بدأت المباحثات الرسمية المباشرة بين الحكومة الإثيوبية وجبهة تحرير تيغراي، في 24 أكتوبر 2022، بواسطة الاتحاد الأفريقي في جنوب أفريقيا، وذلك بعدما كان من المفترض أن تنطلق هذه المباحثات مطلع الشهر نفسه. وعلى الرغم من إجراء المفاوضات، فإن فرص نجاحها لاتزال محدودة، في ظل استمرار القتال بين الجانبين واختلال الميزان العسكري لصالح الحكومة الإثيوبية وحلفائها.
تطورات المشهد العملياتي:
شهدت الأسابيع الأخيرة تطورات مهمة على المشهد العملياتي، قد تشكل محدداً مهماً في مسار المفاوضات الراهنة بجنوب أفريقيا، ويمكن عرض هذه التطورات على النحو التالي:
1- تقدم متواصل للقوات الإثيوبية: تمكنت القوات الإثيوبية والإريترية من تحقيق تقدم متواصل في مواجهة قوات تيغراي خلال الأسابيع الأخيرة. ففي منتصف أكتوبر الفائت، تمكنت القوات الإثيوبية من انتزاع السيطرة على بلدة "شاير" الاستراتيجية من جبهة التيغراي، قبل أن تنجح أيضاً في السيطرة على مدينتي "عدوة و"أكسوم"، بالإضافة إلى بلدة "أديغرات"، وهو ما عزز من تقدم قوات أديس أبابا نحو ميكلي، عاصمة التيغراي، وذلك على الرغم من وجود ضغوط غربية راهنة على أديس أبابا لوقف إطلاق النار.
2- انسحاب تيغراي المحتمل من ميكيلي: شهدت الآونة الأخيرة انسحاب التيغراي من المناطق التي كانت تسيطر عليها في إقليمي الأمهرا والعفر، وتمركزها داخل اقليم التيغراي، وذلك قبل أن تتكبد خسائر متكررة خلال الأيام الأخيرة على عدة جبهات، حتى أن هناك بعض التقارير الغربية لم تسبعد احتمالية أن يعمد قادة الجبهة إلى الانسحاب وإخلاء عاصمة الإقليم ميكيلي، والعودة إلى الجبال لتبني تكتيكات حرب العصابات، على غرار ما حدث في نوفمبر 2020، بعد تقدم القوات الإثيوبية آنذاك، وهي التكتيكات التي تجيدها قوات تيغراي، حيث تمتلك خبرة واسعة فيها من تسعينيات القرن الماضي.
3- فتح جبهة جديدة ضد الأورومو: أشارت تقارير إلى تمدد الصراع الداخلي، فلم تعد القوات الحكومية الإثيوبية تقاتل فقط ضد جبهة تحرير تيغراي، لكن يبدو أنها اتجهت للتصعيد كذلك ضد جماعات أخرى متمردة في الأورومو، حيث شنّت الطائرات المسيرة الإثيوبية، في 22 أكتوبر 2022، عدة غارات ضد مناطق داخل إقليم الأورومو.
مشهد مضطرب:
عكست المباحثات التي تستضيفها عاصمة جنوب أفريقيا، بريتوريا، بين وفدي الحكومة الإثيوبية وجبهة تيغراي جملة من الدلالات المهمة التي تعكس ملامح المشهد الداخلي المضطرب، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
1- إطالة أديس أبابا أمد المفاوضات: على الرغم من الإعلان عن انطلاق المباحثات المباشرة بين طرفي الصراع في جنوب أفريقيا، في 24 أكتوبر الفائت، فإن الوفد الحكومي برئاسة كبير مفاوضيها ونائب رئيس الوزراء الإثيوبي، ديميكي ميكونين، كان قد تأخر في الوصول إلى بريتوريا، الأمر الذي أدى إلى تأجيل الاجتماعات لليوم التالي. ويرتبط ذلك بمساعي الحكومة الإثيوبية لكسب مزيد من الوقت، في ظل التقدم الميداني الذي تحرزه حالياً القوات الإثيوبية والإريترية، خاصة مع إعلان جنوب أفريقيا وضع سقف زمني لنهاية الجولة الأولى من المفاوضات، وهو 30 أكتوبر الفائت.
وتأتي هذه المباحثات بين أديس أبابا وميكيلي برعاية الاتحاد الأفريقي، ويتضمن فريق الوساطة المبعوث الخاص للاتحاد الأفريقي، أولوسيجون أوباسانجو، والرئيس الكيني السابق، أوهورو كينياتا، بالإضافة إلى النائبة السابقة لرئيس جنوب أفريقيا، فومزيل ملامبو.
2- مباحثات جيبوتي وسيشل: جاءت المباحثات المباشرة الراهنة بعد سلسلة من اللقاءات غير المعلنة بين الطرفين في جيبوتي وسيشل، وذلك من خلال المبعوث الأمريكي الخاص لمنطقة القرن الأفريقي، مايك هامر.
وتحظى المباحثات الراهنة بين أديس أبابا وميكيلي بدعم أمريكي واضح، فقد دعا وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، الأطراف الإثيوبية إلى الانخراط بجدية في المفاوضات الراهنة للتوصل إلى حل دائم للصراع. ووصل وفد جبهة تيغراي، الذي يقوده الجنرال تسادكان جيبريتينسا، إلى جنوب أفريقيا من خلال طائرة عسكرية أمريكية، برفقة المبعوث الأمريكي الخاص لمنطقة القرن الأفريقي، مايك هامر.
3- إضفاء السرية على المفاوضات: أشارت بعض التقارير الغربية إلى أن هناك درجة من التكتم التي تهيمن على المفاوضات الحالية، في ظل تجنب كافة الأطراف الحديث عن أي تفاصيل تتعلق بالموضوعات المدرجة على جدول أعمالها، أو سير العملية التفاوضية، حتى الآن.
4- تراجع الدور الغربي: يشكل الدعم الخارجي من قبل بعض القوى الدولية للحكومة الإثيوبية محفزاً للأخيرة للتنصل من أي مفاوضات مع تيغراي، فقد قدمت الدول الأفريقية الموجودة في الدورة الحالية لمجلس الأمن الدولي، وهم كينيا والجابون وغانا، بياناً كان يهدف إلى دفع المجلس للتعبير في قلقه البالغ من تجدد الأعمال العدائية واستمرار الأزمة الإنسانية في منطقة تيغراي، بيد أن الاعتراض الروسي والصيني أدى إلى منع صدر البيان، وهو ما أثار حفيظة مندوبة الولايات المتحدة الدائمة لدى الأمم المتحدة، ليندا توماس جرينفيلد.
وفي هذا السياق، نظمت الحكومة الإثيوبية تظاهرات حاشدة في أديس أبابا للتنديد بما وصفته بالتدخل الدولي في الشأن الإثيوبي، حيث تم رفع الأعلام الروسية خلال هذه التظاهرات، في إشارة ضمنية إلى إمكانية أن تلجأ إثيوبيا للتقارب مع موسكو حال استمرار الضغوط الغربية بشأن وقف القتال ضد التيغراي.
وشهدت الفترة الأخيرة تصاعد ضغوط الكونغرس الأمريكي لدفع واشنطن موقف أكثر صرامة ضد المسؤولين الإثيوبيين، بالتوازي مع الغضب الأوروبي من أديس أبابا بسبب رفضها دعوة الاتحاد ليكون مراقباً في محادثات السلام الراهنة في جنوب أفريقيا، وهو ما يعد مؤشراً آخر عن سعي الحكومة الإثيوبية لمواصلة العمليات العسكرية ضد جبهة تيغراي لحسم الصراع عسكرياً، وليس دبلوماسياً.
5- تفاقم الوضع الإنساني: شهدت المناطق التي سيطرت عليها القوات الإثيوبية والإريترية مؤخراً حالة نزوح جماعي، وهو ما يثير المخاوف من احتمالية حدوث كارثة إنسانية، وهو ما دفع الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، للتحذير، في 17 أكتوبر، من خروج الأوضاع الإنسانية عن السيطرة. كما عبّر المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، فولكر تورك، في أواخر أكتوبر، عن قلقه من التداعيات التي يمكن أن تتمخض عن الهجمات الجوية الراهنة في إقليم التيغراي على المدنيين.
مسارات محتملة:
هناك ثلاثة مسارات رئيسية يمكن أن تسلكها المفاوضات الراهنة بين الحكومة الإثيوبية وجبهة التيغراي في جنوب أفريقيا، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- الحسم العسكري: يفترض هذا المسار ألا تفرز المفوضات الحالية أي تقدم حقيقي في مسار التسوية بين الطرفين، لاسيما في ظل تمسك القوات الحكومية بالتقدم عسكرياً لحسم الصراع عسكرياً، مقابل دعوات جبهة التيغراي بضرورة توقف القتال، فضلاً عن غياب آليات واضحة للاتحاد الأفريقي تمكنه من فرض تسوية حقيقية للصراع.
واستندت التقديرات الداعمة لهذا المسار إلى التصريحات الأخيرة لرئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، والذي ألمح إلى أن الحرب لن تستمر إلى ما لا نهاية، في إشارة ضمنية إلى تمسكه بحسم الصراع عسكرياً خلال الفترة المقبلة، خاصة مع تجنب أحمد الإشارة إلى المفاوضات الجارية مع تيغراي في جنوب أفريقيا. وفي المقابل، أعلن زعيم جبهة التيغراي، ديبريتسيون جبريميكائيل، أن قوات التيغراي قادرة على إلحاق الهزيمة بالقوات الإثيوبية والإريترية التي تتقدم نحو إقليم تيغراي، وهو ما يكشف عن وجود إدراك لديه بعدم جدية الجولة الحالية من المفاوضات.
2- توافقات جزئية: تمارس الولايات المتحدة ضغوطاً على طرفي الصراع الإثيوبي، خاصةً جبهة تيغراي، من أجل التوصل إلى تسوية لهذا الأزمة، وهو ما يمكن أن يدفع طرفي الصراع للقبول بفكرة الاتفاق الجزئي، من أجل تجنب أي عقوبات أمريكية، كما يمكن أن تدفع الخسائر الحالية لجبهة تيغراي أن تقبل بفكرة تقديم بعض التنازلات التي يمكن أن تسهم في بلورة هذه التوافقات.
وحتى في حالة التوصل لهذه التوافقات الجزئية، فهذا لا يعنى أنها ستنهي بشكل فوري العمليات العسكرية، كما لا توجد أي ضمانات تجعل إلتزام طرفي الصراع بأي مخرجات محتملة للمحادثات الراهنة أمراً محسوماً.
وفي الختام، تكشف المعطيات الراهنة أن المسار الأكثر ترجيحاً يتمثل في تعثر المفاوضات التي يقودها الاتحاد الأفريقي. وفي هذا السياق، لا يمكن تجاهل دور الرئيس الإريتري، أسياس أفورقي، في إمكانية ترجيح هذا المسار، في ظل تمسك الأخير بالاستمرار في التصعيد العسكري ضد جبهة التيغراي، بغية إضعافها عسكرياً، وهو ما قد يعززه التصريحات المتكررة من قبل أديس أبابا التي تؤكد تمسكها بالسيطرة على كافة المرافق الفيدرالية، بما في ذلك تلك الموجودة في إقليم تيغراي. ومن ناحية أخرى، لا تظهر، حتى الآن، أي بوادر توحي بإحتمالية تراجع القوات الإثيوبية والإريترية وعناصر الأمهرا المتحالفة معهما عن الحصار الراهن ضد جبهة التيغراي، أو وقف التقدم العسكري نحو عاصمة التيغراي ميكيلي.