• اخر تحديث : 2024-11-15 12:27
news-details
قراءات

لماذا جددت الولايات المتحدة مفاوضاتها مع حركة "طالبان"؟


بدأت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن في إجراء مباحثات جديدة مع حركة "طالبان" الأفغانية، حيث أشارت شبكة "سي إن إن" الإخبارية الأمريكية إلى أنها أرسلت نائب مدير وكالة المخابرات المركزية ديفيد كوهين، والمسؤول الكبير في وزارة الخارجية المسؤول عن ملف أفغانستان توم ويست، إلى العاصمة القطرية الدوحة لإجراء محادثات مع وفد من الحركة بقيادة رئيس استخبارات الحركة عبد الحق الواسع في 9 أكتوبر 2022، في إشارة إلى تبني الطرفين لنهج واقعي على مستوى العلاقات الثنائية، بما يعني تجاوز الطرفين للتوترات التي برزت عقب قيام الولايات المتحدة باغتيال زعيم تنظيم "القاعدة" أيمن الظواهري في 31 يوليو الماضي، في منزل قيل إنه مملوك لكبير مساعدي سراج الدين حقاني، وزير الداخلية في حكومة "طالبان".

محددات حاكمة

على الرغم من التوترات التي طغت على العلاقات الأمريكية مع حركة "طالبان" منذ سيطرة الأخيرة على السلطة في أغسطس 2021، في ضوء القيود الأمريكية التي فُرضت على الحركة اقتصادياً وسياسياً، والانتهاكات المستمرة لـ"طالبان" في ملف حقوق الإنسان، وكذا الضربة الأمريكية التي أدت إلى اغتيال أيمن الظواهري، ما اعتبرته الحركة انتهاكاً للسيادة الأفغانية، إلا أن هذه التوترات لم تمثل عائقاً أمام استمرار التنسيق بين الطرفين، خصوصاً على المستوى الأمني، وهو التنسيق الذي كان من ضمن مخرجاته إطلاق سراح المواطن الأمريكي مارك فريريتش قبل ثلاثة أسابيع بعد أن قضى عامين في الأسر وذلك بوساطة قطرية. ويمكن القول إن هناك جملة من المحددات الحاكمة لعلاقات الطرفين في مرحلة ما بعد استيلاء "طالبان" على حكم أفغانستان، وذلك على النحو التالي:

1- نهج أمريكي "واقعي": وجد المجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة، نفسه أمام سلطة أمر واقع في أفغانستان، متمثلةً في حركة "طالبان"، وبالتالي جاء النهج الأمريكي إزاء الحركة كاستمرار لسيطرة النهج "الواقعي" على السياسة الخارجية الأمريكية، وهو النهج الذي يقوم بشكل رئيسي على ضرورة عدم إعاقة المبادئ الأخلاقية التي ترفعها الولايات المتحدة في سياستها الخارجية، للمصالح الحيوية والاستراتيجية لواشنطن. ومن هنا يمكن فهم نهج الولايات المتحدة إزاء الحركة في مرحلة ما بعد سيطرتها على الحكم، ففي الوقت الذي نص فيه الاتفاق الذي وقعته الحركة مع الولايات المتحدة عام 2020 صراحةً على أن "طالبان" غير معترف بها من قِبل الولايات المتحدة "كدولة"، وعلى الرغم من وضع الولايات المتحدة (مع مجموعة الدول الصناعية السبع) لمجموعة من الشروط للاعتراف بالحركة (منها عدم تحول أفغانستان إلى ملاذ للإرهاب، واحترام الحقوق والحريات لكافة فئات المجتمع وخصوصاً المرأة)، إلا أن واشنطن استمرت في إجراء مباحثات مع الحركة حيث أجرى الطرفان مباحثات في قطر في 30 يونيو الماضي، وكذا في 29 يوليو الماضي.

2- الأهمية الجيوبوليتيكية لأفغانستان: يمثل هذا التوجه القائم على استمرار تبني خيار "التفاوض مع طالبان من أجل تحقيق مكاسب سياسية"، انعكاساً للإدراك الأمريكي للأهمية الجيوبوليتيكية لأفغانستان ومنطقة آسيا الوسطى ككل، إذ أن هذه المنطقة تمثل جسراً يربط بين الشرق والغرب، بمعنى أن الولايات المتحدة لا ترغب في أن يُخلف انسحابها من أفغانستان فراغاً استراتيجياً قد تستغله بعض القوى المناوئة وبالتحديد إيران وروسيا والصين، وهي الدول التي سارعت منذ استيلاء "طالبان" على الحكم، في الإعلان عن استعدادها لإقامة علاقات طبيعية مع الحركة، خصوصاً وأن التقارب مع "طالبان" يمثل حسب إدراك هذه الدول، إحدى الأدوات التي يُمكن أن توظف في إطار التجاذبات مع المحور الغربي بقيادة الولايات المتحدة.

3- إنجاز ملف الأسرى وتحرير الأموال الأفغانية: ركزت المباحثات الأمريكية الأخيرة التي عُقدت مع حركة "طالبان"، على ملفين رئيسيين: الأول يتمثل في تبادل الأسرى بشكل كامل مع حركة "طالبان"، فعلى الرغم من إطلاق حركة "طالبان" لسراح المواطن الأمريكي مارك فريريتش قبل ثلاثة أسابيع، إلا أن هناك أمريكياً آخر على الأقل محتجز حالياً لدى "طالبان" ويدعى إيفور شيرر. أما الملف الثاني فيتعلق بالإفراج عن بعض احتياطات أفغانستان المجمدة، وكانت إدارة الرئيس الأمريكي قد أعلنت في سبتمبر الماضي أنها أنشأت "صندوقاً أفغانياً" بقيمة 3.5 مليار دولار بأموال أفغانية مجمدة لتعزيز الاستقرار الاقتصادي، لكن العائق أمام الإفراج عن هذه الأموال هو "عدم وجود مؤسسة موثوقة لضمان أن الأموال ستفيد الشعب الأفغاني"، ما يعني أن الحركة ستسعى لتوظيف المباحثات من أجل الإفراج عن هذه الأموال، وتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب الاقتصادية في المرحلة المقبلة.

ويحظى ملف الإفراج عن الأموال الأفغانية المجمدة، والحصول على المساعدات الخارجية، بأهمية بالغة لدى حركة "طالبان"، وذلك في ضوء إدراك الحركة أنها لن تستطيع إنجاز الاستحقاقات الأساسية للبلاد ومواجهة تحدياتها الاقتصادية بمفردها، إذ أن الاقتصاد الأفغاني يعتمد بشكل رئيسي على المساعدات الخارجية بنسبة تتجاوز الـ70%، وفي الوقت الذي علقت معظم الجهات المانحة لمساعداتها لأفغانستان منذ وصول "طالبان" إلى الحكم، فإن حاجة الحركة إلى فتح قنوات اتصال وتعاون مع المجتمع الدولي تتعاظم، وهو الأمر الذي يمكن من خلاله تفسير سعي الحركة إلى تغيير الصورة الذهنية الراسخة عنها من "ميليشيا مسلحة" موضوعة على لوائج الإرهاب إلى "دولة".

4- مواجهة التهديدات الأمنية في أفغانستان: تُشير المعطيات المتاحة عن المباحثات التي عُقدت بين واشنطن و"طالبان"، إلى أن ملف مكافحة الإرهاب حظي بهامش كبير في النقاشات، بما يعكس أن الولايات المتحدة ستجعل ملف مكافحة الإرهاب وبالتحديد مواجهة تنظيم "ولاية خراسان"، قاعدة ومرتكزاً رئيسياً للتفاهمات مع "طالبان" في المرحلة المقبلة، خصوصاً مع كون التنظيم يمثل عدواً مشتركاً بالنسبة للطرفين، فالولايات المتحدة من جانبها لا ترغب في أن تتحول أفغانستان إلى ملاذ آمن بالنسبة لتنظيمات العنف والإرهاب، بما يمثل مدخلاً لاستهداف المصالح الأمريكية والجوار الأفغاني، أما "طالبان" فتُدرك الخطر الذي يمثله تنظيم "ولاية خراسان" على منظومة حكمها، خصوصاً وأن التنظيم رفع شعار إزاحة "طالبان" عن الحكم، وبات هذا الهدف على رأس أولوياته في المرحلة الراهنة، فضلاً عن أن تنامي النهج العملياتي لـ"ولاية خراسان" في أفغانستان يضع "طالبان" في حرج شديد أمام المجتمع الدولي، إذ يُظهرها في صورة العجز عن إدارة البلاد وفرض الأمن والاستقرار فيها، وهو اعتبار – إلى جانب اعتبارات أخرى – يحول دون الاعتراف الدولي بالحركة.

مسارات محتملة

في 12 أكتوبر الجاري وبعد أيام من إجراء المباحثات مع "طالبان"، أعلنت الولايات المتحدة عن أنها فرضت عقوبات جديدة على "طالبان"، بسبب "انتهاك الحركة حقوق النساء والفتيات" في أفغانستان، وهي العقوبات التي شملت فرض قيود على منح تأشيرات لأعضاء "طالبان" الحاليين والسابقين وغيرهم من الأفراد المسؤولين أو المتواطئين في قمع النساء والفتيات في أفغانستان، عبر "ممارسة سياسات تقييدية والعنف"، وفق بيان الولايات المتحدة بهذا الخصوص. وقد دعت الولايات المتحدة الدول الأخرى إلى تبني نفس النهج للتعاطي مع الانتهاكات التي تقوم بها "طالبان" في أفغانستان، الأمر الذي طرح العديد من التساؤلات حول دلالات هذا التوجه الأمريكي، خصوصاً وأنه جاء بعد ثلاثة أيام من إجراء مباحثات مع الحركة. ويمكن القول إن هذا القرار الأمريكي جاء كرد على عدم التزام حركة "طالبان" بتعهداتها التي أعلنت عنها عقب سيطرتها على مفاصل الدولة الأفغانية، إذ لم تنفذ الحركة عملياً أياً من اشتراطات المجتمع الدولي، حيث استمرت الانتهاكات الخاصة بحقوق الإنسان خصوصاً المرأة، ولا تزال الحركة على تواصل مع تنظيم "القاعدة" عبر شبكة حقاني، وفي هذا السياق يبدو أننا أمام مسارين رئيسيين فيما يتعلق بالعلاقات الأمريكية مع "طالبان" في المرحلة المقبلة هما:

1- الاعتراف المنقوص: تدفع العقوبات الأمريكية الجديدة على حركة "طالبان"، وكذا استمرار الحركة في نهجها القائم على قمع بعض الفئات داخل المجتمع الأفغاني واستمرار علاقاتها بتنظيم "القاعدة"، باتجاه استمرار بقاء العلاقات بين الطرفين في إطار "الاعتراف المنقوص"، بمعنى أن المباحثات والتنسيق بين الجانبين سيستمر خصوصاً على المستوى الأمني، لكن هذه المباحثات لن تتجاوز حدود التنسيق المشترك من أجل تحقيق بعض المكاسب الآنية، التي لا تصل إلى مستوى الاعتراف الأمريكي بالحركة كدولة وسلطة شرعية.

وقد عزز من هذه الفرضية تحذير وزارة الخارجية في حكومة "طالبان" من أن فرض الولايات المتحدة قيوداً جديدة على إصدار التأشيرات لأعضاء في الحركة سيؤثر "سلباً" على العلاقات الأمريكية مع الحكومة الأفغانية، ويبدو أن الولايات المتحدة سوف تستمر في تبني هذا النهج، حتى لا تقع تحت طائلة الانتقادات الدولية، التي قد تتهم الولايات المتحدة بالتغاضي عن انتهاكات حركة "طالبان"، بغية تحقيق بعض المكاسب الاستراتيجية.

2- الاعتراف الكامل بـ"طالبان": وهو خيار أقل ترجيحاً، لكنه قد يظل مطروحاً، خصوصاً حال توجه الحركة نحو التراجع خطوة إلى الوراء وتغيير خطابها وممارساتها السياسية، فضلاً عن أن العامل الأهم الذي قد يزيد من احتمالية تحقق هذا السيناريو يتمثل في تخوف الولايات المتحدة من إقدام بعض الدول وخصوصاً روسيا والصين وإيران، نحو التطبيع الكامل للعلاقات مع "طالبان"، وزيادة مساحة التعاون مع الحركة، بما يُحجِّم من الحضور الاستراتيجي للولايات المتحدة، فضلاً عن أن قطر والتي تمثل الراعي الرئيسي للتنسيق الأمريكي مع "طالبان"، تُنادي دائماً بضرورة "احتواء الحركة، وعدم إدارة المجتمع الدولي ظهره لحكمها".

وفي الختام، يمكن القول إن المباحثات الأمريكية الأخيرة مع حركة "طالبان" لم تتجاوز حدود التنسيق حول بعض الأولويات الخاصة بالمرحلة الراهنة، لكن هذه المباحثات لا تُعبر بشكل كبير عن تغير في الموقف الأمريكي الرسمي من الحركة، خصوصاً وأن نهج الحركة في العديد من الملفات الخلافية لم يتجاوز حدود "التغيير الشكلي".