أعلنت الجزائر، مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير 2022، أن “سياستها الخارجية تقوم على عدم الانخراط في أي نزاع”، مُتهمةً بعض الأطراف التي لم تُسمها “بمحاولة إقحام البلاد في النزاع”، مؤكدةً أن “أولويتها تتمثل في حماية رعاياها بالخارج”، في محاولة لتبني نهج متوازن بين المحاور الدولية المختلفة، خصوصاً مع ارتباط الجزائر بعلاقات استراتيجية بطرفي النزاع، سواء المحور الغربي بقيادة الولايات المتحدة والدول الأوروبية، أو روسيا. ويبدو أن هذه المقاربة حاولت التمسك بالنسق الخاص للسياسة الخارجية الجزائرية على مدار عقود، لكنها لم تَحُل دون سعي الجزائر لتحقيق بعض المكاسب الاستراتيجية التي تخدم مصالحها وتُحيي تحالفاتها الخارجية وتُعظم مكاسبها.
المقاربة الجزائرية
تبنت الجزائر منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية، مقاربة متوازنة تجاه أطراف الأزمة المختلفة، بما يضمن من جانب عدم الانخراط في سياسة المحاور، ومن جانب آخر تعظيم المكاسب الجزائرية خارجياً. ويُمكن إبراز معالم هذه المقاربة على النحو التالي:
1- تجنب الانخراط المكثف في الأزمة: لم تُصدر الجزائر أي مواقف رسمية بخصوص الحرب في أوكرانيا، إلا بعد نحو أسبوعين من اندلاع الحرب؛ حيث أعلن عبد الحميد عبداوي مدير الاتصال والإعلام بوزارة الخارجية الجزائرية، في 6 مارس 2022، أن “الدولة الجزائرية لها سياسة ترفض المشاركة في أي نزاع”، متهماً في المقابل جهات لم يسمها بمحاولة “إقحام بلاده في الصراع”. وشدد الدبلوماسي الجزائري على أن الأولوية لدى السلطات الجزائرية “هي حماية رعاياها في الخارج”. ويأتي هذا الموقف متسقاً مع ثوابت السياسة الخارجية الجزائرية منذ عقود، وهي الثوابت التي يُعد مبدأ عدم الانحياز أحد ركائزها الأساسية، وهو المبدأ الذي تبنته الجزائر منذ “مؤتمر الجزائر” لحركة عدم الانحياز عام 1973. ومن هذا المنطلق كانت الجزائر عضواً في المجموعة التي شكلتها جامعة الدول العربية للوساطة في الأزمة الأوكرانية.
2- الامتناع عن التصويت ضد روسيا في الأمم المتحدة: كانت الجزائر من بين 35 دولة امتنعت عن التصويت على قرار للجمعية العامة للأمم المتحدة، في شهر مارس الماضي، بإدانة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. وبررت الجزائر قرار الامتناع بأنه يأتي في إطار “تمسك الجزائر الثابت بمبادئ ومقاصد ميثاق الأمم المتحدة، التي يتعين أن تبقى أساس القانون الدولي وحجر الزاوية في العلاقات الدولية، لا سيما تلك المتعلقة باحترام استقلال الدول وسيادتها وسلامة أراضيها، طبقاً للشرعية الدولية، وحق الشعوب في تقرير مصيرها”. وأضاف ممثل الجزائر بالأمم المتحدة أن "هذا الموقف يأتي انطلاقاً من مواقف الجزائر المبدئية فيما يتعلق بتعزيز النظام المتعدد الأطراف والحفاظ عليه، وتماشياً مع التزامها بتطوير العلاقات الودية بين الدول، على أساس التعايش السلمي والتسوية السلمية للنزاعات والاحترام المتبادل للالتزامات الدولية والضمانات الأمنية".
وفي سياق متصل، عارضت الجزائر، في شهر أبريل الماضي، قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان. وفسرت الجزائر هذا القرار بتأكيد أن “الجهود الدولية المتعددة الأطراف تستوجب تعزيز الحوار بعيداً عن أي إقصاء”، ومن ثم فإن "الرغبة في تعليق عضوية أي دولة منتخبة من قبل المجموعة الدولية، من أي هيئة أممية، ليس من شأنه أن يساهم في تعزيز روح العمل والتعاون المتعدد الأطراف".
3- رفض الانضمام إلى منظومة العقوبات الغربية على موسكو: اتساقاً مع موقفها الأولي من الصراع، تجنبت الجزائر الانضمام إلى منظومة العقوبات الغربية على موسكو، وهو ما كشف عن رفض ممارسة العزلة الدولية على روسيا. وفي هذا الصدد، استضافت الجزائر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في مايو 2022، وأثناء هذه الزيارة عبر الوزير الروسي عن تقدير بلاده للموقف الجزائري من الحرب في أوكرانيا في الأروقة العربية والدولية، وخلال مباحثاته مع نظيره الجزائري رمطان لعمامرة، أكد لافروف حرص بلاده على زيادة التنسيق مع الجزائر، وأنه تمت إحاطة الجانب الجزائري بتفاصيل العملية العسكرية في أوكرانيا. وأشار لافروف إلى أن “روسيا تبذل ما في وسعها لعدم السماح بإقامة عالم أحادي القطبية” وفق تعبيره.
4- الحفاظ على العلاقات مع أوكرانيا والغرب: انطلاقاً من مبدأ “التوازن الآمن” الذي تبنته الجزائر في التعاطي مع الأزمة الأوكرانية، بحث وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة، هاتفياً في 7 مايو الماضي مع نظيره الأوكراني دميترو كوليبا العلاقات الثنائية والجهود الدولية لوقف الحرب الجارية وتداعياتها على الأمن الغذائي العالمي. وقال لعمامرة في تغريدة عبر “تويتر” إن المباحثات كانت “بناءة” وشملت أيضاً “حماية الأمن الغذائي الدولي في ظل الأزمة الأوكرانية”، كما التقى الوزيران مرة أخرى في 25 سبتمبر الماضي، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبحثا سبل تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين البلدين.
وفي سياق متصل استقبلت الجزائر في مطلع سبتمبر الماضي رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل، الذي التقى على هامش الزيارة الرئيس عبد المجيد تبون وبحث معه العديد من الملفات، وعلى رأسها إمكانية توريد الجزائر المزيد من الغاز إلى أوروبا. وقد جاءت هذه الزيارة بعد 10 أيام من زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وبعد أسابيع من أخرى مماثلة لرئيس الوزراء الإيطالي السابق ماريو دراجي، وهي زيارات حظي فيها ملف الحرب الأوكرانية وملف أزمة الطاقة والغذاء العالميتين بمساحة واسعة من المباحثات. وتأتي هذه المباحثات مع المحور الغربي في إطار “التوازن” بين المحورين الغربي والروسي، وفي إطار توجهات الرئيس عبد المجيد تبون الرامية إلى تنويع الشركاء الخارجيين، والخروج من عباءة التبعية لأحد المحاور.
تعظيم المكاسب
سعت الجزائر، عبر تعاطيها “المتوازن” مع الحرب في أوكرانيا، إلى تعظيم مكاسبها الخارجية؛ وذلك على النحو التالي:
1- تعزيز شراكة الطاقة بين الجزائر وأوروبا: منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، نظرت الدول الأوروبية إلى الجزائر باعتبارها مصدراً آمناً للحصول على الطاقة؛ وذلك في ضوء احتياطات الجزائر الضخمة وقربها الجغرافي؛ إذ تعتبر ثالث أكبر مصدر للغاز الطبيعي للاتحاد الأوروبي. وفي هذا السياق أكدت مفوضة الاتحاد الأوروبي للطاقة كادري سيمسون، في 11 أكتوبر الجاري أن أوروبا تريد “شراكة استراتيجية طويلة الأمد” مع الجزائر كمورد موثوق به للغاز إلى أوروبا. وقالت “سيمسون” في ختام منتدى أعمال الطاقة بين الجزائر والاتحاد الأوروبي إن “الجزائر مورد مهم وموثوق به للغاز نحو أوروبا. ونظراً لأن العلاقة مع روسيا، أكبر مورد للغاز للاتحاد الأوروبي حتى الآن، قد انقطعت بشكل لا رجعة فيه، فإننا نتجه إلى موردي الاتحاد الأوروبي الموثوق بهم لسد الفجوة” وفق تعبيرها.
ويبدو أن هذه السردية والرؤية الأوروبية تتفق مع ما تسعى الجزائر إليه؛ حيث أعرب المسؤولون الجزائريون في أكثر من مناسبة عن سعي بلادهم “لبناء شراكة مع أوروبا تكون ذات جدوى أكبر ويمكن الاستفادة منها بأوسع شكل”، بمعنى أن الشراكة لا يجب أن تكون مؤقتة وتابعة للظروف كما هو الحال الآن، بل يجب أن تقوم على استراتيجية متكاملة بعيدة المدى. ويُمكن للجزائر في هذا الصدد، بحسب تقرير لبي بي سي في 19 أكتوبر 2022، أن تصدر 10 مليارات متر مكعب إضافية من الغاز إلى أوروبا، لكن الجزائر ترغب في أن تشمل هذه الشراكة أبعاداً جديدة مثل تصدير الكهرباء الخضراء، وهي اعتبارات تزيد المكاسب الجزائرية خصوصاً في ضوء ارتفاع أسعار الطاقة.
2- تنويع التحالفات الخارجية: يجد المتابع للموقف الجزائري من الحرب بشكل عام، أن هذا الموقف جاء استمراراً لسياسات الرئيس عبد المجيد تبون التي استهدفت بشكل رئيسي “تنويع التحالفات الخارجية” للجزائر، وتجاوز فكرة التبعية للمحور الغربي وخصوصاً فرنسا، وهو النهج الذي ساد خلال حقبة الرئيس الأسبق عبد العزيز بوتفليقة. وقد سعت الجزائر في هذا السياق إلى زيادة التقارب العسكري مع روسيا، وهو التقارب الذي كانت آخر تجلياته متمثلةً في التمارين التكتيكية التي عقدتها بحرية البلدين خلال شهر أكتوبر الجاري، تمهيداً لعقد مناورات مهمة تحت مسمى “درع الصحراء” في الشهر المقبل بالقرب من الحدود مع المغرب. وكانت الجزائر قد شاركت الشهر الماضي بنحو 100 جندي في مناورات “فوستوك 2022” العسكرية، التي جرت في أقصى شرق البر الرئيسي لروسيا، وهي تمارين سنوية يشارك فيها حلفاء موسكو المقربون.
ويُضاف إلى ما سبق تحول الجزائر في السنوات الأخيرة إلى واحدة من أهم الدول المستوردة للأسلحة الروسية؛ حيث وقعت الجزائر في العام الماضي صفقات سلاح تجاوزت قيمتها 7 مليارات دولار مع روسيا، فضلاً عن أن روسيا اختصت الجزائر ببعض المقاتلات التي لم تُصدرها لأي دول أخرى مثل "سوخوي 57".
لكن اللافت أن الجزائر بالتزامن مع هذه التحركات العسكرية مع روسيا، أجرت تدريبات عسكرية مشتركة مع إحدى السفن الحربية الأمريكية التي رست في ميناء “جيجل” شرق الجزائر لتنفيذ التدريب المشترك بعنوان “تبادل الخبرات في مجال نزع الألغام”؛ وذلك وفقاً لما أعلنته وزارة الدفاع الجزائرية في الفترة 14 – 19 سبتمبر الماضي، وفي الخامس من أكتوبر الجاري أجرى الرئيس الألماني فرانك شتاينماير، مباحثات هاتفية مع نظيره الجزائري عبد المجيد تبون، وتم خلال هذه المباحثات تأكيد حرص برلين على رفع مستوى العلاقات التي تربطها بالجزائر.
3- إدارة العلاقات مع الدول الغربية: لا يمكن عزل التحركات الجزائرية في الملف الأوكراني عن معادلة العلاقات الجزائرية الغربية؛ إذ يبدو أن الجزائر تستخدم الملف الأوكراني وتداعياته، وكذلك العلاقات مع روسيا، من أجل إدارة العلاقات مع الدول الغربية، وخصوصاً مع التوترات التي شهدتها هذه العلاقات خلال السنوات الأخيرة. ولعل النموذج الأبرز على ذلك العلاقات الجزائرية–الفرنسية.
كما تعد روسيا ورقة مهمة بالنسبة للجزائر في علاقاتها مع الولايات المتحدة، وخصوصاً أن الجزائر تعتقد أن واشنطن اتخذت سياسات منحازة للمغرب خلال السنوات الأخيرة، كما تواجه الجزائر بين الحين والآخر انتقادات من قبل السياسيين الأمريكيين؛ فعلى سبيل المثال، تقدم 27 عضواً من أعضاء الكونغرس الأمريكي بقيادة العضوة الجمهورية ليزا ماكلين، في 29 سبتمبر 2022، برسالة إلى وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن يطالبونه فيها بتفعيل قانون “مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات”، الذي أقره الكونغرس في عام 2017؛ وذلك من أجل فرض عقوبات على الجزائر بسبب تعاونها العسكري مع روسيا.
4- الاستفادة من الدور الروسي في القضايا الإقليمية: يمكن القول إن الجزائر تحاول الاستفادة من علاقاتها مع موسكو في القضايا الإقليمية المهمة بالنسبة لها؛ وذلك على غرار قضية الصحراء المغربية، وكذلك العلاقات مع روسيا! فالجزائر تحاول استدعاء الدور الروسي كدور موازن لأدوار الدول الغربية المختلفة في قضية الصحراء، وخصوصاً أن الشهور الماضية شهدت تعبير بعض الدول مثل أسبانيا عن دعمها الموقف المغربي، كما يبدو أن ثمة تقارباً في وجهات النظر بين موسكو والجزائر حول ضرورة إعادة دمج النظام السوري في السياق العربي.
5- تفعيل الدور الجزائري إقليمياً ودولياً: مثلت فكرة استعادة الدور الفعال إقليمياً ودولياً، أحد الأهداف الرئيسية للسياسة الخارجية الجزائرية في عهد الرئيس عبد المجيد تبون، خصوصاً في ظل الأوضاع المضطربة التي تعيشها دول الجوار الإقليمي، وكذا تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، خصوصاً على مستوى الطاقة؛ الأمر الذي جعل الجزائر قبلة للعديد من الأطراف والقوى الدولية. في هذا السياق كان التعاطي الجزائري مع الحرب في أوكرانيا “متوازناً” و”نشطاً”، ويُركز على أولوية الحلول السياسية، وهي مقاربة أكسبت هذا الدور فاعلية أكبر.
في الختام، يمكن القول إن الجزائر كانت من القوى الدولية التي استثمرت الحرب الروسية الأوكرانية من أجل تعظيم دورها في المشهد العالمي، خصوصاً مع تحول الجزائر إلى وجهة طاقوية آمنة ومحتملة بالنسبة للدول الغربية، في ضوء ما تملكه البلاد من احتياطات طاقة كبيرة، قد تمثل بديلاً للغاز الروسي؛ ولذلك نجحت الجزائر في استخدام معطيات الحرب الأوكرانية من أجل إدارة علاقاتها مع الدول الغربية، وخصوصاً تلك التي كانت تجمعها بها علاقات متوترة خلال السنوات الأخيرة.