• اخر تحديث : 2024-07-01 12:23
news-details
قراءات

شكّل "عرين الأسود" منذ ظهوره، وما بات عليه وبما يحظى بهِ من شعبية جارفة بين الفلسطينيين ومحط إجماع غير مسبوق، لا سيما وهو تجمع غير حزبي للمقاومة المسلحة في محافظة نابلس، أخذت من البلدة القديمة حصنًا لها، وبما قامت بهِ من عمليات ضد الاحتلال، ضد جنوده ومستوطنيه، وتطلعهم لتشكيل حالة مقاومة دائمة الاشتباك عصية على الكسر، في ظل حالة اليأس والتيئيس والهوان وعربدة المستوطنين، شكّل العرين تحديًا وتهديدًا للاحتلال وخوفًا من أن يتحول إلى ما يشبه مخيم جنين آخر لكن بوزن وثقل ومكانة أكبر، لما تشكله محافظة نابلس، فتتحول نابلس وقصبتها تحديدًا إلى قلعة للمقاومين وقاعدة لانطلاق عمليات المقاومة ضد الجنود والمستوطنين، ويتحول العرين إلى حالة اشتباك دائم عصي على الكسر يضطر الاحتلال للتعايش معها، طالما أنه في غير وارد في حساباته القيام باجتياح كبير ومكلف له، وقد يجر إلى انفجار عسكري كبير.

كان قرار المستوييْن، العسكري والسياسي، بالتصدي للعرين وتفكيكه والقضاء عليه، طالما لا زال ذلك مُمكنًا، والسؤال كان "كيف؟"، وهذا السؤال الذي واجهته المنظومة الاحتلالية في أعقاب انفجار العلميات العسكرية في الأشهر الأخيرة، وكانت جنين في ذلك الوقت تحظى بالأولوية في الأجندة الأمنية الإسرائيلية، وما بين التهديدات الكبيرة بإطلاق "السور الواقي 2"، اختاروا ما أطلِق عيه اسم عملية "كاسر الأمواج"، بما تتضمنه من اعتقال ومطاردة واغتيال للمقاومين بشكل مكثف وواسع، وأضيف إليه في نابلس الحصار؛ حصار المدينة لأسابيع كعقاب جماعي للسكان ولعزل المقاومين وحصارهم، بالاضافة للاغتيال عن بعد دون إعلان المسؤولية والاكتفاء بالمسؤولية غير المباشرة، بالطريقة التي تم فيها اغتيال الشهيد تامر الكيلاني، يوم الأحد الماضي، والهدف هو القتل بأقل كلفة لمَن من الصعب الوصول إليه، وإرباك المقاومين بجعلهم يهتمون بالتدابير الأمنية وحماية أنفسهم عوضًا عن التفرغ للمقاومة.

ما حدث من اقتحام للبلدة القديمة في نابلس من قِبل قوات كبيرة من مُختلف وحدات النخبة، واستشهاد قائد العرين الشهيد وديع الحوح وأربعة من رفاقه في أماكن أخرى من ساحات الاشتباك الضاري مع المقتحمين؛ كان عبارة عن عملية كبيرة حظيت بأولوية وأهمية فائقة لدى قيادة الاحتلال، بحيث تم تخطيطها من قِبل أعلى المستويات واتخذ القرار بشأنها - بحسب تصريحات غانتس - يوم الخميس الماضي أثناء اجتماع لغانتس وكبار قادة الجيش مع رئيس "الشاباك" رونين بار، وأشرف على إدارتها رئيس الأركان أفيف كوخافي ورئيس "الشاباك" من غرفة عمليات "الشاباك"، استخدمت فيها وسائل كثيرة، بما في ذلك السايبر والمُسيرات، بحسب ما كتب يوآف ليمور في "إسرائيل اليوم"، والهدف هو توجيه ضربة قوية للعرين وإرسال رسالة للمقاومين بأنه "لا يوجد لكم ملاذ آمن، وإن الجيش قادر على العمل في كل مكان، وسيقوم بكل ما يلزم"، وهو ما أعلنه غانتس، وهي أيضًا رسالة غير مباشرة لمخيم جنين.

لكن في المحصلة النهائية، فإنه رغم كل الجهود الاستثنائية التي تقوم بها حكومة لبيد - غانتس على مستوى المواجهة مع الفلسطينيين، وهي جهود تكتسب طابعًا يجمع ما بين المغامرة والإدارة الذكية محسوبة المخاطر، لأسباب ودوافع سياسية انتخابية، وأخرى لها علاقة بالتوجهات السياسية، فضلًا عن الإخلاص لمشروع الاحتلال واستقرار الأمن وتوفيره، وقد شاهدنا ذلك في قرار مسيرة الأعلام وفي "وحدة الساحات" واقتحامات جنين واغتيال النابلسي والكيلاني، وفي العملية التي استهدفت تصفية قيادات "عرين الأسود" فجر أمس الثلاثاء، وفي اتفاق ترسيم الحدود مع لبنان؛ فإن ما لا يستطيع أن يفهمه الاحتلال أو بالأحرى لا

يريد أن يفهمه بحكم أيديولوجية الاستيطان والاحتلال الإحلالي هو أن المقاومة فكرة، وهي الخيار الوحيد للشعب الفلسطيني، والقضاء عليها ليس خيارًا احتلاليًا مُمكنًا، فعلى مدار التاريخ الاحتلالي الطويل ظلت المقاومة حية؛ بل وترسّخت باستمرار، برغم كل أعمال البطش والاغتيال، واعتقال مئات آلاف الفلسطينيين، قد يخبو لهيبها حينًا لكن جذوتها تظل ملتهبة وهّاجة، والمقاومة بكل أشكالها باتت تستقطب معظم الفلسطينيين من مختلف الفئات العمرية والطبقات الاجتماعية، لا سيما في ظل تغول الحكومات الاحتلالية وانزياحها لليمين العنصري والديني، وغياب أيّ أفق سياسي، وخروج عشرات الآلاف في مدينة نابلس لتشييع الشهداء، والإضرابات التي عمّت مدن الضفة، وحالة الحزن والتعاطف الشديد كانت أبلغ رسالة من جموع الشعب عن احتضانه للمقاومة وثباته على خيارها، وهذا ما يعرفه جيدًا جنرالات الجيش والقيادات والأمن ومراكز الأبحاث الاحتلالية، لكن ما يهمهم الآن هو شراء الوقت والمزيد من الوقت، لعل الأمر الواقع يفرض نفسه ويضطر الفلسطينيين للتسليم بهِ أو على الأقل يمنح الحكومة فرصة التهرب من أيّ حسم سياسي.

ولأن الانتخابات على الأبواب، يصبح كل عمل أو قرار عسكري أمرًا ذا حساسية انتخابية عليا، فعدم العمل في ظل تنامي المقاومة سيُفسر بأنه ضعف وعجز عن توفير الأمن، وكل عملية (ناجحة إعلاميًا) ستعزز مكانة لبيد وغانتس. وفي المقابل، فإن أيّ عملية تؤدي إلى انفجار وتصعيد أو يسقط فيها قتلى من الجنود ستهز مكانتهم؛ لذلك فالصيغة الأمثل بالنسبة لهم حتى الانتخابات هي عمليات ناجحة محدودة التأثير، يُروج لها إعلاميًا، والظهور بمظهر القيادة القوية والحازمة في مواجهة المقاومة الفلسطينية.