بعد جولات من المفاوضات الدبلوماسية الدقيقة، التي استمرت نحو عامين، أنجز أخيراً اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة بوساطةٍ أميركية، وبمباركة خاصة من رئيس الولايات المتحدة جو بايدن، الذي وصفه "بالتاريخي". وعبّر عن ذلك في اتصالٍ برئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال عون، الذي أكّد أن مسألة "الترسيم" تقنية بحته، وليست ذات أبعاد سياسيةٍ.
أما الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، فرأى من جهته، أن هذا الإنجاز، هو "انتصار كبير" للبنان. كذلك، كان نصب عين التيار الوطني الحر، الذي دفع الحكومات اللبنانية، منذ أكثر عقد، إلى استصدار المراسيم الخاصة بإطلاق أعمال التنقيب عن الغاز في المياه الإقليمية اللبنانية وتحديد البلوكات، لاستخراج هذا الغاز.
بعد تحقيق هذا الإنجاز عقد الرئيس عون العزم على استكمال ترسيم الحدود البحرية مع الدولتين الصديقتين المحاذيتين للبنان، أي سوريا وقبرص. لذا أطلق مسار التفاوض مع قبرص، لمعالجة وضع الحدود البحرية بين البلدين، بعد ترسيم الحدود البحرية الجنوبية.
كذلك أجرى الرئيس عون اتصالاً بنظيره السوري الرئيس بشار الأسد، في الأيام القليلة الفائتة، للغاية عينها، وطلب موعداً سريعاً من الرئيس الأسد لزيارة وفد لبناني دمشق، كان سيرسله الرئيس عون في آخر أيام ولايته الدستورية، لبحث مسألة "الترسيم".
ونقلت وسائل إعلام أن الموعد حُدد في 26 تشرين الأول/أكتوبر 2022، غير أن وزارة الخارجية السورية، بعثت بكتابٍ إلى سفارتها في بيروت، طلبت فيه إبلاغ الجانب اللبناني تأجيل الموعد إلى وقت لاحقٍ، وهو استغله الإعلام المعادي لسوريا ولعهد الرئيس عون، بعدما عُدّ "صفعة للعهد"، والهدف التشويش على إنجاز اتفاق "الترسيم"، وتحريض الشارع المؤيّد للرئيس اللبناني على الحكومة السورية في آن واحد.
إثر ذلك، ولقطع الطريق على المصطادين في "الماء العكر"، أوضح السفير السوري لدى لبنان علي عبد الكريم علي "أن الموعد لم يلغَ وسيُحدّد موعد آخر". وفي السياق عينه، قال الرئيس عون "إن لدى الجانب السوري ملء الإرادة للتفاوض في شأن ترسيم الحدود، والرئيس الأسد قابَل هذا الموضوع بالموافقة".
إذاً ما حقيقة هذا "التأجيل"، هل رفضت دمشق استقبال الوفد اللبناني، لأن "الاستفاقة اللبنانية" تجاه سوريا، جاءت في آخر أيام ولاية الرئيس عون، ولأن الحكومات اللبنانية المتعاقبة طوال الأعوام الستة الفائتة من العهد الحالي، لم تقدم على أي خطوةٍ تذكر على خط تطوير العلاقات الثنائية اللبنانية-السورية، بالتالي فإن دمشق لا ترغب في تلقف هذه الاستفاقة في أواخر أيام "العهد العوني"؟
من هنا، ومن خلال بعض ما تقدّم، فإن منطق الأمور يقود نحو الآتي: لم ترفض دمشق قط زيارة الوفد اللبناني المذكور، بدليل أن الرئيس الأسد أبدى استجابة لطلب الرئيس عون "الترسيم" وعبّر عن رغبةٍ سوريةٍ في ذلك، وهذه الأجواء الإيجابية نقلتها أوساط قصر بعبدا عقب الاتصال مباشرةً، الذي جرى بينهما في الأيام القليلة الفائتة، ثم أكدها الرئيس عون.
ولكن من البديهي أن ترسيم الحدود لا يجري إطلاقاً على طريقة "كن فيكون"، فهذا الأمر يتطلب بعض الوقت، كي تدرس الجهات المعنية السورية ملف "الترسيم"، وكي يتسنّى لها انتقاء الوفد المفاوض المختص في هذا الشأن، لذا فإن "موعد الأربعاء"، الذي طلبه الوفد اللبناني، لا يعطي الجانب السوري متّسعاً من الوقت كي يعد ملفه، فأجّلت دمشق الموعد.
ومعلوم أن سوريا لا تفقه إلا التعاطي بمنطق المؤسسات في علاقاتها الدولية، ولا تعرض أي ملف من باب "الاستعراض"، وعادةً عندما تبدأ بحل أي ملفٍ عالقٍ، تمضي في طريق الحل المرتجى لهذا الملف حتى النهاية، وهذا الأمر يتطلب أن تتوافر له الأجواء السياسية الملائمة الثابتة والمستقرة، وبوضوح أكثر، لا تريد دمشق الدخول في "متاهات دبلوماسية" مع لبنان، خصوصاً في هذه المرحلة الانتقالية الضبابية التي يشهدها لبنان راهناً، فهي غير واضحة المعالم تماماً حتى الساعة، بالتالي، ربما تنتقل السلطة فيه إلى جهة معادية لسوريا، وعندئذ توقف المحادثات حتماً مع دمشق في شأن "الترسيم" وسواه، مع أن هذا الاحتمال ضئيل جداً، وعلى الرغم من تأكيد الجانب اللبناني أنه لن ينهي مفاوضات "الترسيم" مع قبرص، قبل انتهائها مع سوريا.