مثّلت استقالة رئيسة الوزراء البريطانية ليز تراس عقب جلسة عاصفة في مجلس العموم البريطاني في 20 أكتوبر الجاري (2022)، بعد أن وصفت نفسها بـ"المقاتلة لا المستسلمة"، خطوة متوقعة في أعقاب الفوضى التي أثارتها خطتها الاقتصادية. وتعد رئاسة تراس للحكومة البريطانية أقصر حكومة في تاريخ بريطانيا، حيث استمرت لمدة 45 يوماً من توليها رئاستها في 6 سبتمبر الفائت في أعقاب استقالة رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون. وقد أرجعت تراس استقالتها إلى عدم قدرتها على الوفاء بالوعود التي قطعتها عند ترشحها لرئاسة حزب المحافظين في ظل الوضع المحلي والدولي الراهن، ولكنها ستبقي في رئاسة الحكومة حتى اختيار بديل لها لرئاسة الحزب بحلول 28 أكتوبر الجاري.
ومنذ عودة حزب المحافظين إلى الحكومة في 2010، بعد ثلاثة عشر عاماً من سيطرة حزب العمال، استقال ثلاثة رؤساء حكومة محافظين قبل استقالة تراس الأخيرة، وهم ديفيد كاميرون، وتيريزا ماي وبوريس جونسون، لأسباب متعلقة بخطة الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، وأزمات اقتصادية وفضائح داخلية، ما يكشف عن أزمة يواجهها الحزب داخلياً، سيكون لها كبير التأثير على مستقبله السياسي في ظل أوضاع داخلية متأزمة، وتحولات دولية مؤثرة على الخطط الاقتصادية للحكومات البريطانية القادمة.
دوافع عديدة
ورثت تراس اقتصاداً مأزوماً، وأزمة تكلفة معيشية من سلفها. فقد أشارت في خطاب استقالتها إلى أنها تولت رئاسة الحكومة البريطانية في وقت يشهد فيه الاقتصاد البريطاني حالة من عدم الاستقرار، حيث كانت الأسر والشركات قلقة بشأن كيفية سداد فواتيرها، في أعقاب الحرب الروسية-الأوكرانية المستمرة منذ 24 فبراير الماضي، والتي تهدد الأمن الأوروبي لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ناهيك عن تأثيراتها المتعددة على الاقتصادين الأوروبي والعالمي، والتي لا تزال مستمرة، وتراجع معدلات النمو الاقتصادي بالدول الأوروبية ومنها بريطانيا، بينما لا تزال تتعافى من آثار جائحة كوفيد-19.
ولذلك، حاولت تراس مع وزير المالية السابق كواسي كوارتينج، قبل إقالته، قلب السياسة المالية البريطانية رأساً على عقب من خلال خطة كشف عنها في شهر سبتمبر الفائت لإنقاذ الاقتصاد البريطاني من الركود تتضمن أكبر تخفيضات ضريبة في المملكة المتحدة منذ 50عاماً، وتقدر بنحو 45 مليار جنيه استرليني على مدى خمس سنوات، والتراجع عن زيادات ضرائب الشركات، والتي أدت إلى تدهور الأسواق المالية البريطانية لأسابيع طويلة. وعلاوة على ذلك، تفاقمت أزمة تكلفة المعيشة.
وقد دفعت خطة تراس المستثمرين الأجانب للفرار من الاقتصاد البريطاني، مما أدى لانخفاض قيمة عملة البلاد إلى مستوى قياسي مقابل الدولار، وخسائر اقتصادية لم تشهدها لندن منذ عقود، وكذلك فوضى في سوق السندات المالية، في رد عنيف من المستثمرين في السندات على خطة تراس الاقتصادية، وارتفاع تكاليف الاقتراض، وسحب المقرضين عروض الرهن العقاري، واضطرار بنك إنجلترا في نهاية المطاف للتدخل لحماية صناديق المعاشات التقاعدية، حيث اشترى ما قيمته ٦٥ مليار جنيه إسترليني من السندات لاستعادة أوضاع السوق المنظمة.
وقد كانت أحد أسباب إخفاق خطة تراس الاقتصادية فكرة أن التخفيضات الضريبية سيتم تمويلها من خلال مزيد من الاقتراض. وتتحمل المملكة المتحدة بالفعل عبء دين عام كبير، فبدون ضرائب جديدة، حذر مكتب مسئولية الميزانية البريطاني من أن الدين العام سيتضخم إلى 320٪ من الناتج المحلي الإجمالي لبريطانيا خلال 50 عاماً، مرتفعاً من 96٪، وبما يعادل 2.4 تريليون جنيه إسترليني.
وذهبت تحليلات إلى أن ضخ المزيد من الأموال في اقتصاد يعاني بالفعل من أزمة تضخم أمر غير منطقي، ويتعارض مع جهود بنك إنجلترا، الذي رفع أسعار الفائدة سبع مرات منذ ديسمبر الماضي للمساعدة في خفض معدل التضخم الذي وصل إلى حوالي 10٪. وعلى الرغم من أن انعكاس سياسة الحكومة يبدو أنه قد أدى إلى انتعاش الأسواق، فإنه من غير الواضح وفق بعض التحليلات ما سيكون تأثيرها الدائم، حيث هناك عديد من العوامل مثل التضخم العالمي والحرب الروسية – الأوكرانية التي تضغط على الاقتصاد العالمي والبريطاني.
وقد أثارت خطة تراس معارضة متزايدة بين البريطانيين الذين أعربوا عن رغبتهم في إلغاء سياسات تراس الاقتصادية. فقد أظهرت نتائج استطلاع للرأي أجراه موقع يوجوف، في 17 أكتوبر الجاري، موافقة غالبية البريطانيين (54٪) على قرار إلغاء الحكومة تقريباً جميع التخفيضات الضريبية التي تم الإعلان عنها في ميزانية تراس الصغيرة خلال الشهر الماضي. وقد أظهر استطلاع أجرته يوجوف – أيضاً - في أعقاب عزل تراس لكواسي كوارتينج، والتخلي عن المكونات الرئيسية لاستراتيجيتها الاقتصادية، أن أربعة من كل خمسة بريطانيين بالغين (80٪) ينظرون إلى تراس بشكل سلبي، في حين أن 10٪ فقط لديهم وجهة نظر إيجابية عنها.
وتأتي استقالة تراس بعد حالة من التخبط داخل حكومتها، ومعارضة بعض وزرائها لسياساتها، حيث أقالت وزير المالية كواسي كوارتينج المقرب منها على خلفية خطة خفض الضرائب، واستبدلته بجيريمي هانت الذي سارع لإلغاء الخطة بشكل كامل، حيث قال إن الحكومة ستعكس غالبية إجراءات الموازنة المصغرة التي تم الإعلان عنها في 23 سبتمبر الماضي بسبب أزمة في سوق السندات والتي هوت بقيمة الجنية الاسترليني. وكذلك استقال وزيرة الداخلية البريطانية سويلا برافرمان من حكومة تراس، بسبب خرق أمني يتعلق بإرسال برافرمان وثيقة حكومية سرية إلى نائبة في البرلمان عبر بريدها الإلكتروني الشخصي. ولكن برافرمان أشارت في رسالة استقالتها إلى أن الحكومة لم تف بوعود رئيسية مثل مكافحة الهجرة غير القانونية.
وقد اعتذرت تراس بعد مرور 6 أسابيع على توليها رئاسة الحكومة في حوار مع شبكة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في 18 أكتوبر الجاري عن الأخطاء التي ارتكبت، والاضطرابات الاقتصادية التي سببتها خطتها لتخفيضات ضريبية ضخمة. واعترفت بأنها ذهبت إلى أبعد مما ينبغي بأسرع من اللازم في الإصلاحات التي أدت إلى اضطراب اقتصادي.
وقبل أن تتولى تراس منصبها كانت هناك شكوك متصاعدة داخل الأوساط السياسية البريطانية حول قدرتها على التعامل مع التحديدات والأزمات البريطانية الداخلية، والتي تأكدت بعد شهر ونصف من توليها رئاسة الحكومة البريطانية في أعقاب استقالة بوريس جونسون من منصب رئيس الوزراء وزعيم حزب المحافظين وسط أزماته الخاصة، وليس عن طريق انتخابات عامة، وهو ما يعني أنها لم تحصل على تفويض من الناخبين البريطانيين كقائدة منتخبة لهم.
مأزق المحافظين
يدعو حزب العمال الذي يتقدم في استطلاعات الرأي بفارق أكثر من 30 نقطة على حزب المحافظين، وهو فارق كبير لم يشهده الحزب منذ عهد رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير في تسعينيات القرن المنصرم، ولكون فوزه بات مضموناً، إلى إجراء انتخابات عامة مبكرة تحت دعوة أن منافسه- حزب المحافظين- يقود البلاد نحو مآزق سياسية واقتصادية كبيرة على حد قول زعيم حزب العمال، كير ستارمر.
وقد دعت ثلاثة أحزاب تأتي في مرتبة تالية لحزبي العمال والمحافظين في البرلمان، وهي أحزاب الخضر والليبراليين الديمقراطيين والقومي الإسكتلندي، إلى الانتخابات المبكرة أيضاً، ولكن عددها مجتمعة لا يفوق أغلبية المحافظين بما يسمح لهم بشكيل تكتل لقيادة البلاد نحو انتخابات مبكرة، حيث يمتلك حزب المحافظين أكثرية برلمانية في الانتخابات التي أجريت في ديسمبر 2019 عبر 365 نائباً، مقابل 203 نائباً لحزب العمال، و48 نائباً للحزب القومي الإسكتلندي، و11 نائباً للديمقراطيين الليبراليين، ونائب واحد لحزب الخضر.
ويرفض حزب المحافظين، الذي يملك أكثرية مطلقة في البرلمان، دعوات إجراء انتخابات عامة مبكرة تحت دعوى أنها ستزيد من الفوضى في البلاد، وكذلك التخوف من فقدان مقاعده في البرلمان بعد تراجع شعبيته بين أوساط الناخبين البريطانيين لصالح منافسة (حزب العمال)، حيث أن تغيير رئاسة الحكومة المحافظة أكثر من مرة في وقت قصير يفقد ثقة الناخبين البريطانيين في قدرة حزب المحافظين على قيادة الدولة.
وتتعدد الترشيحات داخل الحزب حول الشخصية التي ستتولى رئاسة الحزب للمرة الخامسة بعد استقالة تراس. ومن أبرز خلفائها المحتملين شخصيات رئيسية من حكومتها، ومنافسين سابقين على قيادة الحزب، وهم وزير الخزانة الأسبق ريشي سوناك الذي نافس تراس على رئاسة الحزب، ووزيرة الدفاع السابقة بيني موردنت، ووزير الخزانة جيريمي هانت، ووزير الدفاع بن والاس. وهناك عديد من التقارير تتحدث عن احتمالات عودة رئيس الوزراء السابق، بوريس جونسون، لرئاسة الحكومة القامة.
ومع تعدد الأسماء المرشحة لتولي رئاسة حزب المحافظين، فإن "لجنة 1922" في الحزب تبذل جهداً لتكون هناك جولة واحدة لانتخاب الزعيم الجديد بين مرشحين فقط؛ للانتهاء من اختياره قبل البيان المالي في 31 أكتوبر الجاري وفقاً لرئيسها، السير جراهام برادي، في مسعى لاختصار الوقت اللازم لاستبدال تراس للحفاظ على شبيعة الحزب بين الناخبين البريطانيين.
خلاصة القول، تتحمل تراس جزءاً من إخفاقاتها خلال مدة قصيرة من رئاسة الحكومة البريطانية، حيث شرعت في تغيير الوضع الراهن ووضع بريطانيا على طريق نمو اقتصادي أسرع من خلال التخفيضات الضريبية وإلغاء القيود. وبدلاً من ذلك، أحدثت خطتها الاقتصادية اضطراباً في الأسواق المالية، مما دفع حكومتها إلى التراجع عن جميع التخفيضات الضريبية المخطط لها تقريباً. ويتحمل أيضاً حزبها (حزب المحافظين) نوعاً من المسئولية في إخفاق حكومة تراس، حيث استقالت أربع حكومات منذ الانتخابات الأخيرة التي حقق فيها الأغلبية، لفشله في الاندماج في ظل رؤية موحدة للبلاد بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ويواجه الحزب مشكلة خطيرة مع الانقسام الداخلي المتزايد داخله للاتفاق على سياسات يمكن التفاف الجميع حولها.
ومن دون شك، فإن تغيير رئيسين للحكومة البريطانية في أقل من شهرين يثير التساؤلات حول الديمقراطية البريطانية، حيث كتبت صحيفة فاينانشيال تايمز في افتتاحية لها في 20 أكتوبر الجاري أنه بحلول نهاية أكتوبر الجاري، سيكون للمملكة المتحدة ثلاثة رؤساء وزراء في ثمانية أسابيع، اثنان منهم وصلوا إلى السلطة دون انتخابات عامة، وأن احتمال اختيار رئيس وزراء محافظ آخر بدون انتخابات عامة يتجاهل ليس فقط العجز الديمقراطي المتزايد في المملكة المتحدة ولكن أيضاً عدم الكفاءة التي أظهرتها "حكوماتها البائسة".