فاز المرشح الرئاسي لولا دا سيلفا في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية التي شهدتها البرازيل في 30 أكتوبر الفائت بعد حصوله على %50.9 من أصوات الناخبين، متغلباً بذلك على الرئيس المنتهية ولايته جايير بولسونارو، الذي حصل على 49.1% من الأصوات. وتُعد نتيجة هذه الانتخابات غير مسبوقة في تاريخ أكبر دولة في أمريكا اللاتينية؛ وذلك لأسباب عدة، منها أن دا سيلفا فاز بهامش ضئيل للأصوات مقارنةً بمنافسه (بأقل من نقطتين مئويتين)، وهو الأدنى منذ عودة الديمقراطية في البرازيل، إضافة إلى أن بولسونارو هو أول رئيس في تاريخ البرازيل الحديث يفشل في إعادة الفوز بولاية رئاسية ثانية، كما أصبح دا سيلفا أول رئيس برازيلي يُنتخب لولاية رئاسية ثالثة؛ إذ سبق أن فاز بولايتين رئاسيتين (2003 - 2010).
قضايا مُلحة
سيكون على الرئيس المنتخب حديثاً، التعامل مع بعض الملفات والقضايا العاجلة، من أبرزها:
1- مكافحة الفقر والجوع: يُعاني اقتصاد البرازيل من ارتفاع معدل البطالة والتضخم وانخفاض الأجور، وهو ما تسبب في وقوع ملايين البرازيليين في براثن الفقر والبؤس؛ حيث إن أكثر من 33 مليون برازيلي يعانون من الجوع أو انعدام الأمن الغذائي. وقد ساء الوضع الاجتماعي مع جائحة كوفيد–19، التي كشفت عن عمق التحديات التي تواجهها البلاد، وبالتحديد الجوع والصحة والتعليم. وبالنظر إلى أن الفقراء هم من الركائز الأساسية لفوز دا سيلفا، فإنه سيعمل على معالجة المشكلات الاجتماعية التي تُعاني منها البلاد من خلال أجندة اجتماعية تقدمية، قوامها الأساسي زيادة التحويلات النقدية المباشرة، وتوسيع الإسكان الاجتماعي، وتطبيق برنامج الإعفاء من الديون، إضافة إلى تعهده بزيادة الضرائب على الأثرياء.
2- تبني سياسة اقتصادية مسؤولة: سيتركز اهتمام الأسواق العالمية في الفترة المقبلة على السلوك الاقتصادي للحكومة الجديدة، في ظل وجود مخاوف حقيقية من قيام الحكومة التي سيشكلها دا سيلفا بزيادة الإنفاق الاجتماعي بما يتجاوز ما يمكن أن تدعمه الحسابات العامة؛ ما قد يؤدي إلى مزيد من التدهور الاقتصادي وزيادة الدين العام؛ لذلك سيكون التحدي الأكبر للحكومة الجديدة هو التوفيق بين الطلب على المزيد من الإنفاق دون التسبب في أزمة ثقة لدى المستثمرين، والعمل على إنعاش الاقتصاد من أجل زيادة الإنفاق العام دون زيادة العبء الضريبي.
3- حماية غابات الأمازون: تعهد دا سيلفا بإصلاح بيئي لسياسة الحكومة، مع وجود خطط لمنح وضع الحماية الجديد لنصف مليون كيلومتر مربع (193 ألف ميل مربع) من غابات الأمازون المطيرة، ومكافحة إزالة الغابات، ودعم الزراعة المستدامة، كما جعل التحول إلى الاقتصاد الأخضر محوراً رئيسياً لسياسات التنمية التي تقودها الدولة. وتمثل المقترحات البيئية لدى سيلفا انحرافاً جذرياً عن سياسات بولسونارو، الذي تراجع عن حماية الأمازون منذ عام 2019؛ ما سمح بإزالة الغابات إلى أعلى مستوى لها منذ 15 عاماً، كما تتقارب مقترحات دا سيلفا إلى حد كبير مع توجهات بعض القادة اليساريين في تشيلي وكولومبيا، الذين أعطوا الأولوية لسياسة المناخ.
4- استعادة المكانة الدولية للبرازيل: تعرضت مصداقية البرازيل في الخارج للتراجع في ظل حكومة بولسونارو؛ بسبب سياسته المناهضة للبيئة والنساء والأقليات العرقية، كما تبنى سياسات عدائية تجاه بعض الشركاء التجاريين الرئيسيين للبرازيل، وخاصة الاتحاد الأوروبي. وخلال خطاب النصر، أشار دا سيلفا إلى أنه سيستأنف الاستراتيجية البرازيلية التقليدية المتمثلة في تفضيل التعددية، على عكس خيار العزلة أو التقارب مع الحكومات المتحالفة أيديولوجياً التي ميزت حكومة بولسونارو. وتعهد أيضاً باستئناف البرازيل شراكاتها “مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على قواعد جديدة”، وأضاف: “اليوم نقول للعالم إن البرازيل قد عادت. إن البرازيل أكبر من أن تنحصر في الدور المحزن كدولة منبوذة في العالم.” وعليه، ستكون البرازيل بشكل عام أكثر انخراطًا في دبلوماسية المناخ الدولية، وسيعمل دا سيلفا على تعزيز قدرة البلاد على التأثير في المناقشات الإقليمية والدولية.
تحديات جوهرية
من المُرجح أن يواجه دا سيلفا، عندما يتولى رسمياً مهام منصبه في يناير المقبل، جملة من التحديات، يأتي في مقدمتها:
1- الانقسام السياسي والمجتمعي الحاد: فاز دا سيلفا بفارق مليوني صوت عن بولسونارو؛ حيث صوت لصالحه 60 مليون برازيلي، في حين أيد الأخير 58 مليون ناخب، وهو ما يعكس حالة الانقسام العميق الذي تعاني منه البلاد. ومما يزيد هذا الوضع تعقيداً، رفض بولسونارو حتى الآن الإقرار بهزيمته في الانتخابات، وقيام بعض سائقي الشاحنات ومحتجين آخرين بإغلاق بعض الطرق السريعة في البرازيل في احتجاج على ما يبدو على الهزيمة الانتخابية للرئيس بولسونارو؛ لذلك سيتعين على الرئيس المنتخب حديثاً السعي بجدية لاستعادة روح الوحدة والمصالحة بين الشعب البرازيلي، كما أن عليه البدء في الحوار مع قطاعات مهمة مثل الأعمال التجارية الزراعية والناخبين الإنجيليين الذين صوتوا لبولسونارو.
2- المعارضة القوية داخل الكونغرس: على الرغم من هزيمة بولسونارو في الانتخابات، فإن حزبه “الليبرالي المحافظ”، حقق نتائج جيدة للغاية خلال الانتخابات العامة التي جرت في 2 أكتوبر الفائت، وأصبح لديه أكبر عدد من المقاعد في مجلسي الشيوخ والنواب، بإجمالي 112 مقعداً، أي أعلى بـ23 مقعداً، عن منافسه الرئيسي "حزب العمال" بزعامة دا سيلفا. يعني هذا أن الرئيس البرازيلي الجديد سوف تواجهه معارضة قوية داخل الكونغرس ربما ستحد من قدرته على تنفيذ أجندته الانتخابية، خاصة ما يتعلق بمكافحة إزالة الغابات، إضافة إلى سيطرة اليمين على مناصب حكام معظم الولايات البرازيلية؛ حيث سيحظى دا سيلفا بدعم صريح من 10 فقط من أصل 27 حاكماً.
3- بيئة اقتصادية غير مواتية: ستكون أولوية الحكومة التي سيشكلها دا سيلفا، إيجاد مصادر دخل للبرامج الاجتماعية المقترحة والاستثمارات في البنية التحتية، لكن هذا لن يكون بالمهمة السهلة في ظل الوضع الاقتصادي الصعب؛ بسبب الوباء وآثاره، والحرب في أوكرانيا، والنمو البطيء في الصين، وخطر الركود الذي يواجه العديد من شركائها الاقتصاديين، إضافة إلى التوقعات بأن ينمو الاقتصاد البرازيلي عام 2023 بنحو 1% فقط.
مع ذلك، يمكن أن يكون لفوز دا سيلفا مردود اقتصادي جيد. ومن المؤشرات على ذلك، إعلان وزير البيئة النرويجي، عقب إعلان نتيجة الانتخابات، أنه يعتزم تنشيط “صندوق الأمازون”، وهو مبادرة دولية تستهدف دعم جهود البرازيل في مجال منع إزالة الغابات ومراقبتها ومكافحتها. وكانت النرويج أكبر مانح للصندوق؛ حيث تبرعت بين عامي 2008 و2018، بمبلغ 1.2 مليار دولار للمبادرة التي توقفت عام 2019.
4- تنامي حدة الاستقطاب الدولي: ستتعلق واحدة من المعضلات المهمة التي سيواجهها دا سيلفا في أجندته الخارجية بتحديد موقف البرازيل من الحرب في أوكرانيا. لقد كان بولسونارو مؤيداً قوياً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لكن دا سيلفا كانت تربطه أيضاً علاقة جيدة ببوتين خلال فترة ولايته. وسيتعين عليه أيضاً أن يؤسس مكانة دولية مرموقة للبرازيل بعيداً عن التنافس المتصاعد بين الصين والولايات المتحدة. وبوجه عام، من المُرجح أن تكون العلاقات الخارجية للبرازيل مدفوعة بالمصالح البرجماتية المتبادلة مع شركائها الدوليين.
وختاماً، يمكن القول إن الرئيس البرازيلي المنتخب حديثاً سيكون عليه التعامل مع العديد من الملفات والقضايا الشائكة، في بلد يعاني من عدم المساواة الفادح ولا يزال يكافح من أجل التعافي من جائحة كوفيد–19، كما سيواجه أيضًا أمة ممزقة بشدة وكونجرس معادياً وقضايا بيئية ملحة واقتصاداً مترنحاً، ومع ارتفاع معدل الرفض الشعبي لشاغلي المناصب السياسية فإنه ليس هناك مجال كبير للخطأ أمام الرئيس الجديد.