• اخر تحديث : 2024-07-01 12:23
news-details
تقدير موقف

لماذا يتبنى النظام في مالي سياسة خارجية تصادمية؟


لم يَكُن إعلان مالي، في شهر سبتمبر الماضي، عدم التزامها بالعقوبات المفروضة على غينيا من قبل مجموعة إيكواس سوى تعبير عن التحولات التي شهدتها سياسة باماكو الخارجية خلال السنوات الماضية؛ إذ تمر مالي الواقعة في غرب أفريقيا بمرحلة من عدم الاستقرار على الصعيد الداخلي منذ مطلع العقد الثاني من الألفية الجديدة؛ حيث شهدت وقوع انقلاب عسكري أطاح بالرئيس الأسبق أمادو توماني توري في مارس 2012. وعلى الرغم من إجراء انتخابات رئاسية في العام التالي، أسفرت عن فوز الرئيس الأسبق إبراهيم أبو بكر كيتا، الذي أُعيد انتخابه في عام 2018 مرة أخرى، وتمَّت الإطاحة به عبر انقلاب عسكري في أغسطس 2020، تلاه انقلاب عسكري آخر في مايو 2021 أسفر عن وجود الرئيس الحالي أسيمي جويتا. وقد انعكست هذه الأوضاع غير المستقرة داخلياً على حالة التفاعلات الخارجية على المستوين الدولي والإقليمي للدولة، التي تم توصيفها بحكم الممارسات المتكررة على أنها تتسم بنوع من عدم التوازن المقترن بالتصعيد أو التصادم؛ وذلك منذ مطلع العام الجاري.

سياسات تصعيدية

قام النظام العسكري الحاكم في مالي بالإقدام على تبني جملة من السياسات التي يمكن وصفها بأنها "تصادمية"؛ وذلك منذ مطلع العام الجاري، ولعل من أبرزها ما يلي:

1تبني خطاب مناوئ للقوى الغربية: بدأ التدهور التدريجي لعلاقات النظام العسكري الحاكم في مالي بالقوى الغربية – وعلى رأسها فرنسا التي كانت الدولة المستعمِرة سابقاً لمالي – عقب حدوث الانقلاب العسكري في أغسطس 2020، الذي وصل إلى حد اتخاذ مالي قراراً بطرد السفير الفرنسي لديها في أواخر يناير 2022؛ وذلك بعدما قام الأخير بوصف المجلس العسكري الانتقالي الحاكم بأنه "غير شرعي"، كما تصاعدت الاحتجاجات الشعبية في مواجهة الوجود الفرنسي في مالي؛ حيث بات يُنظَر له على أنه شكل من أشكال الاستعمار الجديد (Neocolonialism) ولا سيما في ضوء عدم فاعليته في التعامل مع التهديدات الأمنية خلال ما يقرب من عشر سنوات في منطقة الساحل. ولعل هذا ما جعل وزير خارجية مالي يتهم فرنسا بتسليح الجماعات الجهادية، والقيام بـما وصفه بـ "الانتهاك المتكرر" للمجال الجوي للبلاد؛ وذلك في جلسة مجلس الأمن الدولي المنعقدة في 15 أغسطس من العام الجاري.

كما أعلنت فرنسا، في إطار القمة الأوروبية–الأفريقية المنعقدة في العاصمة البلجيكية بروكسل في فبراير 2022 عن قيامها بسحب جميع العناصر العسكرية التابعة لها من مالي، سواء المشاركة في إطار عملية "برخان" التي بدأت مهامها في عام 2014، أو في إطار القوة الأوروبية "تاكوبا"، والقيام بإعادة توزيعها وانتشارها على دول أخرى في منطقة الساحل في غضون فترة تتراوح بين (4–6) أشهر. وقد قامت فرنسا بسحب كافة عناصرها بالفعل من مالي في أغسطس من العام الجاري. ويأتي ذلك في ضوء مراجعة باريس لوجودها العسكري في منطقة الساحل، ولا سيما في ظل إهدار الموارد، سواء من الناحية الاقتصادية أو البشرية؛ حيث لقي قرابة (55) جندياً مصرعهم في إطار العمليات المختلفة، وتلا ذلك إعلان القادة الأوروبيين انسحاب قوة "تاكوبا" من مالي التي كانت من المفترض أن تحل محل عملية "برخان"؛ حيث تم توجيه انتقاد للمجلس العسكري الحاكم لتوظيفه مجموعة "فاغنر" الروسية، التي يتهمها الاتحاد الأوروبي بإثارة العنف وارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان في أفريقيا.

2الانسحاب من القوة المشتركة لدول الساحل الأفريقي: فعلى الرغم من استضافة مالي مقر هذه القوة، فإنها قررت في مايو 2022 الانسحاب من جميع الأجهزة والهيئات التي تجمع دول الساحل؛ وذلك احتجاجاً على رفض توليها رئاسة الدورة الثامنة من مؤتمر رؤساء دول التجمع المنعقدة في “باماكو” في فبراير 2022، وأعلنت أن هذا القرار سيدخل حيز النفاذ اعتباراً من 30 يونيو 2022؛ علماً بأنه قد تم إطلاق هذه القوة رسمياً من قِبل دول الساحل الخمس (بوركينا فاسو، تشاد، مالي، موريتانيا، النيجر) خلال قمة جمعت دول الساحل وانعقدت في “باماكو” بمالي في يوليو 2017، وهي القوة التي تعتبر بدورها جزءاً من هذا التجمُّع الذي نشأ في فبراير 2014 كإطار تعاوني دولي بين الدول الخمس؛ من أجل طرح استجابة إقليمية للتحديات المختلفة، وتتمثل اختصاصاتها في مكافحة الإرهاب والجريمة المُنظَّمة العابرة للحدود والاتجار بالبشر، والمساهمة في وضع استراتيجية للتنمية في منطقة الساحل، فضلاً عن المساهمة في استعادة سلطة الدولة وعودة النازحين واللاجئين.

3عدم الالتزام بالعقوبات الإقليمية المفروضة على غينيا: قامت مالي بالإعلان عن عدم التزامها أو تبنيها أي إجراءات لتطبيق العقوبات التي فرضها تجمع “إيكواس” على غينيا في إطار قمته الطارئة المنعقدة على هامش الدورة الـ(77) للجمعية العامة في مدينة “نيويورك” في أواخر سبتمبر 2022، والتي شملت تجميد الأصول المالية، وحظر السفر على قائمة تضم مجموعة من الأشخاص المرتبطين بالمجلس العسكري الغيني الذين يسعون إلى منع العودة إلى النظام الدستوري في غينيا في غضون فترة زمنية معقولة؛ حيث وصفت مالي هذه العقوبات بأنها غير قانونية وغير إنسانية وغير شرعية، كما أكدت تبنيها بعض الإجراءات لمساعدة ودعم غينيا من أجل مواجهة تأثير هذه العقوبات.

ولعل من أبرز مظاهر هذا الدعم قيام زعيم المجلس العسكري الغيني مامادي دومبوي بزيارة رسمية إلى مالي للمشاركة في احتفالات ذكرى الاستقلال في 22 سبتمبر 2022، وهي الزيارة التي هدفت إلى تعزيز علاقات الصداقة المشتركة، ومناقشة الموضوعات المتعلقة بالفترة الانتقالية في كلا البلدين. وقد جاء فرض هذه العقوبات على غينيا بسبب تأخُّرها في تنظيم الانتخابات واستعادة الديمقراطية في الدولة؛ وذلك في إطار مرحلة ما بعد الانقلاب العسكري الذي جرى في سبتمبر 2021؛ حيث اقترح زعيم المجلس العسكري مامادي دومبوي فترة انتقالية مدتها (36) شهراً لإجراء الانتخابات، وهو ما رفضه تجمع “إيكواس”، مطالباً بمدة لا تزيد عن (24) شهراً، ومنح غينيا مهلة زمنية ممتدة حتى 22 أكتوبر 2022 لوضع جدول زمني “معقول” أو مواجهة عقوبات إضافية.

4الصدام مع كوت ديفوار عقب احتجاز الجنود: قامت مالي باعتقال (49) جندياً من كوت ديفوار في 10 يوليو الماضي؛ حيث وصفتهم بأنهم عناصر من المرتزقة الذين يُزعم أنهم خططوا للقيام بانقلاب وتقويض أمن الدولة بعد دخولهم البلاد بشكل غير قانوني حاملين أسلحة وذخائر ومعدات عسكرية أخرى، في حين أكدت حكومة كوت ديفوار أن هؤلاء الجنود كانوا يعملون ضمن بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي (MINUSMA)، وطالبت السلطات المالية بالإفراج الفوري وغير المشروط عن الجنود، وقد قبل المجلس العسكري الحاكم في مالي الوساطة التي عرضتها توجو من خلال وزير خارجيتها روبرت دوسي خلال زيارة إلى “باماكو” في 18 يوليو الماضي، وقام المجلس بالفعل بالإفراج عن ثلاثة من هؤلاء الجنود المعتقلين في 3 سبتمبر 2022.

وعلى الرغم من ذلك تعرقلت مساعي حل هذه الأزمة نتيجة مطالبة مالي كوت ديفوار بالاعتراف بمسؤوليتها عن نشر هؤلاء الجنود، وتسليم الأشخاص الموجودين على أراضيها منذ 2013 المطلوبين في مالي كشرط لإطلاق سراح باقي الجنود، وهو ما رفضته كوت ديفوار، متهمةً إياها بابتزازها من خلال ربط إطلاق سراحهم بتسليم ماليين يعيشون على أراضيها، وجددت دعوتها إلى الإفراج الفوري عن جنودها، وحثت على عقد اجتماع عاجل لتجمع “إيكواس”. وقد جاء ذلك في إطار جلسة مجلس الأمن القومي المنعقدة في 14 سبتمبر 2022. وفي السياق ذاته، قام المجلس العسكري الحاكم في مالي باتخاذ قرار بطرد المتحدث باسم بعثة الأمم المتحدة في مالي أوليفييه سالغادو في 20 يوليو 2022؛ وذلك نتيجة إعلان تأييده الجانب الإيفواري، متهمةً إياه بنشر معلومات مغرضة بشأن قضية احتجاز الجنود، كما دعته لمغادرة الأراضي المالية في غضون (72) ساعة.

عوامل دافعة

يمكن إرجاع تبني النظام الحاكم في مالي سياسات خارجية تصادمية على المستوى الإقليمي إلى جملة من العوامل الرئيسية المتمثلة فيما يلي:

1الدعم الروسي المتنامي للنظام الحاكم في مالي: إذ يشكل الدعم الروسي أحد أبرز المحفزات الدافعة للنظام العسكري الحاكم في مالي التي عملت على تقوية شوكته، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي في إقليم غرب أفريقيا؛ حيث بات هذا النظام ينظر لروسيا على أنها ليست الداعم الرئيسي له لضمان بقائه واستمراره في السلطة السياسية فحسب، بل الحليف الاستراتيجي لدعم مواقفه ومصالحه الخارجية الإقليمية، وهو ما دفع نحو عدم الاعتماد على الدعم الأوروبي الغربي التقليدي، ولا سيما على المستوى العسكري، بل ساهم في تنامي الشعور بالقدرة على مواجهة الأوروبيين. وقد شهد النفوذ الغربي في مالي تراجعاً كبيراً، وخاصةً منذ مطلع العام الجاري لصالح تنامي الدور الروسي؛ حيث قام الاتحاد الأوروبي في أعقاب العقوبات التي فرضها تجمع “إيكواس” على مالي بإصدار عقوبة مماثلة ضد خمسة أفراد بارزين انطلاقاً من كونهم يعرقلون الانتقال السياسي في الدولة.

وتعتمد روسيا، في إطار علاقتها بمالي، على تقديم الدعم والمساندة بمختلف صورها للنظام الحاكم، وعلى رأسها الدعم العسكري، عبر أدوات عدة، لعل أبرزها شركة الأمن الخاصة المعروفة باسم “مجموعة فاغنر”. وقد تبلور التعاون بين مالي وهذه المجموعة منذ نهاية العام الماضي (2021)؛ حيث بدأ انتشار بعض المدربين العسكريين لهذه المجموعة للقيام ببعض المهمات التدريبية داخل الدولة.

2التخلص من الضغوط الإقليمية المتصاعدة: يعاني النظام الحاكم في مالي من قدر كبير من الضغوط الإقليمية بفعل العقوبات المفروضة عليها من قِبل تجمع “إيكواس” خلال العامين الأخيرين؛ وذلك نتيجة لحدوث انقلابين عسكريين في غضون أقل من عام: الأول في أغسطس 2020، والثاني في مايو 2021، وهو ما ترتب عليه توقيع عقوبات صارمة بفعل خرق القواعد المتعلقة بالانتقال السلمي للسلطة وفقاً للميثاق المنشئ للتجمع الذي تمت مراجعته في عام 1993. وتضمنت العقوبات المفروضة في أعقاب الانقلاب الثاني، تعليق عضويتها في جميع الهيئات الحاكمة للتجمع، وكذلك فرض مجموعة من العقوبات الاقتصادية المتعلقة بفرض حظر على المستويين المالي والتجاري، وهي العقوبات التي تم تغليظها في يناير من العام الجاري بعد إعلان النظام العسكري إطالة أمد المرحلة الانتقالية لفترة تصل إلى خمس سنوات.

وهو ما شكَّل عدولاً عن القرار الذي أصدره في 6 يونيو 2022، الذي حدد الفترة الانتقالية بنحو (24) شهراً محددة بالفترة (26 مارس 2022 – مارس 2024)، وهو الأمر الذي رفضته “إيكواس” بشكل تام؛ حيث حددت منذ البداية تاريخ 27 فبراير 2023 موعداً لإجراء الانتخابات العامة وتسليم الحكم للمدنيين. وعلى الرغم من أن هذه العقوبات الاقتصادية قد تم رفعها بقرار من “إيكواس” في يوليو من العام الجاري بعد التوافق على العودة إلى الحكم المدني في مارس 2024، فإن مالي لم تستعد عضويتها حتى تاريخه، كما استمرت العقوبات الفردية المفروضة على بعض عناصر المجلس العسكري الحاكم.

3تقليص الضغوط الداخلية عبر افتعال أزمات خارجية: يسعى النظام الحاكم في مالي إلى تبني استراتيجية “الإدارة بالأزمة” القائمة على افتعال أزمات خارجية على المستوى الإقليمي في غرب أفريقيا؛ وذلك لتقليل الضغوط المتزايدة عليه في الداخل بفعل ما تشهده الدولة من تردي الأوضاع الأمنية والاقتصادية فعلى المستوى الأمني نجد أن الدولة تعاني من الهجمات والأنشطة الإرهابية المرتبطة بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي؛ وذلك منذ الانقلاب العسكري الذي جرى في عام 2012، وما تلاه من تنامي حالة عدم الاستقرار الداخلي، وهو ما أدى إلى التأثير على ممارسة احتكار استخدام القوة أو ضمان سلامة الإقليم؛ حيث إن ثلثي الأراضي بات من الصعب فرض السيطرة عليها من قبل الدولة، وهو ما دفع الحكومة إلى تخصيص (22%) من ميزانيتها الوطنية لقطاع الدفاع في عام 2019.

وكذلك الأمر على المستويَين الاقتصادي والاجتماعي؛ حيث تصنف مالي عالمياً من بين الدول الأقل وفقاً لمؤشر التنمية البشرية (HDI)؛ حيث جاءت في الترتيب الـ(186) من إجمالي (191) دولة؛ وذلك وفقاً لتقرير التنمية البشرية لعام 2022/2021، كما بلغت نسبة الفقر الحاد نحو (42.3%) في عام 2019، وهي النسبة التي ارتفعت بنحو (5%) في العام التالي بفعل الأزمات السياسية والأمنية والاجتماعية والصحية. ويتركز (90%) من الفقر في المناطق الريفية في جنوب البلاد؛ وذلك وفقاً لإحصائيات البنك الدولي. ويُلاحَظ أن العقوبات الاقتصادية الصارمة التي كانت مفروضة عليها من قِبل “إيكواس” كان لها تأثير سلبي على الدولة؛ حيث أدت إلى عدم قدرتها على سداد ما يزيد عن (300) مليون دولار من ديونها بفعل العزلة المفروضة عليها عن الأسواق المالية الإقليمية والبنك المركزي الإقليمي.

4التكريس لصورة مناهضة الإرث الاستعماري داخلياً: لا تنفصل تحركات نظام مالي الإقليمية والدولية عن مساعي دعم شرعيته الداخلية؛ فالنظام يحاول من خلال الصدام مع الدول الغربية، وخصوصاً فرنسا، صياغة صورة إيجابية له كنظام “مستقل” يحاول التخلص من الإرث الاستعماري الفرنسي، وبالطبع يستغل النظام في ذلك حالة الرفض الشعبي المتنامية للوجود الفرنسي في البلاد.

وختاماً، يمكن القول إن النظام الحاكم في مالي يعاني من أزمة شرعية في الداخل؛ ليس بفعل وصوله لسدة الحكم عبر طريقة غير دستورية فحسب، بل أيضاً نتيجة تنامي الأزمات الضاغطة على الدولة في الآونة الأخيرة على مختلف المستويات، ولا سيما الاقتصادية والأمنية؛ ما أدى إلى تراجع معدلات القبول والرضا الشعبي من قِبل المحكومين تجاه هذا النظام، وهو ما دفع الأخير إلى محاولة التركيز على ملفات السياسة الخارجية على الصعيد الإقليمي، انطلاقاً من إدراكه أن البيئة الإقليمية المحيطة بالدولة غير مؤيدة لهذا النظام؛ وذلك على نحو يؤثر سلباً على مجمل الأوضاع الداخلية في الدولة.