• اخر تحديث : 2024-05-15 19:58
news-details
قراءات

هل ينجح بوتين في تفكيك التحالف بين أوروبا والولايات المتحدة؟


تعمد روسيا في خطابها السياسي حول الحرب الأوكرانية، التركيز على نفي مسؤوليتها عن الحرب وتداعيتها من جهة، وإلقاء اللوم على الغرب، وفي القلب منه الولايات المتحدة من جهة أخرى. ومن ضمن عدة نقاط يتضمنها تحليل الخطاب السياسي الروسي حول الحرب، فإن ثمة بُعداً يمكن مُلاحظتُه يتعلَّق بتكثيف الانتقادات للولايات المتحدة الأمريكية، والعمل على تفكيك التحالف الأمريكي الأوروبي، وزعزعة الثقة بين الطرفين؛ الأمر الذي ظهر على سبيل المثال، في خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في 30 سبتمبر الماضي، الذي قال فيه إن "الولايات المتحدة لا زالت تحتل ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية وتتنصت على زعمائها".

خطاب تفكيكي

تنتهج روسيا خطاباً سياسياً تعمل من خلاله على تفكيك التحالف الأوروبي–الأمريكي، واتهام الولايات المتحدة بالمسؤولية عن الحرب الأوكرانية وتداعياتها، وأنها استفادت منها لتحقيق أهدافها، مقابل دفع أوروبا لتحمل تكلفتها، ويمكن بلورة أهم أبعاد هذا الخطاب فيما يلي:

1. تحميل واشنطن مسؤولية اندلاع الحرب: يُحمِّل الخطاب الرسمي الروسي الولايات المتحدة وحلف الناتو مسؤولية اندلاع الحرب الأوكرانية من الأساس؛ فمنذ ما قبل اندلاع الحرب، يروج الرئيس الروسي للعب الولايات المتحدة دوراً خفياً في تأجيج أوكرانيا وتشجيعها على مواجهة روسيا؛ فعلى سبيل المثال، في مطلع فبراير الماضي، حض الكرملين إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن على وقف تأجيج التوتر في أوكرانيا، مع نشر الولايات المتحدة قوات بالقرب من أوكرانيا، واتهم بوتين آنذاك واشنطن بمحاولة استدراج موسكو إلى حرب في أوكرانيا. وحذَّر من أن هدف الولايات المتحدة يتمثل في استخدام المواجهة ذريعةً لفرض مزيد من العقوبات على روسيا، فضلاً عن اتهام الولايات المتحدة بتجاهل مخاوف روسيا بشأن قوات حلف الناتو في أوروبا.

2. تأكيد الدور الأمريكي في إطالة أمد الصراع: بعد 8 شهور من بدء ما أطلقت عليه روسيا “عملية عسكرية”، فإن الصراع قد امتد على ما يبدو إلى ما هو أكثر من توقعات أطرافه، وتفاقمت تداعياته إقليمياً وعالمياً. ومع تفاقم تلك التداعيات، حرصت روسيا على تحميل الولايات المتحدة مسؤولية إطالة أمد الصراع، بعدما حمَّلتها مسؤولية اندلاعه؛ ففي يونيو الماضي، اتهم الكرملين الولايات المتحدة بتأجيج الصراع في أوكرانيا، والسعي إلى إطالة أمد الحرب حتى آخر أوكراني. وقال الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف، إن الولايات تحاول بكل جهد سكب الزيت على النار من خلال تزويد أوكرانيا بالأسلحة، واعتبرت خطط واشنطن لتزويد أوكرانيا بأنظمة إطلاق صواريخ متعددة، مؤشراً واضحاً على سعي واشنطن إلى تأجيج الصراع وإطالة أمده. ثم حمَّل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الولايات المتحدة مسؤولية إطالة أمد الحرب في أوكرانيا مرةً أخرى في كلمته خلال افتتاح مؤتمر موسكو العاشر للأمن الدولي، في أغسطس الماضي.

3. اعتبار أن الأحادية القطبية فشلت في معالجة التحديات: تنتقد روسيا واقع الأحادية القطبية والوعود الغربية المتعلقة بضمان الأمن في أوروبا، في إطار محاولاتها اعتبار أن تلك المنطلقات فشلت في معالجة التحديات العالمية من جهة، وفي ضمان الأمن الإقليمي من جهة أخرى، ومن ثم، محاولة تفكيك التحالف الأوروبي الأمريكي الذي تعهدت واشنطن من خلاله، ومن خلال الناتو، بضمان الأمن الأوروبي، خاصةً ضد روسيا.

ففي كلمته خلال افتتاح مؤتمر موسكو العاشر للأمن الدولي، في أغسطس الماضي؛ أشار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلى أن “سياسة العولمة والأحادية القطبية فشلت ولم تحقق شيئاً”، ودعا إلى عالم متعدد الأقطاب مبني على القانون الدولي وعلاقات أكثر عدالة، باعتبار أنه سيفتح فرصاً جديدة لمكافحة التهديدات المشتركة، ومنها الصراعات الإقليمية، وانتشار أسلحة الدمار الشامل، والإرهاب، والجرائم الإلكترونية”، وأوضح أن كل هذه التحديات ذات طبيعة عالمية ولا يمكن التغلب عليها دون تضافر جهود وإمكانيات جميع الدول.

4. الترويج لمعاناة أوروبا من غياب الدور الروسي الموازن: ارتباطاً بالانتقادات الروسية للأحادية القطبية، فإن الخطاب الروسي يعمل على إثارة مخاوف الدول الأوروبية من إلحاق هزيمة كاملة لروسيا أو انهيارها؛ ففي مقابل إثارة الولايات المتحدة مخاوف الأوروبيين من طموحات التمدد الروسي، تعمل موسكو على إثارة مخاوف الأوروبيين من غياب دورها الموازن للهيمنة الأمريكية؛ إذ تعتبر أن انهيار روسيا يعني سيطرة وهيمنة شاملة وتامة من قبل الولايات المتحدة على دول الاتحاد الأوروبي.

5. اتهام الغرب بالفشل في ضمان الأمن الأوروبي: تنتقد روسيا، في إطار خطابها التفكيكي للتحالف الغربي، ما آلت إليه الوعود الغربية المتعلقة بضمان الأمن في أوروبا؛ فقد وصف الرئيس الروسي، في أغسطس الماضي، وعود الغرب بضمان الأمن في أوروبا بالنفاق، متهماً الدول الغربية بتدمير نظام الأمن الأوروبي. واعتبر بوتين أن الغرب يدمر عمداً نظام الأمن الأوروبي، ويشكل تحالفات عسكرية جديدة، ويُحرك حلف الناتو شرقاً، ويُقيم بنيته التحتية العسكرية، بما في ذلك نشر نظام دفاع مضاد للصواريخ وزيادة القوة الضاربة للقوات الهجومية.

6. ربط الرفاهية الأوروبية بالاعتماد على الغاز الروسي: حاول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، اعتماد مقاربة تربط بين رفاهية الدول الأوروبية وبين الاعتماد على روسيا، خاصةً في مجال الطاقة. وفي كلمته بمنتدى أسبوع الطاقة، في 12 أكتوبر الجاري، قال بوتين إن الرفاهية في أوروبا كانت مقترنة بالتعاون مع روسيا، مؤكداً أنه لا يمكن للدول الأوروبية الامتناع عن التعاون مع روسيا، مع الترويج لنزعة تعاونية روسية تجاه الدول الأوروبية، بقوله: "نريد التعاون مع أوروبا تجارياً، لكنهم من فرضوا العقوبات".

وعلى العكس مما اعتبرته روسيا رفاهية واستقراراً اتسمت بها عملية الاعتماد الأوروبي على روسيا في قطاع الطاقة، فإن بوتين حذَّر من أن أسعار الغاز ستجعل أوروبا تخسر مئات المليارات، وأن الدول النامية ستتأثر بارتفاع أسعار الغاز العالمية. واتهم الرئيس الروسي الولايات المتحدة من جهة أخرى بمحاولة السيطرة على أسواق الطاقة في أوروبا، وبأنها تجبر الدول الأوروبية على شراء الطاقة بأسعار مرتفعة جداً.

7. اتهام الولايات المتحدة بتخريب “نورد ستريم”: بعد أن كان خط “نورد ستريم” مثار خلافات كبيرة بين الولايات المتحدة والحلفاء الأوروبيين، وفرض واشنطن عقوبات على مشروع “نورد ستريم 2″، فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حرص على تحميل الغرب مسؤولية التسرب الذي تم رصده بخطَّي أنابيب الغاز نورد ستريم 1 و2، أواخر سبتمبر الماضي. وفي إشارة إلى الولايات المتحدة، قال بوتين: "لقد لجؤوا إلى التخريب. بشكل لا يصدق، لكنه حقيقي، عبر تنظيم تفجيرات بخطوط أنابيب غاز نورد ستريم الدولية؛ فقد بدؤوا بالفعل في تدمير البنية التحتية الأوروبية المشتركة للطاقة".

احتمالات النجاح

تتسم كثير من الأطروحات الروسية بالبعد الدعائي ومحاولة تبرير الحرب، وتحميل واشنطن بشكل منفرد المسؤولية عن تداعياتها، وهي الأطروحات التي لا تؤثر بشكل كبير في الموقف الأوروبي الذي يدرك بدرجة كبيرة، أن ذلك يأتي في إطار تبرير موسكو الحرب على المستوى الدولي والتنصل من مسؤوليتها، وتفكيك التحالف الأوروبي الأمريكي. لكن رغم ذلك، حتى إذا تجاهلت الدول الأوروبية الخطاب التفكيكي الروسي، فإن ثمة العديد من العوامل التي تشير إلى وجود بوادر أزمة في هذا التحالف، ومن ثم يمكن القول إن نجاح السياسة الروسية يرتهن بعدد من المحددات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:

1. تفاقم أزمة تسعير الغاز الأمريكي المُورَّد إلى أوروبا: فقد نشبت أزمة بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة في الآونة الأخيرة على خلفية أسعار الغاز الأمريكي المُورَّد للدول الأوروبية؛ ففي قمة براج الأخيرة، استنكرت العديد من الدول الأوروبية قيام الدول الصديقة، خاصةً الولايات المتحدة والنرويج، ببيع الغاز لها بـأسعار خيالية، متهمةً الدولتَين باستغلال الصراع بشكل غير مباشر لتحقيق أرباح هائلة من تصدير الغاز، على الرغم من ضرورة التضامن المتبادل بين الجماعة الغربية لمواجهة الضغوط الروسية في حرب الطاقة التي تشنها على أوروبا، كما جاء الغضب الأوروبي الشديد أيضاً من عدم مراعاة الدول الصديقة، ارتفاع تكاليف الإنتاج المبالغ فيها على خلفية ارتفاع أسعار الطاقة.

2. تصاعد الاستياء الأوروبي من دور واشنطن في إضعاف اليورو: تشهد العملة الأوروبية الموحدة (اليورو) تراجعاً قياسياً أمام الدولار بسبب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية وما أحدثته من ارتفاع غير مسبوق في أسعار الطاقة والمحروقات، في ظل الانكماش الاقتصادي وارتفاع نسبة التضخم في منطقة اليورو إلى أكثر من 5% مع بداية العام الحالي كأعلى نسبة للقارة الأوروبية منذ 30 عاماً، فيما تسارع التضخم السنوي في 19 دولة بمنطقة اليورو في شهر سبتمبر الماضي ووصل إلى 9.9%، وفقاً لتقديرات نهائية لدائرة الإحصاء الأوروبية “يوروستات”. وترجع تقديراتٌ ضعفَ سعر اليورو إلى قوة وصعود الدولار وتزايد الطلب عليه في الأسواق العالمية، خاصةً في ظل أزمة ارتفاع أسعار الوقود، ورفع أسعار الفائدة على الدولار الأمريكي. وهكذا فإن تصاعد الاستياء من دور السياسة النقدية الأمريكية (رفع سعر الفائدة على الدولار) داخل أوروبا، ربما يساعد على اتساع مساحة الخلافات الأمريكية–الأوروبية، ويعزز من فرص موسكو لتفكيك التحالف بين الطرفين.

3. انتقاد سياسات التصنيع والتجارة الخاصة بإدارة بايدن: لقد فاقمت سياسات التصنيع التي يتبنَّاها الرئيس الأمريكي “بايدن”، القائمة على شعار “صنع في أمريكا”، الخلافات بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة، وخصوصاً أن قانون خفض التضخُّم الأمريكي الذي تم اعتماده نهائياً في شهر أغسطس الماضي، تضمَّن هدفاً رئيسياً متعلقاً بتقليل اعتماد الولايات المتحدة على المُورِّدين الأجانب؛ وذلك عبر تقديم حوافز مالية لإنشاء المصانع وإنتاج السلع في الولايات المتحدة، ومن بينها السيارات الكهربائية. وتعرَّض هذا القانون لانتقادات من قبل حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين؛ فعلى سبيل المثال، ذكر “فالديس دومبروفسكيس” مفوض الاتحاد الأوروبي للتجارة، يوم 13 أكتوبر الجاري: "يقلقنا عدد من البنود التمييزية بحق شركات الاتحاد الأوروبي، وهي تمثل مشكلة لنا بطبيعة الحال".

المخاوف الأمنية

خلاصة القول أن الرئيس الروسي يراهن على عامل الوقت باعتباره العامل الأهم في توسيع هوة الخلافات الغربية. وبالرغم من أنه يصعب تصور تفكك التحالف الأمريكي–الأوروبي في اللحظة الراهنة لاعتبارات متعلقة بالحرب الأوكرانية والمخاوف الأمنية الأوروبية، واحتياج أوروبا إلى الدعم العسكري الأمريكي، لكن من المؤكد على المدى البعيد، أن الحرب الأوكرانية، التي أتت في أعقاب أزمة الغواصات الأسترالية التي أحدثت أزمة في مسار العلاقات الأمريكية الأوروبية، ستُحتِّم على الدول الأوروبية إعادة التفكير في منظومة تحالفاتها الخارجية؛ فمسار الحرب الأوكرانية أكد من جديد حاجة أوروبا إلى نظام أمني يتجاوز الاعتماد على الولايات المتحدة، فضلاً عن إعادة النظر في الجوانب الاقتصادية واحتياجات قطاع الطاقة بشكل أكثر تنوعاً.