• اخر تحديث : 2024-07-01 12:23
news-details
قراءات

ما أبعاد الاتفاقية الأمنية الجديدة بين اليابان وأستراليا؟


في زيارة رسمية لأول مرة منذ عام 2018، عقد رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا، يوم 22 أكتوبر الفائت، جلسة مباحثات مع نظيره الأسترالي أنتوني ألبانيز في مدينة بيرث بغرب أستراليا، أشاد خلالها الجانبان بالعلاقات الاستراتيجية بين الدولتين، التي وصلت إلى مستوى جديد غير مسبوق، ودفعت زعيمَي البلدين إلى توقيع اتفاقية أمنية جديدة تمتد إلى عشر سنوات. وتهدف الاتفاقية إلى مواجهة تصاعد النفوذ الصيني، خاصةً في منطقة الهندو–باسيفيك، فضلاً عن تبادل المعلومات الاستخباراتية، وإجراء المناورات العسكرية المشتركة، لا سيما التعاون في مجال الأمن السيبراني؛ الأمر الذي من شأنه تعزيز التعاون بين الجانبين في مختلف المجالات خلال الفترة المقبلة، وفي مقدمتها المجال الأمني، في ظل اشتراك البلدين في تحالف “كواد” الرباعي مع الولايات المتحدة والهند، ومجالا الطاقة والغذاء على خلفية التداعيات السلبية للحرب الأوكرانية.

مضمون الاتفاق

تأتي الاتفاقية الأمنية الثنائية الموقعة بين الدولتين في وقت يعكس الآفاق الأمنية المتدهورة لمنطقتهما، مدفوعة بمجموعة من التهديدات الأمنية التي تتطلب المزيد من الجهود الحثيثة فيما بينهما من أجل العمل على مواجهتها، وبناء عليه يمكن قراءة مضمون تلك الاتفاقية على النحو التالي:

1تبادل المعلومات الاستخباراتية: قد لا تتمتع كل من أستراليا واليابان بعملاء استخبارات في الخارج أو وكالات تجسس مكافئة وعلى قدم المساواة مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) وجهاز الأمن الفيدرالي الروسي (FSB) وغيرهما من وكالات الاستخبارات الرئيسية، بيد أن لدى البلدين قدرات استخباراتية هائلة للإشارات وأدوات التنصت الإلكترونية والأقمار الصناعية العالية التقنية التي توفر معلومات استخباراتية لا تقدر بثمن عن الخصوم، ومن ثم يسعى الجانبان إلى استغلال قدراتهما الاستخباراتية بهدف مواجهة الأخطار الأمنية ذات الاهتمام المشترك.

2إجراء تدريبات عسكرية مشتركة: لأول مرة بموجب هذا الاتفاق، ستجري القوات المسلحة الأسترالية وقوات الدفاع الذاتي اليابانية تدريبات مشتركة في شمال أستراليا، وهي منطقة تستضيف أيضاً قوات أمريكية؛ إذ يستند هذا الاتفاق إلى قيام الدولتين، في يناير الماضي، بتوقيع اتفاقية الوصول المتبادل بشأن السماح لكل دولة بإرسال قوات عسكرية إلى الدولة الأخرى من أجل التدريب والبعثات الإنسانية إذا لزم الأمر؛ لذلك جاءت الاتفاقية الجديدة لتزيل كافة العوائق التي تحول دون إجراء التدريبات العسكرية المشتركة في أي من البلدين، وهو ما اعتبره زعيما البلدين إشارة قوية موجهة إلى المنطقة بقوة التوافق الاستراتيجي بينهما.

3مواكبة التهديدات الخارجية: تم توقيع أول اتفاق أمني بين الدولتين في عام 2007؛ وذلك حين كان صعود الصين أقل إثارة للقلق، ولكن الاتفاقية ركزت وقتها على قضايا مكافحة الإرهاب، وبرامج الصواريخ والأسلحة النووية لكوريا الشمالية، عندما كانت سياسات بيونج يانج وانتشار الإرهاب هما المصدرين الرئيسيين للتهديدات الأمنية في المنطقة؛ وذلك على خلفية توسع كوريا الشمالية في أنشطتها العسكرية وتهديداتها المستمرة باستخدام أسلحتها النووية ضد الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، ولكن في ظل التوترات الساخنة الراهنة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وجد البلدان حتمية تحديث الاتفاق الأمني المشترك بينهما بشكل أكثر طموحاً، ليشمل الخطر الصيني المتنامي، وتداعيات الحرب الأوكرانية.

4تعزيز التعاون في مواجهة النفوذ الصيني: خلال السنوات الأخيرة، ركزت بكين على إنشاء أكبر قوة بحرية في العالم، وتجميع ترسانة نووية وباليستية على أعتاب اليابان بحجة الحفاظ على الأمن القومي الصيني ضد التهديدات الخارجية، لا سيما التصعيدات الصينية وتهديداتها المتكررة بغزو تايوان التي تعتبرها جزءاً من أراضيها، كما سبق أن تمت مضاعفة حجم ميزانية الدفاع الصينية أكثر من أربع مرات منذ عام 2007، عندما وقعت كانبيرا وطوكيو أول إعلان أمني مشترك لهما، وخلال السنوات الأخيرة تفاقمت التوترات بين الصين واليابان؛ فعلى سبيل المثال تحركت الطائرات الحربية اليابانية 722 مرة للرد على الطائرات الصينية خلال العام الماضي فقط، فضلاً عن ذلك تدهورت العلاقات الصينية–الأسترالية، على خلفية طلب كانبيرا بإجراء تحقيق دولي في وباء كورونا في الصين؛ تلك العوامل قد أكدت أولوية مواجهة النفوذ الصيني المتنامي في العلاقات التعاونية التي تربط بين الدولتين، من خلال تكثيف الجهود المشتركة لمجابهة التحركات الصينية في المنطقة.

دلالات رئيسية

يشير هذا الاتفاق إلى مجموعة من الدلالات التي يمكن الوقوف عليها من أجل فهم طبيعة الدوافع التي حفزت الجانبين على توقيع الاتفاقية خلال الوقت الراهن. ولعل أبرز تلك الدلالات هي:

1تكثيف الاتفاقات الأمنية المضادة للصين: يأتي هذا الاتفاق ضمن سلسلة من الاتفاقات الأمنية التي تم إبرامها إقليمياً ودولياً من أجل تكثيف كافة الجهود المشتركة لمواجهة تنامي الصعود الصيني في منطقة المحيطين الهندي والهادئ؛ فبالرغم من أن هذه الاتفاقية تعد هي الأولى من نوعها التي أبرمتها اليابان مع دولة أخرى غير الولايات المتحدة، فإن من المتوقع أن نشهد اتفاقاً مماثلاً بين اليابان والهند؛ حيث سبق أن اتفق الجانبان على تعزيز تعاونهما الدفاعي خلال محادثات (2+2) الشهر الماضي، وقد سبقته أيضاً مجموعة من الاتفاقيات الجماعية مثل تحالف العيون الخمس الاستخباراتي، والتحالف الأمني الرباعي “كواد”، وتحالف أوكوس الأمني الثلاثي، وغير ذلك من التكتلات الأمنية الموجهة ضد الصين.

2تدعيم الرؤى الأمريكية للمنطقة: ينظر إلى هذا الاتفاق باعتباره خطوة منسقة في ظل توجهات الولايات المتحدة لإثارة تخوفات الصين عسكرياً وتمهيد الطريق لانضمام اليابان إلى تحالف العيون الخمس؛ إذ إن التعاون الوثيق بين حليفي الولايات المتحدة (أستراليا واليابان) لن يؤدي إلا إلى جعلهما نقطة انطلاق للسياسات والرؤى الأمريكية تجاه المنطقة؛ حيث إن القيام بأي انتشار عسكري في مثل هذه المنطقة الحساسة استراتيجياً قد يؤدي إلى هجوم صيني مضاد، وقد تكون واشنطن هي أكبر المستفيدين منه، خاصةً أنها لا ترغب في الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع الصين من أجل تحجيم تحركاتها المتنامية في المنطقة.

3تغير السياسات العسكرية اليابانية: تقليدياً بموجب دستورها الذي ينبذ الحرب، كانت اليابان مترددة في الدخول أو الاستعداد لأي صراع يتجاوز مسألة الدفاع عن أراضيها، بيد أن الأحداث في الجوار الياباني قد أجبرت الدولة على إعادة التفكير في سياساتها السلمية التي تم وضعها في أعقاب الحرب العالمية الثانية؛ إذ كانت طوكيو لا تعمل مع شركاء غير الولايات المتحدة بشأن القضايا الأمنية والعسكرية، ولكن أضحت الآن أكثر رغبة في الانضمام إلى التحالفات الأمنية؛ حيث سبق أن انضمت اليابان إلى التحالف الأمني الرباعي “كواد”، الذي يعد الخطوة الأولى لانضمامها إلى تحالف العيون الخمس القوي لتبادل المعلومات الاستخباراتية بين أستراليا وبريطانيا وكندا ونيوزيلندا والولايات المتحدة، ومن ثم قد تنتهي الاتفاقية الأمنية الموقعة مع أستراليا إلى أن تكون نموذجاً للتعاون مع البلدان الأخرى، مثل المملكة المتحدة؛ إذ تصنع هذه الاتفاقية عهداً جديداً يمكن لليابان أن تشاركه مع دولة أجنبية أخرى غير الولايات المتحدة.

واللافت للانتباه أن هذا التحرك الإقليمي المغاير لليابان تزامن مع تقارير تتحدث عن تخطيط اليابان لإنشاء نظام قيادة مشترك جديد وتدشين منصب قيادي جديد حتى تتمكن وحدات الدفاع الذاتي الثلاثة التابعة لها من التنسيق بشكل أفضل بعضها مع بعض ومع الجيش الأمريكي؛ وذلك بحلول عام 2024. ومن المقرر أن يشرف الضابط المسؤول في المنصب القيادي الجديد على عمليات قوات الدفاع الذاتي البرية والبحرية والجوية اليابانية.

4تعزيز التعاون في مجال الطاقة: تعتمد اليابان على أستراليا في تأمين نحو 40% من احتياجاتها من الغاز الطبيعي المسال، ومن المؤكد أن التعاون الأمني، باعتباره أكثر المجالات حساسيةً في العلاقات الدولية، سيشجع الدولتين على تعزيز أطر التعاون في مجال أمن الطاقة ومواجهة التغيرات المناخية؛ إذ اتفق زعيما البلدين أيضاً على تعزيز الاستثمارات المتبادلة، وتحديداً في قطاع الطاقة النظيفة، خاصةً أن اليابان تعد حالياً المشتري الرئيسي لخام الحديد وللغاز الأسترالي من أجل دعم قطاع التصنيع الياباني، كما تهدف إلى الوصول إلى مزيد من المعادن الأرضية النادرة لدى أستراليا بهدف مساعدتها في مجال الانتقال إلى الطاقة النظيفة، بما في ذلك التوسع في استخدام السيارات الكهربائية؛ إذ تراهن طوكيو على الهيدروجين الأخضر الأسترالي المنتج باستخدام الطاقة المتجددة؛ وذلك في ضوء خطة الدولتين للوصول إلى تصفير انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بحلول عام 2050.

5تنشيط التبادل التجاري بين اليابان وأستراليا: تعد أستراليا سوقاً جاذبةً وأكثر استدامةً لتوريد الغاز الطبيعي المسال والقمح إلى السوق اليابانية الأكثر احتياجاً لهما، خاصةً في ظل التوترات التي تشهدها الساحة العالمية على خلفية الحرب الأوكرانية التي أثرت بشكل كبير على قطاعي الطاقة والغذاء، ومن ثم تعد أستراليا الحليف الأكثر ضماناً واستدامةً للواردات اليابانية في هذين القطاعين؛ الأمر الذي سيشجعهما مستقبلاً على تنشيط حركة التبادل التجاري بينهما، خاصةً بعد الزيادة القوية التي تم تحقيقها خلال عام 2021، حين وصل حجم المعاملات التجارية بينهما إلى 45 مليار دولار، مقارنة بنحو 31 مليار دولار في عام 2020، بنسبة زيادة تصل إلى 45%. كما تتمتع أستراليا بمجموعة من المعادن الهامة ذات الاهتمام الياباني، بما يعد ضمانة لاستمرار توريد تلك المعادن إلى اليابان في حال قطع الصين إمداداتها من معادنها الحيوية لأسباب سياسية.

خلاصة القول: ستشكل الاتفاقية الأمنية الجديدة بداية حقبة جديدة في العلاقات الودية بين كانبيرا وطوكيو خلال العقد المقبل، خاصةً في ظل المصالح والتهديدات الاستراتيجية المُلحَّة التي يواجهها كلا الجانبين، بل ستكون تلك الاتفاقية أيضاً بمنزلة انطلاقة جديدة في دفع العلاقات الثنائية في بقية المجالات الأخرى، وعلى رأسها مواجهة أزمتي الطاقة والغذاء العالميتين الناجمتين عن اندلاع الحرب في أوكرانيا؛ إذ إن من المتوقع أن يستغل الطرفان التقارب الجغرافي النسبي بينهما لتلبية طموحاتهما المشتركة في تطوير علاقاتهما الثنائية، وهو ما قد يتبعه تعاون ثلاثي أعمق مع الولايات المتحدة.