتحدة كسلطة انتداب"، كما صرّح أبا ايبان، مندوب إسرائيل في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. ففي موضوع الحدود اللبنانية - الإسرائيلية، هناك محضر موقع من الدولتين بعد اتفاق الهدنة.

إن موافقة المسؤولين اللبنانيين على تغيير نقطة رأس الناقورة، كمنطلق للحدود البحرية، كما هو الحال في الخط 23 - الذي ينطلق من 30 مترًا شمال رأس الناقورة - تخدم الأطماع التي صدرت عن مسؤولين إسرائيليين كثر بتعديل الحدود مع لبنان. وقد صرّح شاؤول موفاز رئيس أركان الجيش الإسرائيلي في الفترة 1988-2000 "أن اتفاقية السلام مع لبنان سترتبط بترسيم جديد للحدود مع إسرائيل".

على صعيد آخر، نصّت وثيقة الوفاق الوطني اللبناني التي أُقرّت في الطائف، في 22 تشرين الأول/ أكتوبر 1989، والتي صدّقها مجلس النواب اللبناني في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1989، في البند الثالث تحت عنوان: تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، على ضرورة "التمسك باتفاقية الهدنة الموقعة في 23 آذار 1949".

وعندما وضع رئيس مجلس النواب، نبيه بري، الإطار العملي للتفاوض حول ترسيم الحدود البحرية والبرية، في 22 أيلول/ سبتمبر 2020، فإن هذا الإطار يستند إلى "تفاهم نيسان" عام 1996، وإلى قرار مجلس الأمن رقم 1701 الذي أورد 5 مرات مصطلح الخط الأزرق، وهو خط انسحاب وليس خط حدود دولية. والخطأ الكبير الذي وقع فيه الرئيس بري هو عدم الارتكاز على اتفاقية الهدنة لعام 1949 التي تؤكد على أن خط الحدود الدولية المقر عام 1923 يتطابق مع خط الهدنة. مع العلم أن الالتزام باتفاقية الهدنة ينص عليه اتفاق الطائف.

من جهة أخرى، يقع الرئيس بري في خطأ كبير عندما يخلط بين خط الحدود الدولية والخط الأزرق. وتعني خطورة إقرار الخط 23 تراجع لبنان عن نقطة رأس الناقورة إلى 30 مترًا شمالًا. وهذا الأمر مناقض للمادة الثانية من الدستور. إن الخط 29 الذي وضعته "مصلحة الهيدروغرافيا" في الجيش اللبناني هو وحده الخط العلمي والقانوني، وهو الذي يحفظ حقوق لبنان في المنطقة الاقتصادية الخالصة.

أعطى خط 23، وخط هوف Hoff Line، والخط 1، تأثيرًا كاملًا لصخرة تخليت، مع العلم أن المادة 121 من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار أكدت أن "الجزيرة مسكونة بالبشر أو قابلة للسكن"؛ وهي صخرة تغمرها المياه أغلب أيام السنة.

إن تقاعس المسؤولين عن إرسال التعديل للمرسوم 6433 إلى الأمم المتحدة، كما اقترحت قيادة الجيش، وإن تراجع رؤساء الدولة والحكومة ومجلس النواب في مفاوضاتهم مع الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين Amos Hochstein، بالموافقة على الخط 23، والتخلي عن الخط 29، وإن مجرد قبول التفاوض حول خط "الطفافات" وإحداثياته، وهو يقع على بعد 200 متر شمال رأس الناقورة، يتناقض كله مع المصالح العليا للبنان، ويؤدي إلى:

خسارة مساحات بحرية غنية بالنفط والغاز تقدّر بعشرات المليارات من الدولارات.

حتمية انتقال إسرائيل إلى المطالبة بتعديل الحدود البرية، طالما ثمة تخلٍ عن رأس الناقورة بوصفها قاعدة للحدود البحرية.

رابعًا: قراءة أولية حول اتفاق لبنان وإسرائيل بوساطة أميركية

بعد اطلاعنا على الترجمة العربية للرسالة الأميركية إلى لبنان وإسرائيل، والمتعلقة بالحدود البحرية بين المنطقة الخالصة للبنان والمنطقة الخالصة لإسرائيل، يمكن أن نطرح الملاحظات التالية:

1. بالنسبة إلى القسم الأول:

انطلاقًا من الإحداثيات الواردة، فقد جرى اعتماد خط هوف مع تعديل طفيف، وليس الخط 23.

يبدأ الترسيم من قرب النقطة 20 في البحر، وهي مطابقة للطفاف رقم 8، والتي تبعد نحو 5318 مترًا من رأس الناقورة، ونحو 280 مترًا من خط هوف. وتُترك المسافة والمساحة من رأس الناقورة على طول خط "الطفافات" كترتيب أمني في ظل الوضع المؤقت الراهن (أي دون تعديل) حمايةً لأمن مجمع رأس الناقورة عند النفق مع المغارة البحرية التي تدر ملايين الدولارات سنويًا.

ثمة إشارة إلى أن ترسيم الحدود البرية سيحصل. مع العلم أن ترسيم الحدود قد حصل بين 5-15 كانون الأول/ ديسمبر 1949 ووقّع عليه الكابيتان إسكندر غانم عن لبنان والكابيتان فريدلاندر عن إسرائيل، كما ذكرنا، مع خريطة ملحقة. والمطلوب تثبيت الاتفاق وليس إعادة الترسيم من جديد.

منع لبنان من تقديم إحداثيات، مستقبلًا، إلى الأمم المتحدة، حول الحدود البحرية، إلا بالتفاهم مع إسرائيل.

2. بالنسبة إلى القسم الثاني:

كرّس البند (أ) من هذا القسم سيادة كاملة لإسرائيل على البلوك رقم 72، ولا إشارة خاصة أو إحداثيات تحدد ما سمي عند لبنان حقل قانا.

جرى وضع شروط على الشركة التي تشتغل في البلوك رقم 9. وهذا أمر يحد من سيادة الدولة اللبنانية على مساحة هذا البلوك.

لا تحرّك لأي شركة باتجاه العمل في ما سمي حقل قانا إلا بموافقة إسرائيلية.

ستعقد إسرائيل والشركة المشغّلة اتفاقات مالية حول حصة إسرائيل من مردود المكمن المحتمل.

يربط النص في الفقرة (و) كل أمر بجملة مفتاحية: "رهنًا بالاتفاق مع مشغل البلوك رقم 9 ..."، وفي حال لم يجرِ الاتفاق بين إسرائيل ومشغل البلوك رقم 9 (حاليًا هي شركة توتال)، ما الذي يمنع من أن تكون إسرائيل في حلٍ من أي اتفاق؟ وما الذي يمنعها من أن تحفر وتستكشف بنفسها في كامل البلوك 72، بما فيه ما سماه لبنان، من خارج الاتفاق، حقل قانا؟ وفي هذا السياق، أين أصبح شعار "كاريش مقابل قانا"؛ إذ من الواضح أن إسرائيل سيطرت تمامًا على كاريش، وضمنت سيادتها عليه، وطوقت أي احتمال لاستغلال لبنان ما سماه حقل قانا؟

3. بالنسبة إلى القسم الثالث:

إضافة إلى الجزء الموجود حول حقل قانا، الذي سُمي في الاتفاق المكمن المحتمل في البلوك الإسرائيلي رقم 72، ثمة إشارة إلى كيفية استغلال الموارد الطبيعية التي قد توجد على جانبي الخط المقترح للحدود البحرية. وفي الفقرة (ب) من هذا القسم يتعين على لبنان وإسرائيل مشاركة البيانات ذات الصلة حول الموارد الموجودة كافة في الجهة المقابلة من خط الحدود البحرية "المعروفة حاليًا". أو التي قد تم تحديدها لاحقًا مع الولايات المتحدة. وفي هذا السياق، يمكن طرح ثلاث ملاحظات:

ألا يعني هذا الأمر تطبيعًا؟

هناك تصريحات إسرائيلية تؤكد عزم إسرائيل على وضع يدها أيضًا على البلوك اللبناني رقم 9. ألا يُمكن ربط ما ورد في الاتفاق بمحاولة تمدد أطماع إسرائيل - بدعم أميركي- إلى البلوك رقم 9 بدل تمدد لبنان للاستغلال في البلوك رقم 72 الإسرائيلي، حيث يوجد جزء من حقل قانا؟

لا وضوح في المساحة الجغرافية المشار إليها في المناطق الموجودة حول خط الحدود المقترح؟

4. بالنسبة للقسم الرابع:

يربط الطرفان اللبناني والإسرائيلي حلّ أي خلاف بينهما بشأن تطبيق الاتفاق بالولايات المتحدة. ألم يكن من الملائم أيضًا ذكر مرجعية القانون الدولي والمرجعيات الدولية ذات الصلة؟

خلاصة

ستزداد أهمية طاقة النفط والغاز في شرق المتوسط بالنسبة إلى دول المنطقة وإلى السياسات الدولية. وقد سعت إسرائيل، ولا تزال تسعى، لتسيطر على معظم هذه الثروة واستغلالها. لذلك، ثمة ضرورة أن يقوم لبنان بوضع سياسات لاستغلال ثرواته لمصلحة الشعب اللبناني. لقد خسر لبنان مساحات بحرية واسعة في الاتفاقية مع قبرص، وكذلك مع إسرائيل، وثمة طموحات سوريّة بقضم ما يقارب 750 كلم2 من منطقة لبنان الاقتصادية الخالصة. وقد تسبّب في ذلك كله فساد المنظومة السياسية الحاكمة في لبنان وسوء إداراتها لملف الحدود البحرية. ومن حق الشعب اللبناني، لا بل من واجبه، أن يرفع الظلم الذي لحق به من جراء السياسات والاتفاقيات التي أشرنا إلى بعض سلبياتها في هذه الورقة. وقد أشارت عدّة اتفاقيات دولية إلى إمكانية تحرّك الشعوب لرفع أي غبن حاصل، وهذا ما سيقوم به الشعب اللبناني في المرحلة القادمة.