اختتمت، يوم 14 أكتوبر 2022، بالعاصمة الكازاخية أستانة قمة “روسيا – آسيا الوسطى” التي جمعت بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظرائه الخمس، وأكد بوتين الشراكة الاستراتيجية مع الجمهوريات السوفييتية السابقة وأبدى تفهمه “لقلقهم” من تداعيات الأزمة الأوكرانية، ونفى أن تؤثر على طبيعة ونوعية العلاقات بينهم وبين موسكو. يأتي هذا بعد عدة قرارات اتخذتها دول آسيا الوسطى أشارت لخلافات بينها وبين موسكو، ومنها قرار دولة قيرغيزستان إلغاء إجراء مناورات عسكرية تابعة لمنظمة “معاهدة الأمن الجماعي” بقيادة روسيا على أراضيها، ورفض كازاخستان وأوزبكستان الاعتراف بشرعية ضم موسكو إقليم الدونباس الأوكراني لها، تزامن مع ذلك تكثيف التعاون بين تلك الدول وبين واشنطن التي قادت مناورات عسكرية دولية في طاجيكستان مؤخراً، وكذلك تغلغل اقتصادي صيني؛ حيث تعد بكين الشريك التجاري الأول للدول الخمس؛ الأمر الذي أثار مخاوف موسكو من تراجع نفوذها بالفناء الخلفي لها إثر انشغالها بالأزمة الأوكرانية.
مؤشرات مقلقة
بعد تفكك الاتحاد السوفييتي قبل ثلاثة عقود حرصت دولة روسيا الاتحادية الوريث الشرعي له على استمرار العلاقات الاستراتيجية مع دول آسيا الوسطى التي استقلت عنه (كازاخستان، أوزبكستان، تركمانستان، قيرغيزستان، طاجيكستان)؛ حيث قامت بدور هام لإنهاء الحرب الأهلية في طاجيكستان وتوسطت لحل النزاعات الحدودية بين دول المنطقة، واستمرت كمورد للمعدات العسكرية والمواد الغذائية لها فضلاً عن الروابط الثقافية والتاريخية. ولكن مع اندلاع الحرب الأوكرانية في شهر فبراير الفائت ظهرت بعض المؤشرات المقلقة بالنسبة للنفوذ الروسي في آسيا الوسطى. وتمثلت أبرز هذه المؤشرات فيما يلي:
1- تبني موقف محايد من الأزمة الأوكرانية: اتخذت دول آسيا الوسطى موقفاً محايداً من الأزمة الأوكرانية، فلم ترحب بها أو تدنها، كما أصرت كازاخستان وأوزبكستان على عدم الاعتراف بشرعية ضم إقليم الدونباس ومقاطعتي (خيرسون، زاباروجيا) لروسيا خشية من تكرار هذا السيناريو مع إحداهما، كما سمحتا بتنظيم تظاهرات مؤيدة لأوكرانيا، وأعلنتا وقف التعامل مع البطاقات الروسية البنكية “مير” خشية من فرض عقوبات أمريكية عليهما، ونفت كازاخستان وقيرغيزستان طلب موسكو منهما إرسال قوات عسكرية لأوكرانيا أو المشاركة بالقتال بأي صورة كانت، وتعهد رئيس كازاخستان قاسم جومارت توكاييف بحماية 98 ألف مواطن روسي معظمهم من الشباب سافروا لبلاده بعد إعلان التعبئة الجزئية بروسيا في منتصف سبتمبر الماضي، وقدم مساعدات إنسانية مستمرة لكييف، كما حذرت دول المنطقة مواطنيها من القتال في أوكرانيا لصالح أي طرف.
في المقابل، رفضت دول آسيا الوسطى الخمس فرض أي عقوبات اقتصادية على روسيا رغم الضغوط الأمريكية عليها لتنفيذ ذلك، كما رفضت تعليق عضوية روسيا في مجلس “حقوق الإنسان” التابع للأمم المتحدة، وأجرى رؤساء الدول الخمس عدة اتصالات هاتفية بصفة شهرية ببوتين لبحث العلاقات الثنائية وتطورات الأزمة الأوكرانية وطرح توكاييف وساطته بين موسكو وكييف. وجدير بالذكر أن تركمانستان تتبع سياسة خارجية محايدة إلا أنها أعلنت تفهم مبررات روسيا للعملية العسكرية؛ وذلك بعد دعم بوتين توريث الحكم فيها.
2- تصاعد القضايا الخلافية بين روسيا وآسيا الوسطى: خلال قمة “روسيا – آسيا الوسطى” التي عُقدت بأستانة طلب رئيس طاجيكستان إمام علي رحمن من بوتين “احترام مصالح دول آسيا الوسطى وضخ المزيد من الاستثمارات بالمنطقة”، وتعد هذه المرة الأولى التي يوجه فيها “رحمن” انتقاداً لموسكو؛ لأنه من أقوى حلفائها العسكريين؛ حيث تستضيف بلاده أكبر قواعد روسيا العسكرية بالخارج، كما اتهمت وسائل إعلام روسية “رحمن” بتأجيج الاشتباكات الحدودية بتحريض أمريكي مع قيرغيزستان لإفشال “قمة شنجهاي” وإثارة التوتر بالفناء الخلفي لموسكو، بينما انتقد الرئيس القيرغيزي “صادر جباروف” موسكو لعدم التدخل ووقف الاعتداء الطاجيكي على بلاده، وأعلن انسحابه من المناورات العسكرية المشتركة مع روسيا.
هذا التوتر تكرر بين روسيا وكازاخستان إثر عدد من القضايا الخلافية برزت بعد الأزمة الأوكرانية؛ حيث كشفت موسكو عن وجود مختبرات بيولوجية أمريكية سرية فيها، وطالبت بالتحقيق في الأمر، كما أعلنت أستانة وقف تصدير كافة المعدات العسكرية حتى أغسطس 2023؛ لتجنب مطالبة موسكو بتصدير أي أسلحة لها. وعلقت موسكو وقف تصدير النفط الكازاخي للخارج لعدة أسابيع؛ ما كبد اقتصادها خسائر كبيرة ودفع أستانة للبحث عن مصادر بديلة للموانئ الروسية لتصدير النفط. وقد انتقدت موسكو هذه المواقف واعتبرتها “تمرداً” ضدها؛ لأن دول آسيا الوسطى لم تدعم موسكو الدعم اللازم كبيلاروسيا مثلاً.
3- تنامي المخاوف من إثارة النزعات القومية: أنكر الرئيس الروسي بوتين في خطابه السياسي صراحةً وجود دولة أو قومية أوكرانية؛ لأنها كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي، وهو ما ينطبق على دول آسيا الوسطى التي تخشى من تكرار السيناريو الأوكراني على أراضيها من خلال دعم روسيا الأقاليم الانفصالية ذات الأغلبية الروسية بها، لا سيما كازاخستان؛ لأن 18% من سكانها البالغ عددهم 19 مليون نسمة من أصول روسية ويتركزون في الإقليم الشمالي ولهم علاقات وثيقة بموسكو؛ ما يسهل عملية انفصالهم لو أرادوا ذلك، خاصةً بعد اتهام نائب رئيس مجلس الأمن الروسي ديميتري ميدفيديف لها بتنفيذ “إبادة جماعية” ضد الأقليات الروسية، وهو ذات مبرر العملية العسكرية الروسية ضد أوكرانيا.
ومنذ بداية الأزمة تصاعدت هجرة الروس لكازاخستان؛ ما سيؤدي إلى تغيير التركيبة السكانية الكازاخية لصالح موسكو، وكذلك تخشى أوزبكستان دعماً روسياً لانفصال إقليم كاراكالباكستان الشمالي والأقاليم التي يسكنها الطاجيك، هذا فضلاً عن غضب تلك الدول من ارتفاع وتيرة تجنيد الأقليات المسلمة الروسية للقتال في أوكرانيا؛ حيث تشارك “داغستان” الجمهورية الروسية الفقيرة بأكبر عدد جنود؛ ما يثير الاحتفان القومي والعرقي بين دول المنطقة.
4- تزايد التغلغل الصيني بآسيا الوسطى: قام الرئيس الصيني شي جين بينج خلال الفترة (14-16 سبتمبر الماضي) بأول جولة خارجية له منذ عامين لكازاخستان وأوزبكستان؛ ما يؤكد الأهمية الاستراتيجية للمنطقة لديه، وأعلن عن استعداده لتعزير التعاون بمجالي الأمن والدفاع مع كازاخستان، واقترح ضمها لتحالف “بريكس” وهو ما رحبت به الأخيرة، كما شهدت مشاركة بينج بقمة “منظمة شنجهاي للتعاون” ترحيباً كبيراً من دول المنطقة التي وصفت بكين بأنها “ستظل صديقة وشريكة موثوقة دائماً”، كما أبدت بكين اتخاذ تدابير مشتركة لتعزيز التعاون مع طاجيكستان بمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة والاتجار بالمخدرات، وأعلنت تقديم مساعدات أمنية وصحية لقيرغيزستان تقدر بنحو مليار يوان.
وقد شهد العام الحالي تطوراً ملحوظاً في العلاقات بين بكين ودول المنطقة بمناسبة مرور 30 عاماً عليها؛ حيث عقد في يونيو 2022 الاجتماع الثالث لوزراء خارجية دول “آسيا الوسطى-الصين” (C-C5) واعتمد البيان الختامي له “خارطة طريق لتطوير التعاون الإقليمي 2022-2025″، وهي الخارطة التي تركز على مبادرات للتكامل بين الطرفين، في المقابل رفضت كل من كازاخستان وأوزبكستان العضوتان بمجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة فتح نقاشات بالمجلس حول الانتهاكات التي تُتهم الصين بارتكابها في منطقة “شينجيانج” ضد أقلية “الإيجور” المسلمة؛ ما يؤكد حرصهما على تطوير علاقاتهما الاقتصادية مع بكين.
5- مساعي استعادة النفوذ الأمريكي في المنطقة: أدركت واشنطن خطأ انسحابها العسكري والسياسي من أفغانستان الذي نتج عنه فراغ سياسي أمني سعت موسكو وبكين لشغله؛ ولذا بدأت هذا العام تعزيز تعاونها مع دول آسيا الوسطى؛ حيث نظمت القيادة الوسطى للجيش الأمريكي يوم 10 أغسطس 2022 تدريبات “التعاون الإقليمي-22” العسكرية في طاجيكستان بمشاركة (قيرغيزستان، كازاخستان، أوزبكستان)، وهو ما اعترضت عليه موسكو وأوضحت أن دوافع واشنطن هي استكشاف مسرح عمليات عسكرية محتمل بآسيا الوسطى وحذرت دول آسيا الوسطى من مخاطر الانخراط فيها. وعقد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين اجتماعاً مع وزراء خارجية دول آسيا الوسطى الخمس وفق صيغة (C5 + 1) التي وضعتها واشنطن لتحدد آليات التعاون بينها وبين دول المنطقة؛ وذلك على هامش الدورة السابعة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك بنهاية سبتمبر 2022.
وأعلنت واشنطن تقديم 60 مليون دولار كمساعدات أمنية لطاجيكستان، وقدمت مساعدات زراعية لقيرغيزستان، وأعلنت دعمها استقرار النظام السياسي في كازاخستان وأوزبكستان عقب الاحتجاجات التي شهدتها الدولتان، وقام عدة وفود أمريكية بزيارات متكررة لدول المنطقة لتعزيز التعاون المشترك وحقوق الإنسان، كما تتفاوض واشنطن حالياً مع طاجيكستان وأوزبكستان لتبيع لهما نحو 46 طائرة عسكرية أفغانية، ورحبت بوقف إطلاق النار بين قيرغيزستان وطاجيكستان. وتهدف واشنطن من ذلك إلى تهديد نفوذ روسيا في مجالها الحيوي ومحاولة إشغالها عن الأزمة الأوكرانية، وتوفير بدائل لمصادر الطاقة الروسية؛ فمنطقة آسيا الوسطى تملك 7% من احتياطي النفط والغاز العالمي.
الأدوات الروسية
أدرك الرئيس بوتين حدوث تغير في غير صالحه بمواقف دول آسيا الوسطى؛ ما جعله يقدم عدة رسائل لطمأنتها خلال قمة “روسيا – آسيا الوسطى” الأخيرة بكازاخستان، وهو ما ظهر من خلال ما يلي:
1- تجديد الشراكة الاستراتيجية: أكد بوتين خلال قمته مع رؤساء دول آسيا الوسطى أهمية صيغة “روسيا – آسيا الوسطى” لتعزيز التعاون بين الطرفين، وجدد الشراكة الاستراتيجية بينهم ودعا للتحول إلى الاعتماد على العملات الوطنية في التبادل التجاري بينهم، وأوضح: “علاقاتنا مع الشركاء مطلوبة رغم وجود بعض التوترات بين دول المنطقة. والأزمة الأوكرانية لن تؤثر على عمق ونوعية ونطاق العلاقات مع دول المنطقة”، كما أعلن بوتين عن طلب طاجيكستان وقيرغيزستان وساطته الشخصية لحل النزاع الحدودي بينهما؛ وذلك بالتزامن مع انطلاق تدريبات عسكرية جديدة لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي في طاجيكستان بقيادة روسية، فيما استجابت كازاخستان لمطالب موسكو بطرد السفير الأوكراني من أستانة بعد دعوته عبر وسائل التواصل الاجتماعي “لقتل الروس”؛ ما يؤكد أن “بوتين” نجح في معالجة التوترات مع تلك الدول للحفاظ على نفوذ روسيا الاستراتيجي التقليدي فيها.
2- الاعتماد على الدبلوماسية الجماعية: كثفت موسكو منذ بدء الأزمة الأوكرانية العمل “بالدبلوماسية الجماعية” من خلال تفعيل عمل المنظمات الإقليمية التي تقودها مع دول آسيا الوسطى؛ حيث عقد بالعاصمة الكازاخية أستانة خلال شهر أكتوبر الحالي قمة “رابطة الدول المستقلة” التي تضم روسيا و12 من الجمهوريات السوفييتية السابقة، ودعا خلالها “توكاييف” إلى إنشاء منظمة دولية لدعم اللغة الروسية، كالمنظمة الفرانكفونية، لا سيما أن هناك 300 مليون شخص في العالم يتحدثون بها؛ ما يعزز النفوذ الروسي الثقافي بالمنطقة، بينما أكدت موسكو استمرار وبقاء الرابطة وأهميتها لتعزيز التعاون بين دولها، ثم عقدت قمة “روسيا – آسيا الوسطى” الرئاسية. وشهد العام الحالي قمة دول “بحر قزوين” الرئاسية السادسة بتركمانستان، وقمة منظمة “شنجهاي للتعاون”، وقمة منظمة “معاهدة الأمن الجماعي”. وتهدف موسكو من ذلك إلى مواجهة العزلة الأمريكية الأوروبية عليها، وتعزيز الارتباط بدول المنطقة من خلال عمل المنظمات الإقليمية.
3- المساعدات المتنوعة لمواجهة القوى المنافسة: تحرص دول آسيا الوسطى على التوازن في علاقاتها بين موسكو وبكين وواشنطن؛ ولذا تعمل موسكو على تقديم مساعدات متنوعة لدول المنطقة لمواجهة القوى المنافِسة؛ فعلى سبيل المثال، تم الإعلان عن “شراكة استراتيجية شاملة بين أوزبكستان وروسيا واستثمارات متبادلة بقيمة 4.6 مليار دولار، كما نفت كازاخستان أكثر من مرة وجود أي تهديد على روسيا من المختبرات البيولوجية بها وأكدت أنها تخضع بالكامل للإشراف الكازاخي، وأعلنت طاجيكستان عن سعيها لرفع حجم التبادل التجاري مع موسكو، ورحبت قيرغيزستان بإنشاء نظام دفاع جوي مع روسيا وتعزيز القاعدة العسكرية الروسية بها. وهذا الحرص على التوازن يتم نظراً للمصالح الاستراتيجية المتبادلة بين تلك الدول وبين روسيا.
مما سبق نرى أن روسيا ما زالت تحافظ على نفوذها في آسيا الوسطى وسيتعزز ذلك أكثر حال انتهاء الأزمة الأوكرانية بتحقيق أهداف موسكو منها. وإذا فشلت فإن المنطقة ستشهد تراجعاً في النفوذ الروسي التقليدي سياسياً وعسكرياً وتنافساً دولياً وإقليمياً للاستفادة منه؛ الأمر الذي سيواجه بإصرار روسي للحفاظ عليه؛ ما ينذر بعدم الاستقرار في آسيا الوسطى وتصاعد الأهمية الدولية للمنطقة.