بعد مرور نحو 8 أشهر على الحرب الروسية–الأوكرانية، برزت تركيا (العضو في حلف الناتو) كأكبر لاعب متأرجح في هذه الحرب؛ حيث ترتبط بعلاقات وثيقة مع كل من روسيا وأوكرانيا في ظل السعي التركي إلى موازنة العلاقات مع كلا الطرفين، لا سيما مشاركتها في الحرب من خلال جهات متعددة، بدايةً من التعاون الأمني مع أوكرانيا، والعمل وسيطاً دبلوماسياً بين موسكو وكييف، وصولاً إلى التعاون في مجال الطاقة مع روسيا. وقد قدَّم هذا النهج فرصاً كبيرة لأنقرة لحصد أكبر المكاسب الممكنة من الحرب، بل يقدم درساً مهماً للغرب حول كيفية التعامل مع روسيا بشكل أكثر فاعليةً.
التحركات التركية
تُحاول تركيا الاحتفاظ بأكبر قدر من التوازن في علاقاتها بين الخصمَين: روسيا وأوكرانيا، دون أن تُخِل بثقة أي من الطرفين تجاهها، ودون أن تتدهور علاقاتهما الطبيعية معها؛ وذلك بفضل التحرُّكات الذكية التي انتهجتها أنقرة منذ بداية الأزمة، والتي يمكن تناولها على النحو التالي:
1– الاعتماد على الحياد الإيجابي: منذ الأيام الأولى للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، حرصت أنقرة على العمل بمنأى عن حالة الاستقطاب السياسي الذي حرَّضت عليه الحرب، بل تمكَّنت من الحفاظ على علاقتها بكل من موسكو وكييف دون تعريض حساباتها الجيوستراتيجية في المنطقة للخطر؛ وذلك بفضل العلاقات الاستراتيجية التي تتمتع بها مع كلا البلدَين؛ فبينما انتقدت أنقرة العملية العسكرية في شرق أوكرانيا، رفضت في الوقت ذاته العقوبات الغربية التي فُرضت على موسكو، لكنها أيضاً عملت على تزويد كييف بكميات كبيرة من الأسلحة، وخصوصاً الطائرات بدون طيار، التي ساعدت القوات الأوكرانية على مهاجمة المواقع الروسية.
وبالرغم من أن أنقرة تُعَد عضواً حيوياً في الكتلة الأمنية للناتو، فإنها تعمل بشكل مستقل، وأحياناً تتعارض مع موقف شركائها الأمريكيين والأوروبيين، خاصةً فيما يتعلق بعلاقتها مع خصوم الغرب، مثل روسيا وإيران.
2– المراهنة على دور الوساطة: مع تصاعد حدة النزاع بين روسيا وأوكرانيا، أقدمت تركيا على عدة محاولات للوساطة بين الطرفين؛ من أجل دفعهما إلى التفاوض على اتفاق سلام ينهي حالة الحرب، إلا أن تلك المحاولات باءت بالفشل حتى الآن، ولكن ما استطاعت تركيا إنجاحه هي صفقة لتبادل الأسرى بين الطرفَين المتنازعَين في شهر سبتمبر الماضي؛ حيث أفرجت كل من روسيا وأوكرانيا عن 270 سجيناً؛ ما يعد إنجازاً دبلوماسياً نادراً في الحرب، خاصة أن هذا الاتفاق تم تنفيذه في الوقت الذي هدد فيه الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” بقدرة بلاده على القيام بضربات نووية موجعة لأوكرانيا، وإعلانه أيضاً عن التعبئة العسكرية الجزئية.
3– إنجاز اتفاق الممر الآمن لتصدير الحبوب: كان التحرك الأكثر أهميةً لأنقرة، هو لعب دور الوسيط في قضية الحبوب والإمدادات الغذائية بين موسكو وكييف؛ إذ عملت تركيا، إلى جانب الأمم المتحدة، على التفاوض على إطلاق سراح صادرات الغذاء والحبوب التي انقطعت منذ بداية الحرب في أواخر فبراير الماضي، وتوصلت إلى اتفاق في 22 يوليو 2022 تضمَّن إطلاق مركز تنسيق الحبوب في إسطنبول؛ حيث يجب أن تعبر الكثير من صادرات الأغذية والحبوب الأوكرانية – وكذلك من روسيا – المياه البحرية لتركيا في البحر الأسود والبوسفور للوصول إلى الأسواق العالمية في الشرق الأوسط وأفريقيا وما وراءهما.
وفي حين أن تركيا هي العضو الوحيد في الناتو الذي يتمتع بعلاقات جيدة ومتوازنة مع كل من روسيا وأوكرانيا، يمكن أن تساعد في ضمان المرور الآمن للسفن البحرية عبر هذه المنطقة. وبالفعل استطاعت الاستراتيجية التركية تحقيق نتائج ذات مغزى، مع استمرار تدفق شحنات الحبوب، بل استطاع المسؤولون الأوكرانيون توسيع نطاق صادرات بلادهم عبر موانئها لتشمل تصدير سلع أخرى.
4– توظيف العضوية في حلف الناتو: عملت أنقرة على استغلال ورقة عضويتها في حلف الناتو من أجل الضغط على الدول الغربية لقبول تحركاتها في العديد من الملفات الخلافية؛ فبينما يسعى الحلف إلى توسيع نطاق انتشاره من خلال ضم السويد وفنلندا – وهو الأمر الذي يتطلب الحصول على موافقة تركيا – تسعى الأخيرة لضمان إذعان الغرب لمطالبها وانتزاع بعض التنازلات منه، وأبرزها عدم قيام الحلف بانتقاد أو فرض عقوبات على تركيا حال شنها أي هجمات على أكراد سوريا والعراق الموالين للغرب، فضلاً عن الضغط على إدارة بايدن من أجل رفع الكونجرس تعليق صفقة بيع 40 مقاتلة من طراز F–16؛ حيث تحاول وزارة الخارجية التركية إقناع الجانب الأمريكي بأن أي بيع لتلك المقاتلات إليها سيكون متماشياً مع المصالح الأمنية القومية للولايات المتحدة، كما أنه سيخدم وحدة الناتو الطويلة الأمد، خاصةً في ظل الدعم العسكري التركي المقدم لأوكرانيا في الحرب.
مكاسب رئيسية
في الوقت الذي يعاني فيه أغلب دول العالم من أضرار الحرب في أوكرانيا، استطاع المسار التركي الدبلوماسي تحقيق مكاسب عديدة جعلت الكثيرين ينظرون إلى تركيا كأنها من أكبر الرابحين من هذه الحرب. ويمكن إيجاز أبرز هذه المكاسب على النحو التالي:
1– التحول إلى مركز محتمل لتصدير الغاز إلى أوروبا: انطلاقاً من الرفض التركي للانضمام إلى العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، وعلى هامش القمة الإقليمية التي جمعت بين زعيمي البلدين في كازاخستان، يوم 13 أكتوبر الجاري، عرض بوتين على أردوغان بناء خط أنابيب غاز جديد في تركيا، يمكن أن يمد أوروبا بالطاقة الروسية بعد تعطل مسارات نورد ستريم في بحر البلطيق الشهر الماضي، وتحويلها إلى مركز إمداد جديد، في محاولة للحفاظ على نفوذ الطاقة الروسية في أوروبا.
ويجعل هذا المشروع تركيا مركزاً لتحويل الغاز الروسي إلى أوروبا، مستفيدةً أيضاً من خط أنابيب الغاز ترك ستريم الذي يمر تحت البحر الأسود إلى تركيا، بفضل أن إمدادات الغاز الطبيعي من روسيا إلى تركيا تجري بشكل كامل ومنتظم، خاصةً أن موسكو قد تبين لها أن أنقرة هي الشريك الأكثر موثوقيةً لتوصيل الغاز إلى الاتحاد الأوروبي، وهو الأمر الذي شجَّع أردوغان على الإقدام على بناء مركز دولي للغاز في تركيا؛ حتى يستغل العرض الروسي الذي يعد هدفاً استراتيجياً طويل الأمد لبلاده.
2– التفاهم مع موسكو حول القضايا الإقليمية: تهدف تركيا من وراء سياساتها غير المعادية لروسيا إلى كسب مزيد من الحرية في تحركاتها تجاه الملفات الإقليمية ذات الاهتمام المشترك، كما هو الحال في سوريا وليبيا وناجورنو كاراباخ؛ إذ استطاعت أنقرة توقيع مذكرة تفاهم، يوم 3 أكتوبر الجاري، مع حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها في ليبيا برئاسة عبد الحميد الدبيبة، تتعلق بالتنقيب عن النفط والغاز في شرق البحر المتوسط.
وتحتاج أنقرة أيضاً إلى الضوء الأخضر من موسكو لعملياتها في سوريا والعراق ضد القوات الكردية التي تعتبرها جماعات إرهابية؛ حيث إن تلك القوات هي أهم حلفاء الولايات المتحدة في القتال ضد الدولة الإسلامية، ومن ثم يسعى أردوغان أيضاً إلى استغلال تلك الورقة في الوقت الذي تحتاج فيه الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى إلى تركيا وقد تكون أقل ميلاً لمعارضة مثل هذا التوغل.
3– زيادة التعاون التجاري مع روسيا: تتمتع تركيا بعلاقات تجارية وثيقة مع الجانب الروسي، خاصةً مع تضاعف حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 30.7 مليار دولار تقريباً خلال النصف الأول من عام 2022، مقارنةً بنحو 15.3 مليار دولار خلال الفترة المناظرة من عام 2021. وقد جاءت هذه الطفرة في التجارة البينية للدولتَين بالرغم من تداعيات الحرب في أوكرانيا وتأثيرها على توتر حركة الملاحة في البحر الأسود الذي يربط بينهما، بل أضحت روسيا الآن هي أكبر مُورِّد للسلع إلى السوق التركية متجاوزةً الصين التي كانت أكبر مُورِّد لتركيا.
وفي هذا الصدد، مثَّلت روسيا نسبة 17% من الواردات التركية خلال الفترة من أبريل حتى يونيو 2022، مقارنةً بحصة 10% في الفترة المناظرة من العام السابق، كما أصبحت تركيا أيضاً قاعدة لإعادة إمداد روسيا بالسلع التي تحتاج استيرادها من الخارج، بفضل الوسائل والطرق المالية التي تتبعها أنقرة في علاقتها التجارية مع موسكو، والتي تتجاهل فيها المخاوف الغربية من نقضها العقوبات المفروضة على موسكو، مبررةً أن تدفقات السلع الروسية تعكس ببساطة تحولاً في أنماط التجارة التي اتخذها القطاع الخاص بشكل قانوني.
4– تعزيز نفوذ أنقرة على الساحة الدولية: تسعى تركيا إلى تعزيز نفوذها السياسي والاقتصادي والجيوسياسي، من خلال استخدام ديناميكيات الأزمة الحالية لخدمة لمصالحها الاستراتيجية؛ إذ تحاول استقطاب الشركات الغربية التي تخرج من السوق الروسية، وزيادة تجميع التدفقات السياحية والمالية من روسيا، ومن ثم تجاوز العقوبات، وكذلك اكتساب أرضية سياسية في الشؤون الإقليمية من خلال القيام بدور الوساطة في النزاعات ذات الاهتمام المشترك، وإجبار الأطراف المتصارعة على التشاور مع أنقرة وعبرها بشأن قضايا الحرب والسلام والتجارة البحرية، لا سيما إزالة الألغام في البحر الأسود، واستمرار تدفق صادرات الحبوب الأوكرانية، باعتبارها القضية الأولى للدول النامية التي تسعى تركيا إلى كسب تأييدها على الصعيد العالمي، باعتبارها صاحبة الفضل الأكبر في التوسط لحل لعودة تدفق الحبوب الأوكرانية إلى أسواقها المحلية.
5– التضييق على خصوم أنقرة في الخارج: تكشف التحركات التركية في الأزمة الأوكرانية، والقضايا المصاحبة للأزمة، على غرار قضية انضمام السويد وفنلندا إلى حلف الناتو، عن مساعي أنقرة للتضييق على خصوم أنقرة في الخارج؛ إذ اشترطت أنقرة لقبول السويد وفنلندا عضوين جديدين في الحلف، التزام الدولتين بالتعاون مع أنقرة في مكافحة الإرهاب، بما في ذلك الإجراءات ضد حزب العمال الكردستاني المحظور في تركيا، وتبادل المعلومات، وتطبيق اتفاقية تسليم المجرمين.
إجمالاً، يمكن القول إن تركيا استطاعت انتهاز فرصة الحرب الأوكرانية لتُعِيد تأكيد دورها ومكانتها في المشهد العالمي، بل أنها فاعل دولي لا يمكن الاستغناء عنه، حتى إن قامت بسياسات مغايرة لتلك المطلوبة من جانب حلفائها الغربيين، خاصةً في ضوء التحركات الدبلوماسية الذكية التي انتهجتها منذ الأيام الأولى للحرب، بل من المتوقع أيضاً أن تظل تركيا، في المستقبل القريب، وسيطاً لا غنى عنه في المثلث (الأوكراني – الروسي – الغربي)؛ حيث لم ينجح أي طرف دولي آخر في لعب هذا الدور الذي يكاد يكون ميؤوساً منه، نتيجة التصعيد المستمر لحالة الحرب بين الجانبَين خلال الآونة الأخيرة؛ الأمر الذي قد يعطيها المزيد من المكاسب خلال الفترة المقبلة.