يتساءل معظم المحللين هل يمكن أن تنشأ حرب بين الصين وأمريكا بسبب تايوان؟ وهل بلغ الحبّ الأمريكي للشعب التايواني إلى درجة الدخول في حرب كبيرة؟!، أعتقد ان تايوان ليست اكثر من قصة (مسمار جحا) وجوهرها أن جحا عرض داره للبيع، فأتاه رجل ميسور اشتراها وأعطى لجحا بعض النقود، ولكن جحا اشترط على المالك الجديد شرطًا غريب وهو أن يترك مسمارًا في الحائط كملكية له، فوافق الرجل دون أن يفكر فوجود المسمار لن يضايقه في شيء، ولما جاء اليوم التالي ذهب جحا إلى الدار وطلب من المالك أن يدخل ليطمئن على مسماره، تعجب المالك من الطلب، ولكنه رحب بجحا وقدم له الطعام والشراب، فانصرف جحا وعاد في اليوم الذي بعده؛ بحجة الاطمئنان على نفس المسمار، ولما دخل جلس وشرب وأكل، وخلع جبته وتهيأ للنوم، فسأله المالك الجديد، ماذا ستفعل يا جحا! فرد عليه قائلًا: سأنام بجوار مسماري، وهكذا ظل جحا على هذا الحال شهراً، يذهب للمنزل؛ بحجة الاطمئنان على مسماره، وكان يختار دائمًا أوقات تناول وجبات الطعام، فلما طال به الحال هكذا، ضاق الرجل ذرعًا وترك له الدار بما فيها ورحل، فهل تتحول تايوان كمسمار جحا لأمريكا ضد الصين؟
ولكن في الحقيقة أن الصراع الحالي بين (الصين وامريكا) هو صراع اقتصادي بشكل عام وعلى جزيرة تايوان بشكل خاص وعلى شركة تصنيع الرقائق الالكترونية التايوانية بشكل أخص، وسأركز على الجوانب الاقتصادية رغم أهمية الابعاد السياسية للصراع بين العملاقين الكبيرين (الصين وحلفائها) و(أمريكا وتابعيها)، وأبدأ بالأسئلة لأنها في أغلب الأوقات ذات أهمية أكثر من الأجوبة، وفي مقدمة التساؤلات لماذا هذا الاهتمام الأمريكي في تايوان بما يشبه الاهتمام في أوكرانيا (سلة الغذاء الأوروبي وحتى العالمي)؟!
فمهما دورنا الزوايا وكوجهة نظر خاصة أجد أن الصراع على الموارد هو المحرك الأساسي لكل الصراعات مهما كانت الادعاءات والشعارات المرفوعة من الدول الغربية، وكمثال على ذلك ما نراه الآن من توتر كبير بين أمريكا والصين حول تايوان الجزيرة الصغيرة الواقعة في شرق أسيا في المحيط الهادي ولا تتجاوز المسافة بينها وبين الصين 140 كم وتعتبرها الصين جزءا لا يتجزأ من (الصين الموحدة) وستعود قريبا إلى وطنها الأصلي كما عادت (ماكاو وهونغ كونغ) وحاليا تعتبر بمثابة الخاصرة الضعيفة لها من كثرة التدخلات الغربية بأمورها والعمل لحصار الصين، وتبلغ مساحتها 36193كيلومتر مربع وتشكل نسبة /0،31%/ من عدد سكان العالم وهي في المرتبة /57/ عالميا من حيث عدد سكانها البالغ عددهم حوالي /24/ مليون نسمة، وبكثافة سكانية قدرها /673/ نسمة /كم2، ولكنها صنفت سنة /2022/ بأنها من اغنى /14/ دولة في العالم ورقم /7/ في قارة أسيا.
وقد بلغت قيمة ناتجها الإجمالي حوالي /680/ مليار دولار، وتؤكد الدراسات الاقتصادية أن مصدر النمو الأساسي في تايوان هي شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات المحدودة، ويكمن وراء تأسيس هذه الشركة قصة إدارية تستحق الدراسة والاستفادة منها، وتتلخص في أن تايوان كانت جزيرة نائية في ثمانينات القرن الماضي، فوجدت أنه لا يمكن نقل اقتصادها من الاقتصاد الزراعي إلى الصناعي إلا بالاعتماد على كوادرها في الداخل والخارج وتشجعهم للابتكا، واستطاعت الحكومة التايوانية بإقناع مواطنها (موريس تشانج) بالعودة من أمريكا وأسس شركة (تايوان لصناعة اشباه المواصلات) سنة /1987/ وهي شركة مشتركة مع الحكومة التايوانية وشركة( فيليبس) الهولندية عملاق الصناعة الالكترونية العالمية في ذاك الوقت وبرأسمال قدره /220/ مليون دولار لإنتاج (الإلكترونيات والإنترنت والروبوتات والذكاء الصناعي والامن السيبراني والأجهزة الفضائية ومتطلبات تصنيع الطائرات، ووضع نظاما إداريا يرتكز على ترسيخ ثقافة والانضباط العمل وتعظيم سلاسل (القيم المضافة) وربط الاجر مع الإنتاجية، وبدأت تستفيد من الخبرات التراكمية وطبقت فعليا نموذج (سوات ( SWATأي معالجة جوانب ضعفها وتفعيل نقاط قوتها واستغلال الفرض والامكانيات المتاحة لديها الضعف وتفعيل نقاط القوة وتدرس نقاط ضعفها فتعالجها وقوتها فتفعلها وتستغل كل الطاقات والامكانيات والفرص المتاحة لديها.
كما تطورت منذ ذاك بمعدل نمو سنوي حوالي /17%/ ويقدر رأسمالها /550000/ مليون دولار أي حوالي /2500/ ضعف عند تأسيسها سنة /1987 أي منذ/35/ سنة ولها استثمارات في وادي السيليكون الإلكتروني الأمريكي وسجلت في بورصة نيويورك سنة 1997؟!، وترافق هذا مع التوسع في الاستثمار في الصناعات ذات الكثافة الرأسمالية الكبيرة، وطورت أبحاثها الاقتصادية من قبل اقتصاديين متخصصين درسوا الأسواق العالمية وخاصة مستقبل هذه الصناعة ووجدوا ان هذه الرقائق سيزداد الطلب العالمي عليها مستقبلا وحللوا كل من قوى العرض والطلب ووضعوا سياسة ( اقتصادية إدارية) معتمدة على أسس تسويقية ومنها [كسب ثقة المتعاملين وإرضاء الزبائن وان تربح زيونا خير من ان تربح صفقة وبأسعار متوازنة وارباح متواضعة بالنسبة للتكلفة وسياسة استثمارية واضحة ...الخ].
ونتيجة هذه الإجراءات نوعت صادراتها واسواقها وسيطرت على /65%/ من السوق العالمية للرقائق الالكترونية، مما أمن لها احتياطيات نقدية كبيرة استخدمتها في التوسع الافقي والتكامل العمودي، وركزت على التوريد لدول كبيرة مثل (الصين وامريكا واليابان وإلى كوريا الجنوبية بعد ان تفوقت على شركتها سامسونغ) وغيرها ولأهم الشركات العالمية مثل (أبل وكوا ليكوم ونفيديا) وغيرها، وقد بلغت قدرة الشركة سنة /2020/ حوالي /13/ مليون رقاقة سنوية واستطاعت ان تسبق شركة (إنتل) الامريكية بجيل واحد على الآفل والشركات الصينية المنافسة بجيلين واكثر؟، وفي سنة /2022/خططت لتصنيع رقائق /7 نانومتر وهي أسرع بمقدار /70%/ من أحدث الرقائق العالمية الحالية، ووصل عدد موظفي الشركة إلى أكثر من /50/ ألف موظف وتوسعت فروعها لتبلغ /18/ منشأة على الأرض التايوانية وستنفق حوالي /100/ مليار دولار خلال السنوات الثلاث القادمة، ومع التنافس العالمي بين الصين وامريكا ومحاولة كل منهما تسجيل تفوق على كل دول العالم، وخاصة ان أمريكا تعتبر مؤشر التنافسية من مرتكزات أمنها القومي، وانطلاقا من هذا بدأت مراكز الأبحاث الامريكية تبحث عن حل لمنع الصين من الاستفادة من هذه الشركة و تمّ إعداد ورقة بحثية نشرنها الكلية الحربية للجيش الأمريكي سنة /2021/ معدة من قبل اثنين من كبار الاقتصاديين الأمريكيين تدعو لتدمير صناعة أشباه المواصلات التايوانية حتى لا تستثمرها الصين وتطور من صناعتها التكنولوجية بعد عودة تايوان إلى الصين.
ودعت الدراسة إلى ترحيل التايوانيين ذوي المهارات إلى أمريكا، وخاصة ان هذه الشركة تعتبر المورد الأساسي لقطع تصنيع طائرة (الشبح الامريكية) من الجيل الخامس ( F35 ) والأسلحة العسكرية الفائقة الدقة، ومع زيادة حاجة أمريكا لاستيراد الرقائق الالكترونية حيث تؤمن فقط نسبة /47%/ من احتياجاتها وتستورد /53%/ من الخارج وخاصة من تايوان الصينية، وهذا سيوقع أمريكا في حالة تبعية للصين، وكمحاولة لتطوير هذه الصناعة في أمريكا فقد تم إعداد تقرير اقتصادي للبيت الأبيض مكون من /250/ صفحة يتضمن الآلية لسيطرة أمريكا على سوق الرقائق ، كما ترافق هذا مع إعلان وزيرة التجارة الامريكية السيدة (جينا ريموندو) بتنفيذ قانون (تشيبس والعلوم) سنة /2022/ وهو لتشجيع بناء معامل لتصنيع الرقائق الالكترونية لمعالجة النقص أو الفجوة التسويقية بين (الطلب والعرض) ووضعت [خطط لجزب الاستثمارات الخارجية ودعم الشركات المحلية لزيادة قدرتها التنافسية والتركيز على تمويل قانون (CHIPS for America ) لتحقيق الريادة الامريكية في هذا القطاع ودعم النظام البيئي الأمريكي المحلي والشركات الصغيرة والمتوسطة والاعمال الصغيرة وسلاسل التوريد المصنعة للرقائق لتعظيم سلسلة القيم المضافة لتعظيم لهذه الصناعة والاهتمام بالمواهب والكوادر الإدارية والتدريب المهني وتقديم الاغراءات المالية لتطوير هذه الصناعة وتحقق المرونة مع الحلفاء والشركاء وزيادة مستوى التعاون وخاصة مع كوريا الجنوبية وفرض قيود حمائية لحماية التميز التكنولوجي الأمريكي]، وبنفس الوقت قامت الصين واكد رئيسها شي جين بينغ بتخصيص /1،4/ تريليون دولار وعلى مدار /6/ سنوات لتحقيق الريادة في الرقائق الالكترونية، فهل يكون الصراع على هذه الشركة في تايوان من اهم عوامل تأجيج الصراع بين العملاقين الكبيرين مما يؤكد أن المصالح فوق كل الاعتبارات وأن من سينتصر في سنة 2023 سيستطيع أن يفرض سيطرته العالمية نظرا لأهمية هذه الصناعة في تحقيق السبق التكنولوجي، وهذا يؤكد انه مهما دورنا الزوايا فإن الاقتصاد هو كل شيء لأنه لغة المصالح.