قامت القوات الروسية خلال شهر أكتوبر 2022، بشن عدد من الهجمات الصاروخية في مناطق متفرقة بأوكرانيا، وهي الأوسع نطاقاً والأكثر فتكاً منذ بداية الحرب في فبراير الماضي. وتبنت روسيا استراتيجية فريدة من نوعها خلال هذه الهجمات، فمن ناحية حرصت على أن يتم إطلاق الصواريخ بصورة مكثفة خلال فترات الليل، كما حرصت على استهداف البنى التحتية، كمنشآت الطاقة، ومحطات توليد الكهرباء، وهو ما أدى في النهاية إلى انقطاع التيار الكهربائي في جميع أنحاء البلاد لفترات طويلة. وتؤكد روسيا من خلال هذه الهجمات، أن موسكو لن تتراجع عن تهديداتها السابقة، التي حذرت خلالها من قيام كييف باستهداف جسر القرم. وعلى الرغم من تبني روسيا استراتيجية جديدة في حملتها العسكرية ضد أوكرانيا، فإن النصر الروسي لم يتحقق حتى الآن، وهو ما يطرح عدداً من الأسئلة حول مدى قدرة الهجمات الصاروخية الروسية الحالية على تحقيق تقدم عسكري روسي ملموس في أوكرانيا، وخصوصاً في ظل الطموحات العسكرية المتزايدة لكييف لاستعادة بعض المناطق الاستراتيجية من روسيا مثل خيرسون.
ملامح الهجمات
أظهرت التحركات العسكرية الروسية الأخيرة في أوكرانيا تحولاً في طبيعة العمليات العسكرية، مع التركيز بصورة أساسية على استهداف البنى التحتية، وشل الحركة المدنية في عدد من الأجزاء التي تسعى للسيطرة عليها، في تكرار لسيناريو الحرب الروسية–الشيشانية. بيد أن الضربات الصاروخية الروسية الحالية في روسيا، تختلف عن الضربات الروسية السابقة في كونها قد تؤدي لنتائج كارثية على الداخل الأوكراني والأوروبي ككل، ويمكن القول إن أهم أهداف هذه الهجمات الصاروخية تتمثل فيما يلي:
1- تحذير كييف من استهداف المناطق الاستراتيجية لموسكو: تعكس الهجمات الصاروخية الروسية محاولة موسكو وضع خطوط حمراء لأوكرانيا وتحذيرها من مغبة استهداف مناطق استراتيجية بالنسبة لموسكو، ولعل هذا ما يفسر رد الفعل الروسي العنيف عقب حادث تفجير جسر القرم، يوم 8 أكتوبر 2022، الذي يربط الأراضي الروسية بشبه جزيرة القرم، كما يعتبر الجسر طريق الإمداد الرئيسي للقوات الروسية على جبهة خيرسون. وفي هذا السياق، سارعت موسكو، وبعـد يـوم مـن اتهـام الرئيس الروسـي “بوتيـن” أوكرانيـا بالإرهاب بسـبب هجـوم علـى جسـر القـرم، بتنفيذ هجمات صاروخية ضد العاصمة الأوكرانية كييــف ومــدن رئيســية أخــرى؛ وذلـك يـوم 10 أكتوبـر الفائت. وتضمنـت الهجمـات اســتهداف منشآت بنيــة تحتيــة أوكرانيــة، وخاصــة فــي مجالات الطاقــة والاتصالات والدفــاع. كما نفذت موسكو هجمات مماثلة على مناطق أوكرانية للرد على هجمات المسيرات التي استهدفت الأسطول الروسي في خليج سيفاستوبول في شبه جزيرة القرم، يوم 29 أكتوبر الفائت، والتي اتهمت فيها موسكو كل من أوكرانيا وبريطانيا بالوقوف وراءها.
2- إضعاف البنية التحتية للطاقة في أوكرانيا: تكشف الهجمات الصاروخية للجيش الروسي خلال شهر أكتوبر عن استهداف البنى التحتية بكافة المدن الأوكرانية، خاصة المرتبطة بتوليد الطاقة. وقد قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن هذا الهجوم جاء رداً على الانفجار الذي وقع على الجسر الوحيد المؤدي إلى شبه جزيرة القرم. وأدت الهجمات إلى انقطاع الكهرباء عن نحو 1.5 مليون منزل أوكراني، مع تدمير ما يقرب من ثلث محطات الكهرباء الأوكرانية وغيرها من المنشآت المولدة للطاقة، وقد نجحت السلطات في استعادة الكهرباء في بعض المنازل، وسارع المهندسون لإصلاح الشبكة المدمرة ونصح البعض أيضاً السكان بتخزين المياه في حالة حدوث أي انقطاع.
وفي هذا الصدد، أشار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، يوم 18 أكتوبر الفائت، إلى أنه منذ 10 أكتوبر 2022 دمرت روسيا 30% من محطات الطاقة الأوكرانية. ودعا زيلينسكي المستهلكين إلى الحد من استخدامهم للطاقة بين الساعة 7 صباحاً و11 صباحاً يومياً، وتجنب استخدام الأجهزة التي تستهلك الكثير من الطاقة مثل السخانات الكهربائية.
كما أشار “أوليكسي كوليبا” حاكم منطقة كييف، في فيديو على تيليجرام يوم 27 أكتوبر الفائت، إن المنطقة، بما في ذلك العاصمة الأوكرانية نفسها، تواجه عجزاً بنسبة 30% في طاقة توليد الكهرباء التي تحتاجها بعد ضربات روسية استهدفت البنية التحتية للكهرباء يوم 26 أكتوبر الفائت. وذكر في الفيديو أن روسيا دمرت "الليلة الماضية منشآت البنية التحتية للطاقة في منطقتنا. تم تعطيل عدد من المرافق الحيوية".
3- العمل على تعطيل حركة النقل: قالت شركة التشغيل والنقل الحكومية الأوكرانية “أوكرنرجو”، خلال شهر أكتوبر الفائت، إن الهجمات استهدفت البنية التحتية للنقل في غرب أوكرانيا، ويأتي ذلك بالتزامن مع فرض روسيا قيوداً على إمدادات الطاقة في 10 مناطق أوكرانية، وهو ما دفع السلطات في هذه المناطق إلى تخفيض استهلاكها للكهرباء بنسبة تصل إلى 20%، بما في ذلك العاصمة كييف. ويتوقع بعض المحللين أن يزيد حجم الضرر مع زيادة الهجمات الصاروخية الشرسة للقوات الروسية.
4- تحجيم التحركات العسكرية للقوات الأوكرانية: حيث سعت موسكو، من خلال هجماتها الصاروخية الأخيرة، إلى تحجيم التحركات العسكرية للقوات الأوكرانية، وخاصة أن القوات الأوكرانية نجحت في تحقيق بعض المكاسب العسكرية خلال الفترة الماضية؛ فعلى سبيل المثال، أعلن الجيش الأوكراني دخول مدينة ليمان، يوم 1 أكتوبر الفائت، وهي مدينة استراتيجية مهمة تقع في دونيتسك، وتُعَد مركز تقاطع مهماً للسكك الحديدية في شرق أوكرانيا. كما تشهد جبهة خيرسون حشوداً عسكرية أوكرانية تستهدف استعادة المدينة من روسيا؛ وذلك في ضوء التصريحات المتتالية من قبل المسؤولين الأوكرانيين المتعلقة بإصرارهم على استعادة الأراضي الأوكرانية؛ إذ ذكر وزير الدفاع الأوكراني أوليكسي ريزنيكوف، في مقابلة مع “هيئة الإذاعة اليابانية (إن إتش كيه)” يوم 26 أكتوبر الفائت، أن "المرحلة الأولى كانت ردع القوات الروسية، وتمثلت المرحلة الثانية في تحقيق الاستقرار على الجبهة. أما المرحلة الثالثة – وهي الجارية حالياً – فهي حملة الهجوم المضاد، التي تستعيد القوات الأوكرانية من خلالها الأراضي".
محددات التأثير
تؤكد هذه الهجمات سعي روسيا لاختبار استراتيجية عسكرية جديدة، كما أنها تشير إلى رغبة روسية ملحة في الحسم وتحقيق قدر من التقدم قبيل حلول الذكرى السنوية الأولى لعمليتها العسكرية في أوكرانيا. ولكن تشير المعطيات على الأرض إلى أن ساعة الحسم لم تأتِ بعد، وأن العالم على صدد الدخول في فصل جديد من الحروب الممتدة الكارثية. وفي هذا الإطار يمكن القول إن قدرة الهجمات الصاروخية على التأثير العسكري مرتبطة بعدد من المحددات المتمثلة فيما يلي:
1- استمرار الدعم النوعي الأمريكي لأوكرانيا: اتفق الرئيس الأمريكي مع نظيره الأوكراني على تزويد القوات الأوكرانية بأنظمة جوية متقدمة بعد تعرضها لوابل من الهجمات الصاروخية المدمرة من روسيا. وقد أكد الرئيس بايدن في اتصال هاتفي، يوم 10 أكتوبر الفائت، استمرار الدعم الأمريكي لكييف، وإدانته الهجمات الصاروخية الروسية ضد المدنيين الأوكرانيين، حيث وصفها بأنها “هجمات حمقاء”. وصدر بيان عن البيت الأبيض في أعقاب هذه المكاملة لتأكيد مواصلة واشنطن تقديم الدعم اللازم لتذود أوكرانيا عن نفسها في مواجهة هذا العدوان الروسي. وكانت الولايات المتحدة قد قدمت أكثر من 16.8 مليار دولار مساعدات أمنية منذ بدء الحرب في شهر فبراير مع فرض عقوبات اقتصادية واسعة على موسكو بسبب توسيعاتها العسكرية.
هذا الدعم العسكري الأمريكي لأوكرانيا يكتسب أهمية كبيرة لأنه قد يوفر لكييف أنظمة دفاع تقوض تأثير الصواريخ الروسية، وكذلك الهجمات بالمسيرات. وفي هذا الإطار، أشارت تقارير، يوم 26 أكتوبر الفائت، إلى أن الولايات المتحدة “تدرس إرسال معدات دفاع جوي (قديمة) من طراز (هوك HAWK) من المخازن إلى أوكرانيا، لمساعدتها في صد الهجمات الروسية التي تستخدم الطائرات المسيرة وصواريخ كروز”. وبحسب وكالة رويترز فإن معدات “هوك” تعتمد على تكنولوجيا حقبة فيتنام، ولكن تمت ترقيتها عدة مرات.
وتجدر الإشارة إلى أن كييف كانت تضغط خلال الشهور الأخيرة على واشنطن لتزويدها بنظام الدفاع الصاروخي باتريوت، وهو أمر يواجه عقبات رئيسية، وخاصة مع التكلفة الهائلة للنظام، كما أن تشغيل البطارية الواحدة من النظام يتطلب عدداً كبيراً من الجنود المدربين (نحو 70 جندياً) وهو أمر لا يتوافر في الوقت الراهن.
2- مواصلة تقديم أوروبا الأسلحة لكييف: تعهد عدد من القادة الأوروبيين بتقديم مزيد من الدعم العسكري لكييف؛ فقد قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إن الدول الأوروبية سترسل إلى أوكرانيا المزيد من المعدات العسكرية لدعم جهودها الحربية ضد روسيا. وستشمل المعدات مدافع هاوتزر فرنسية من طراز “قيصر”. كما وعدت وزارة الدفاع الألمانية بمنح أوكرانيا منظومات دفاع جوي متطورة، وسلمت ألمانيا كييف، خلال شهر أكتوبر الفائت، نظام الدفاع الجوي إيريس–تي الألماني، الذي يمكن أن يساعد في مواجهة بعض الصواريخ الروسية مثل كاليبر. وبالرغم من أهمية هذه الأنظمة، فإن مشكلة كييف تبدو في التعامل مع الصواريخ الروسية الأكبر مثل إسكندر؛ ولذلك تطمح كييف إلى الحصول على نظام باتريوت الأمريكي.
3- تقييد التكلفة المادية توسع روسيا في هجماتها الحالية: نقلت وكالة “رويترز” عن عدد من الخبراء الاستراتيجيين والعسكريين الغربيين قولهم بأن الهجمات الصاروخية الروسية الحالية غير المسبوقة، لن تحقق تطلعات الرئيس الروسي لحسم المعركة، على الأقل على المدى القصير. ويعود ذلك إلى عدد من الأسباب أهمها تكلفتها المادية واللوجستية الباهظة. وتقدر تكلفة كل صاروخ كروز من طراز كاليبر بأكثر من 6.5 مليون دولار؛ ما يعني أن موسكو أطلقت صواريخ بقيمة مليارات الدولارات خلال شهر أكتوبر فقط. وعلى الرغم من عدم امتلاك المحللين العسكريين الغربيين أرقاماً مؤكدة حول عدد الصواريخ التي تمتلكها روسيا في الوقت الحالي، فإن الخبراء يؤكدون أن هذه الترسانة العسكرية ستتراجع بصورة كبيرة إذا استمرت موسكو في تبني ذات الاستراتيجية حتى نهاية عام 2022.
وفي هذا الصدد، تشير بعض التقارير الغربية إلى أن روسيا تستخدم بشكل متزايد الصواريخ المضادة للسفن لضرب أهداف على الأرض. ويشير هذا السلوك إلى أن موسكو مضطرة إلى اللجوء لأدوات عسكرية أخرى بعيدة عن صواريخ كروز، التي تم استنزافها على مدار أشهر الحرب الماضية. وعلى الرغم من التكلفة الباهظة لهذه الصواريخ، فإنها لم تنجح في إصابة وتدمير أهداف عسكرية أوكرانية رئيسية، ومن غير المرجح أن تغير مسار الحرب لصالح تحقيق الأهداف الروسية بصورة كاملة.
4- مدى الدعم التسليحي لروسيا من الحلفاء: كشفت بعض التقارير الميدانية عن ظهور بعض الأسلحة الإيرانية في ساحة المعارك في أوكرانيا، وخصوصاً مع الهجمات التي ضربت العاصمة كييف بطائرات “كاميكازي” مسيرة إيرانية الصنع، يوم 17 أكتوبر الفائت، واستهدفت البنية التحتية الحيوية في مناطق مختلفة. وفي هذا الصدد، ربما تعمل موسكو على تعويض النقص في مخزون الصواريخ لديها من خلال الحصول على الدعم من حلفائها؛ إذ تشير بعض التقارير إلى أن إيران قد تزود موسكو بصواريخ باليستية قصيرة المدى وطائرات مسيرة.
5- قدرة موسكو على تعزيز قواتها البرية: بالرغم من أهمية الاستهداف الصاروخي والجوي في تحجيم تحركات القوات الأوكرانية، فإن القوات البرية تظل محدداً هاماً في الحرب؛ ولذا فإن نجاح موسكو في تحقيق أهدافها العسكرية يتطلب توفير عناصر موجودة على الأرض قادرة على فرض السيطرة عسكرياً. وفي هذا الإطار، يراهن الرئيس بوتين على قرار التعبئة الجزئية الذي أصدره في شهر سبتمبر الماضي. وربما أيضاً يحصل على دعم من قبل حلفائه في الشيشان وبيلاروسيا، ناهيك عن الدور الذي تقوم به مجموعة فاغنر العسكرية في أوكرانيا.
خلاصة القول أن استراتيجية الهجمات الصاروخية – بالرغم من المكاسب التي يمكن أن تحققها من خلال إضعاف التحركات العسكرية الأوكرانية أو على أقل تقدير إثارة المخاوف لدى المواطنين الأوكرانيين – تنطوي على بعض الإشكاليات بالنسبة لموسكو في ظل التكلفة المرتفعة لهذه الهجمات وتأثيرها السلبي على مخزون التسليح الروسي، وخصوصاً إذا امتدت الحرب لفترة زمنية أطول؛ ولذلك يحتمل أن تلجأ موسكو إلى الحصول على دعم من الدول الحليفة على أقل تقدير لتعزيز نفوذها على المناطق الخاضعة لها في شرق أوكرانيا؛ حتى لا تضطر موسكو للتنازل عنها مرة أخرى إلى أوكرانيا، في حالة اللجوء إلى طاولة المفاوضات، التي لا تُعتبر – وفقاً للممارسات الدبلوماسية التاريخية السابقة – إلا أداة لترجمة نتائج الحروب على الأرض.